شباط ... شهر الفداء والإستشهاد

 

الجنرال أغا بطرس … شهيد الأمة الكلدو آشورية

 

 

                                                                     

                                                                        

                                                                     أبرم شبيرا

                                                                               

              مضى شهر شباط ولا ندري إذا كانت مصادفة أم قدر إلهي أن يستشهد البعض من أبناء أمتنا في هذا الشهر والذين خلدهم تاريخنا القومي. ففي الأسبوع الأول منه أستذكرنا بطولة وتضحية شهداء الأجيال المعاصرة: يوسف توما و روبرت بنيامين ويوخنا إيشو الذين أعدمهم نظام الغدر والظلم في بغداد عام 1985. وفي منتصه ذكرنا بكل إجلال ووقار روح التضحية والفداء ونكران الذات لأمير الشهداء مار بنيامين بطريرك كنيسة المشرق الذي أستشهد عام 1918 وحاولنا إستلهام الدروس والعبر من حياته القصيرة المليئة بالتضحيات من أجل أمته، ولكن يظهر بأنه فات علينا أن نذكر جنرال الأمة أغا بطرس الذي هو الآخر أستشهد في الأسبوع الأول من شهر شباط عام 1932 ومن المؤكد بأن هناك الألاف أن لم تكن مئات الألوف الذين أستشهدوا في نفس شهر شباط من أجل الأمة الكلدانية السريانية الآشورية ودخلوا في سجل الشهداء المجهولين. وأكراماً وتبجيلاً لروح جنرال الأمة أغا بطرس نعيد تسطير هذه السطور عن حياته ونضاله ومعاناته وإستشهاده. 

 

 

يعتبر إغا بطرس إيليا البازي رمز من رموز النضال القومي ونجم ساطع في أفق هذه الأمة الصغيرة  تبهر مأثره القومية الخالدة دروب شباب اليوم في مسيرتهم النضالية بالدروس والعبر وتؤهله بطولاته ومشاريعه القومية اعتلاء منصة أبطال التاريخ القومي والسياسي لأمتنا ويستحق أسمى أنواط الشجاعة والتقدير لأنه فعلاً يركن في أعماق قلوب جميع المناضلين السائرين على هدى خطاه ومسيرته التي رسمها بتضحياته ودمائه  من أجل إحقاق حق هذا الشعب في تقرير مصيره القومي بنفسه وفي وطنه الأم بيت نهرين.منذ البداية أدرك جنرال الأمة بأن الحرية والكرامة القومية أشرف وأنبل القيم في حياة الإنسان، وعندما أقترب وقت إثبات ذلك فعلاً وممارسة لم يتردد إطلاقاً في ترك حياة الترف والسعادة الشخصية التي كان يتمتع بها مع عائلته ووظيفته كسكرتير لقنصل تركيا في أورمي،  ولم يبخل إطلاقاً على الأرباح التي كانت تدر عليه من تجارة السجاد كما لم تفتنه حياة الرفاهية في فرنسا وأميركا، فترك كل ذلك من أجل حرية وكرامة بني قومه فامتطى صهوة جواده وحمل بندقيته رافعاً لواء الأمة الكلدو أشورية، الذي كان أول مناضل من أطلق على هذه التسمية المركبة، عالياً من أجل تقرير حقها في بناء كيانها السياسي القومي في أرضها التاريخية. قاد الحركة القومية  وفق مبادئ وقيم جديدة راسياً بذلك منهجاً قومياً تحريرياً في مسيرة النضال القومي، وهي ملحمة قومية معروفة في تاريخنا السياسي المعاصر والتي احتلت صفحات طويلة من كتب التاريخ الحديث، وهي نفس الصفحات التي أثارت أيضاً غيض وحقد العديد من مفكري ومؤرخي النخبة العراقية الحاكمة وأسيادهم الإنكليز ومن لفهم من أعوانهم ، فخصصوا صفحات من الكتب عنه كما احبكوا قصص كاذبة وملفقة عن جنرال الأمة لا لشي إلا لتقليل من مكانة نضاله وتشويه سمعته، قبل قتله وفناءه، وهي المهمة التي فشلوا فيها حيث لم يفلحوا في إزاحته من قلوب أبناء الأمة حتى بعد مماته، بل ظل كما كان يحتل أسمى مكانة وأرفعها في تاريخ السياسي القومي المعاصر. أن جنرال الأمة يعتبر وبحق بطلاً من أبطال تاريخ هذه الأمة وهناك جملة حقائق تؤكد ذلك وتجعله أن يكون بمصاف الأبطال الشهداء، نذكر منها:

