الراحل  ابا بافل  ومقتطفات من الذاكره    

 

 

 

 

شوكت  توسا                 

            في حلول ساعة الفراق يعلن الإنسان مجبرا نهاية قصة حياة وبداية  أخرى من الاسف والحنين و مداعبات المخيلّه مع الذكريات علها تخفف من وقع الأنين.بحكم رابط القرابة بين عائلتي المرحومين ( يوسف توسا) و (قيا بللو) ,ورثنا من خلال محبة المرحومين علاقه ملؤها المحبه والأحترام يمتد تاريخها لقرن من الزمان , فإعتزاز المرحوم قيا بللو بإبن خالته المرحوم يوسف توسا(والدي) الذي كان يبادله عين المشاعر, بعثت هذه الروحيه في الابناء شعورا حتم عليهم إحترام هذه العلاقة وتوطيدها , كان للراحل نوئيل, وهو في مقتبل شبابه دوره المتميزفي توطيد هذه العلاقه بين البيتين , عدا لكونه الإبن البكر في العائله, إنما  ثقافته وحجم مسؤولياته العائليه في ظروف معاشيه وأمنيه تخللتها المتاعب لتصنع منه رجلا يحس بالمسؤوليه, مما جعله من المقربين جدا الى المرحوم والدي يوسف توسا رغم فارق العمر بينهما.

خصوص فقيدنا العزيز ابا بافل, كثيرة هي الشواهد والمواقف العالقه في ذهني , منها التي تذكرني بالمكانه الخاصه التي كان والدي قد منحها للمرحوم نوئيل في  بيتنا وعائلتنا , علماً معروف عن المرحوم والدي تحفظه وتأنيه فيما يتعلق بإقامة الصداقات , قلما كان لنا في عائلتنا مناسبه أو حاله تستوجب المشوره إلا وكان لأبي بافل رأيا او دورا فيها, كانت زياراته للمرحوم والدي الذي كان يمارس عمله (الخياطه)  في البيت بشكل مستمر ,  لأن كلاهما كان يشتاق للقاء الآخر , أتذكر وانا في العاشره من عمري يوم تطوع الفقيد نوئيل للإشراف الكامل على بناء دارنا  في القوش من حفر اساساته الى نقل أثاثنا اليه بعد أن إكتمل بنيانه ,  كما أتذكر جيدا وانا صبي في الثالثة عشر  كنت أجلس في الغرفة الملاصقة لغرفة عمل والدي أستمع الى دردشاتهما المطولـّه حول مواضيع وأمور ثقافيه وتاريخيه وسياسيه ودينيه.لكني لا أتذكر بل  سمعتها نقلا ًعن المرحومة والدتي وعمتي ,علمت منهما بأن وجود أبا بافل في مدينةالموصل عام 1951بسبب الدراسة , كان السبب في بقائي على الحياة , حيث أصابني وقتها مرض  انهك جسمي  وانا طفل عمري سبعة اشهر ,وصل الحال بوالدتي وعمتي الى البكاء ظنا منهم اني قد توفيت واذا بأبي بافل يدخل عليهم في البيت ليرى المشهد المحزن , تحكي الوالده بأنه عندما تأكد من أن قلبي ما زال ينبض هرع الى السوق (شارع نينوىفي الموصل) مخبرا المرحوم والدي بالأمر وأخذ منه بضع دراهم لشراء شيشة دواء (قطاره) ثم عاد راكضا , وحال وصوله للبيت راح ينقط  من قطراتها في فمي  ليتغير وضعي خلال اقل من نصف ساعه كما قالت والدتي وهذا ما أكده المرحوم نوئيل . تقول المرحومة عمتي أنـّو, بأن والدتي نذرتني كي أصبح قسيسا فيما لو كتب لي أن أعيش, عشت والحمد لله والشكر لابي بافل , ومرت السنين واصبحت في عمر الرابعة عشر ,  وذات يوم واجهني المرحوم أبو بافل مستفسرا عن سبب رفضي تنفيذ نذر الوالده لانه كان شاهدا على نذرها, أجبته بدون تردد بأنني عدا كوني لا أرغب الإنخراط في هذا السلك  , ألقيت اللوم الأكبر على عدم تشجيع المرحوم والدي  لهذه الفكره

.بسبب أحداث حركة الشواف 1959 وما تلاها من أضطرابات وعمليات إغتيالات وتهجير أبناء شعبنا من المدينه  , قرر الوالد مغادرة الموصل والإنتقال بالعائله إما الى بغداد او الى بلدتنا القوش, كان الفقيد ابو بافل أحد المشجعين لخيار العودة القوش لأسباب لاقت رضى الوالد ,  بعدها بسنتين  قرر الوالد بناء بيتا لنا في القوش, حيث كان للفقيد نوئيل الدور الرئيسي في الاشراف على البناء والعمال كما أسلفت.

أتذكر  يوم كان الفقيد معلما في  منطقة دهي /عماديه وكيف تركها  بسبب أحداث الشمال , كما أتذكره  يوم كان معلما  في قرية كرسافه, أتذكره كيف كان يتقدم كردوس تلامذته في إستعراض المدارس الرياضي الذي كان يقام في القوش, كان النشاط يشع في قيافته وقامته المنتصبه.