1)  - كان أغا بطرس من القلائل الذين تأثروا تأثيراً مباشراً وعميقاً بأفكار الثورة الفرنسية وبمبادئ التحرر والاستقلال القومي وحقوق الإنسان وحق الأمم في تقرير مصيرها وبناء دولتها القومية والتي انتشرت في أوربا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وانتقلت فيما بعد إلى بقية مناطق الشرق الأوسط  بما فيها بلاد آشور. فكانت مشاركة جنرال الأمة في الحروب التحريرية مع جيوش بعض البلدان كفرنسا وروسيا ومن ثم حصوله على العديد من نوط الشجاعة تقديراً لبطولاته وخدماته العسكرية الكبيرة لمبادئ التحرر والاستقلال، تجسيداً لإيمانه بهذه المبادئ والقيم، وليس كما يحاول البعض تزيف التاريخ والحقائق وإلصاق تهم وأكاذيب بحق هذا البطل، فمثله هو كغيره من رجال الفكر والسياسة الأمريكيين الذين شاركوا مع الجيوش الفرنسية أثناء الثورة الفرنسية والحركات التحريرية الأوربية أو الفرنسيين الذين شاركوا أثناء حرب الاستقلال الأمريكي مع الجيوش الأمريكية إيماناً بمبادئ التحرر والاستقلال من الاستعمار البريطاني، فجنرال الأمة لا يختلف عنهم كثيرا إلا من حيث الشهرة العالمية وسعة الانتشار ومن حيث تخليدهم من قبل شعوبهم ودولهم واعتبارهم رموز وطنية لبلدانهم.

2)- أغا بطرس، كزعيم قومي، هو نتاج مخاض جملة ظروف تاريخية تشكل انعطافاً خطيراً في سياق التطور التاريخي لأمتنا وتحولاً جذرياً للمجتمع ظهرت في إعقاب الحرب الكونية الأولى وما بعدها. فعشية انهيار النظام الاجتماعي والذي كان قائماً على بنية تحتية تمثلت في وحدة (العائلة-العشيرة)، خاصة في منقطة هيكاري – تركيا حاليا، كأساس لبنية فوقية انعكست في المؤسسة الدينية والنظام العشائري والذي بدأ بالانهيار عقب مذابح مير بدرخان في هذه المنطقة منذ عام 1843 وتشريدهم من مناطقهم ومن ثم اغتيال المجرم سمكو للبطريرك الشهيد مار بنيامين عام 1918 وما أعقب ذلك من تشتت أبناء الأمة واقتلاعهم من أوطانهم وطغيان الفوضى الفكرية والسياسية على المجتمع . فكان من الطبيعي، وضمن هذه الظروف، أن يبرز زعماء وقادة قادرون على الاستجابة الفورية لمتطلبات الواقع الجديد ولطموحات الأمة التي بدت مقبلة على تحولات جذرية خطيرة بهدف انتشالها من المأساة والفواجع التي حلت عليها ومن ثم توجيها نحو الطريق الصحيح وقيادتها لتحقيق أهدافها القومية وبما تتلاءم مع الظروف الجديدة التي أطلت على أبناء الأمة بعد انهيار نظامهم الاجتماعي التقليدي وعجزه عن مجارات الأحداث الجديدة. فكان أغا بطرس نموذجاً حياً واستجابة طبيعية لمثل هذه الظروف التي فرضت ضرورتها وجود زعماء على المستوى القومي تتحمل مسؤولية بناء البنية الاجتماعية والسياسية الجديدة مختلفة ومتجاوزة في عين الوقت للبنية القديمة وتشكلاتها وضمن أطر سياسية وفكرية شاملة، وهذا ما تمثل في مسعى ونضال أغا بطرس في سبيل إيجاد كيان سياسي قومي مستقل لجميع أبناء أمته.

3)– يعد جنرال الأمة أول زعيم قومي جاوز قولاً وفعلاً الأطر الطائفية الضيقة التي كانت وظلت تنخر بالجسم القومي  وتمزقه أشلاء أشلاء. فكان وبحق عظيماً عندما أدرك هذه الحقيقة وآمن بها وناضل من أجل بناء كيان قومي شامل لكل طوائفه دون تمييز. فبسبب إيمانه القومي الأصيل لم تمنعه "كاثوليكيته" من تبنى الفكر والنضال القومي والتضحية بحياته من أجل أمته الكلدو آشورية ولا كانت عائقاً أمام  الأبطال من مختلف الطوائف الكاثوليكية والنسطورية واليعقوبية وحتى اليزيدية من السير خلفه جنوداً وفداءً لأرض آشور التي رسم أغا بطرس حدود خريطتها بدماء الأبطال ونضالهم لتشمل تلك الخريطة وتضم جميع الطوائف والعشائر والملل دون أي تمييز.

4)- كما يعد بطرس أول زعيم  قومي من خارج المؤسسة الكنسية- العشائرية جاوز في نضاله أطر البنية الفكرية والاجتماعية التقليدية للمجتمع الآشوري في منطقة هيكاري نحو آفاق قومية أشمل وأوسع تتوافق مع المفاهيم الحديثة للقومية وضرورة تجسيد هويتها في كيان سياسي مستقل وخاص بها بعيداً عن كل الاعتبارات الطائفية والعشائرية والنفعية. من هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن يواجه مقاومة أو رفض، ضمناً أو صراحةً، من قبل المؤسسة الدينية – العشائرية ومن النظام الاجتماعي القديم الذي آل بحكم الزمن والظروف الجديدة إلى الجمود وأصبح غير قادر على استجابة واضحة وصريحة ومباشرة وفاعلة للمتطلبات القومية والسياسية للأمة في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الأولى. فمرحلة بروز أغا بطرس، كزعيم قومي على المسرح السياسي، يمكن أن تشكل مرحلة بداية الصراع بين رموز نظام اجتماعي تقليدي يقاتل للحفاظ على زعامته السياسية وتثبيت هيمنته على أوضاع سياسية واجتماعية وفكرية التي كانت سائدة قبل الحرب الكونية الأولى وبين رموز قومية جديدة تسعى لبناء نظام اجتماعي جديد، أي بعبارة أخرى، تمثلت هذه المرحلة بداية الصراع بين القديم والجديد، بين الزعامة التقليدية  المتبنية للفكر القومي التقليدي المستند على بنية دينية - عشائرية من جهة، وبين الزعامة القومية الناشئة والمتبنية للفكر القومي الجديد المستند على مفاهيم التحرر القومي، مع ضرورة أخذ كل من مفهومي القديم والجديد، أو القومي والديني، ضمن سياقهما الزمني والمكاني والظروف المحيطة بهما. وعلى العموم، يمكن اعتبار هذه المرحلة الحد الفاصل بين المجتمع القديم والمجتمع الجديد وبداية نشوء التاريخ السياسي القومي الحديث للأمة.

هذا الصراع الضمني الداخلي الذي لم يؤدي إلى حسم الوضع من قبل أي من الطرفين، أو إلى تعايش متناسق يجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو يتمكن من التوفيق بين التراث والمفاهيم التقليدية وبين مبادئ وأفكار التحرر القومي الجديدة، هو الذي قاد الأمة في نهاية المطاف إلى نهايات مأساوية، لم يكن سبب ذلك ضعف الذات القومية الفاعل فحسب وإنما إلى قسوة وهول الظروف الموضوعية القاسية والظالمة التي أحيطت وفرضت على أبناء الأمة والتي أثرت تأثيراً عميقاً على الذات بحيث حشرتها في زاوية مميتة تمكنت القوى المنتفعة، كبريطانيا، من استغلالها ودفع الآشوريين إلى هاوية الموت والفناء، فكان كل ذلك قد سبب طغيان الفوضى الفكرية والارتباك السياسي على المجتمع وعلى زعامته والتي تجلت فيما بعد في فشلها من استغلال الظروف والفرص المأتية لتحقيق أهداف وتطلعات أبناء الأمة. ولعل فشل الحركة القومية الآشورية عام 1933 والمأساة التي رافقتها في مذبحة سميل تمثل نموذجاً قياسياً في ذلك ومن ثم تواري الحركة القومية لأكثر من عقد من الزمن.