أتذكر تلك السنه اللعينه 1963 أبان أنقلاب شباط, كيف كانت قوات الحرس اللاقومي  تداهم بلدتنا العزيزه القوش تقتل من تشاء بتهمة الشيوعيه وتعذب من تشاء  وتعتقل مثقفيها , وقد أعتقل وقتها المرحوم نوئيل وسيق مع شقيقيه كامل وفيليب الى سجن الموصل مع العديد من زملائهم.

لقد توقف نبض قلب هذا الرجل بعد معاناة صحيه رافقته لأكثر من ثلاث عقود , كانت بدايتها في مطلع ثمانينات القرن المنصرم, حيث أصيب بذبحة قلبيه شلت جسمه نصفيا , لم يكن من طبع  الفقيد إستساغة فكرة الاستسلام  وملازمة الفراش, إذ طابه ان تكون نصيحة الطبيب له أن يتعايش مع مرحلة  ترويض عضلات الساق واليد بتأني وتنشيط الأعصاب بتمارين خفيفه مع إجراء مساج يومي(علاج طبيعي) ,كنت أقرا في وجه الفقيد  إصراره العجيب وتحديه اللامحدود  للعطب الذي أصاب ذراعه وساقه , ولان المرحوم ابو بافل كان يعرف بان ممارستي للرياضه والتدريب قد أكسبتني خبرة في المساج,  لذلك إتفقنا على تنظيم جدول لزيارتي له يوميا وإجراء التمارين والعلاج الطبيعي, فعلا  بدأ حاله يتحسن ببطئ منذ الاسبوع الاول  الى أن اصبح  قادرا على أستخدام ذراعه المعطوب وساقه المشلوله, لكن الذبحه عاودته لاحقا ولأكثر من مره.

 إن كان عــُرفنا الإجتماعي يقضي برثاء المتوفي وذكر محاسنه بعد رحيله ,فكل راحل هو في عين أهله عزيز وبفراقه يخيم الحزن والألم على قلوب ذويه ومحبيه, رحل عنا الأستاذ والأديب والصديق المحب واللبيب أبا بافل قبل شهرين بعد عنائه الطويل من وضعه الصحي الغير المستقر,وها نحن اليوم  نرثيه  ونذرف الدموع على عزيز غادر زوجته وأولاده وأشقائه وشقيقاته  ومحبيه.

ولكن عندما نتحدث عنه كرجل إفتقدنا في غيابه مثالا حيا للإنسان الدؤوب والطموح, قدم لعائلته ولأقربائه ولأمته كل ما إمتلكته أيمانه من خدمات وعصارات افكار من آداب وفنون , يصبح الرثاء أمام  التقييم الحقيقي له  مجرد تعبير عن حاله عاطفيه منكسره تنتاب الأنسان بسبب الفراق وحسرة النفوس في فقدان محب كان قد ملأ عليهم الدنيا.

أما الثناء, وحديثنا عن المربي والأديب نوئيل بللو مثال الإنسان المعطاء  يوم كان موجود بيننا حيّا بمعنى الحياة الصحيح ,ليس في هوائها الذي يتنفسه الجميع ولا بملبسها ومأكلها الذي يمكن ان يكون في متناول الإنسان , إنما في ثراء عطائه المعرفي لأبناء قومه  طيلة حياته  يكون قد قدم لنا الكثير مما عجز العديد من اقرانه عن تقديمه .

  أقول نعم والف نعم , فقيدنا يستحق كل الثناء والتكريم , و كان يستحق ان يرى بنفسه تكريمه أثناء حياته. لذا أشدد على ما قاله الاستاذ سامي بللو في معرض كلمته التي ألقاها في مناسبة تأبين المرحوم في اربعينيته في ديترويت , عندما قال لماذا لا يــُكــَر ّم  مفكرينا وعقلاءنا  وهم أحياء كي يشهدوا رد جمائل أهلهم لما قدموه ؟؟.

 نعم إن حالته الصحيه الغير المستقره,هي التي أجبرته مع زوجته أم بافل الى الاستقرار في امريكا / ميشكان بعيدا عن بلدته القوش التي أحبها وأعطاها الكثير مما لم يعطيه لأحد . كنت في كل زياره اقوم بها الى اميركا, أضع  الفقيد أبا بافل في مقدمة الناس الواجب  علي زيارتهم ,لكنني حزين جدا أنني في آخر زياره لاميركا في أغسطس 2011 لم استطع تأدية واجبي لأسباب خارج أرادتي . 

إن ابا بافل بفكره وعطائه بمثابة حاله إنسانيه جديره بالثناء , والأجدر أن تنهل الأجيال من نتاجاته فهي في نقائها وأصالتها تعكس حقيقة شعب  طالت  معاناته  و كثرت  عذاباته يبحث  اليوم عن لحظة نهوض.

إلى رحمة الله يا عزيزنا ابو بافل  ولذويك ومحبيك العزاء والسلوان.