5) – كما يعتبر أغا بطرس أول زعيم قومي يجاهر علناً وصراحة ويعمل أيضاً من أجل بناء كيان سياسي قومي مستقل للكلدو آشوريين في أرض آباؤهم وأجداهم ويناضل نضالا صعباً وحتى يائساً وبالضد لجميع الرغبات الداخلية والخارجية المتضررة من قيام مثل هذا الكيان القومي. فعندما أدرك بأن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بالأمة من جهة، والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والإدارية الضعيفة أو المفقودة أصلاً من جهة أخرى لا تخدم فكرته ومشروعه القومي، اضطر إلى أن يلجأ إلى فكرة وضع هذا الكيان الناشئ تحت حماية أو انتداب إحدى الدول العظمى المتحكمة في المنطقة وكمرحلة تمهيدية لتجاوز الصعوبات القائمة والمخاطر المحتملة وفي وسط جغرافي وسكاني يكتظ بالأعداء التاريخيين المتربصين لفرص الانقضاض على أبناء الأمة وإفناءهم. غير أن خيانة بريطانيا لوعودها المقطوعة للآشوريين وخشيتها من طموحات أغا بطرس القومية، تراجعت عن تأييدها الأولي لمشروعه، خاصة بعد صدور مقررات مؤتمر القاهرة عام 1920 والقاضية بتأسيس دولة عربية في بلاد ما بين النهرين تتكون من الولايات العثمانية الثلاث، بغداد والبصرة والموصل، ونصب فيصل بن الحسين ملكاً على عرش الدولة الجديدة كعربون للعرب عن وقوفهم إلى جانب بريطانيا في حربها ضد الدولة العثمانية.  فوجدت بريطانيا بأن مشروع أغا بطرس في إقامة كيان سياسي قومي للكلدو آشوريين في شمال بيت نهرين يتعارض ويعرقل مشروع الدولة العراقية ويهدد مشاريعها السياسية ومطامعها الاقتصادية في البلاد، فبدأت مع بعض من أتباعها السائرين في فلكها ببث دعايات وأقاويل سيئة عنه من أجل إزاحته من موقع الزعامة الذي أحتله حتى تمكنت في نهاية المطاف من تدبير أمر رسمي لنفيه من أرض الوطن إلى فرنسا لغرض التخلص منه ومن إصراره على استمرار النضال والمطالبة بالحقوق القومية والتي كانت تقلق مضجع الإنكليز كثيراً.

6) – أن الصراع الضمني أو الخلاف العلني بين جنرال الأمة والمؤسسة الكنسية وحاشيتها، نكرر مرة أخرى ونقول بأنه يجب أن يفهم ضمن سياق الزمان والمكان للظروف التي كانت تحيط بالأمة وبمرحلة التحول التي كانوا يمرون بها. أي أنها مسألة طبيعية قائمة في كل المجتمعات الإنسانية المقبلة على تحولات جذرية ويجب أن لا نبالغ فيها ونصورها كأنها كانت عداءاً سافراً لا يمكن حله أو التوفيق بين الجهتين، وهو ما صوره الإنكليز للزعامة الكنسية وبثوا إشاعات بأن "أبن الأرملة"، أي أغا بطرس كما كانوا ينعتونه، ويروجون عنه بأنه لا ينتمي إلى طبقة أو فئة زعماء العشائر"ماليك" وأنه يريد إزاحة البطريرك من زعامة الأمة لكي يحتل مكانه وأن بمشروعه القومي يريد أن يكون زعيماً للآشوريين والكلدان. غير أن من يقرأ التاريخ بقلب صافي وبوعي ثاقب يدرك مدى إخلاص جنرال الأمة للزعامة الكنسية خاصة بالنسبة للبطريرك. ففي عهد أمير الشهداء مار بنيامين، رغم حساسيته المرهفة تجاه المبشرين الكاثوليك الغربيين واستهجان أعمالهم، فأنه كان يعتمد اعتماداً كلياً على إغا بطرس في حملاته العسكرية وكان يعتبره العنصر العسكري القوي والضارب في حماية الآشوريين خاصة من أتباع كنيسته "النسطورية" من اعتداءات الأكراد وهجمات الأتراك، وحتى بعد استشهاد البطريرك مار بنيامين فأن جنرال الأمة لم يفقد موقعه القيادي وقربه للزعامة لكنيسة وحاشيتها بل ظلوا هؤلاء يعتمدون عليه بما فيهم سرمه خانم وأخيها داود المارشمعوني. غير أن الإنكليز وبأساليبهم الثعلبية المعروفة في زرع الشقاق والفرقة تمكنوا بعد الحرب العالمية الأولى من إخضاع الزعامة الكنسية إليهم، بغياب دور البطريرك الطفل مار شمعون إيشاي، لغرض تحقيق مآربهم وعن طريق تخويف الزعامة الكنسية من مشاريع وطموحات أغا بطرس القومية وتصوريها كأنها تهديد لها من شخص علماني كاثوليكي يريد تدمير كنيسة المشرق "النسطورية" لذلك اقنعوهم بأن أبعاده من العراق سوف يخدم مصلحة الكنيسة والأمة. ومع كل هذا، من يقرأ مواقف أغا بطرس ورسائله الموجهة إلى زعامة الكنيسة سوف لا يجد إطلاقاً أي نقد أو معارضة أو تهجم على الكنيسة المشرقية أو على زعامتها أو على بطريركها بل على العكس من ذلك تماماً كان يكن لهم جميعاً احتراماً شديداً ويتعامل معهم بكل لطف وأدب، وهذا ما تثبه الأوراق والرسائل التي تركها بعد وفاته. أن هذا الموقف هو نفسه الذي مارسه الإنكليز في تلك الفترة مع معظم رواد الحركة القومية الآشورية وتحديدا مع المبدع الكبير الشهيد فريدون أتورايا الذين تمكنوا من إيقاع الفرقة والشقاق والكراهية بين زعماء الكنيسة وزعماء الحركة القومية الآشورية وتصوير ذلك وكأنه صراع لا يمكن حله بالتفاهم حول تحديد مصلحة الأمة والكنيسة معاً وكيفية ارتباطهما ارتباطاً عضوياً تتحقق مصلحة كل واحد من خلال تحقق مصلحة الآخر، وأن أي ضرر يصيب الطرف القومي سيصيب الطرف الديني بالنتيجة والحتم والعكس صحيح أيضاً. ومن المؤسف أنه حتى بعد ابتعاد تأثير الإنكليز منذ سنوات طويلة فإننا نجد مثل هذا الفتور وعدم القدرة على التودد والتفاهم وتحديد الحدود بين الكنيسة والمؤسسات القومية والأحزاب السياسية والعمل سوية من أجل تحقيق الصالح العام لأبناء الأمة، وهي المسألة التي يتطلب بحثها في  صفحات طويلة نتركها لفرصة أخرى.

7) – إضافة إلى كون جنرال الأمة عسكرياً بارعاً ومن الدرجة الأولى ومعترف بمهارته القيادية من قبل رؤساء بعض الدول الكبرى وقادتها العسكريين حينذاك، فأنه كان أيضاً سياسياً محنكاً ودبلوماسياً ذكياً.  لقد أدرك الإنكليز منذ البداية بأن مثل هذا الشخص لا ينفعهم بل يضرهم ويضر بسياستهم في العراق لذلك كانوا يكرهون أغا بطرس ويحاولون إبعاده عن موقعه القيادي المؤثر لأنه كان عارفاً وبشكل جيد مناورات الإنكليز في استخدام الآشوريين لغرض تحقيق مصالحهم في العراق، كما كان، بفعل خبرته ومهنته في القنصلية التركية في أورمي واحتكاكه بالدبلوماسيين ورجال السياسة وكثرة تنقلاته بين الدول الكبرى وإتقانه لعبة المناورات السياسية والدبلوماسية، كان دبلوماسياً لا يفوت عليه إلا وأن يحاول الاستفادة من روسيا أو فرنسا أو حتى من بريطانيا لغرض تحقيق مصلحة لأبناء أمته، وكان هذا يزعج الإنكليز ويقلق أعوانهم من الآشوريين لعدم قدرتهم على السيطرة عليه، لهذا السبب حاولوا الإساءة إلى قدراته الدبلوماسية والسياسية وعن طريق تشويه سمعته ووصفه بالمنافق أو النفعي أو الانتهازي،  وهناك ألقاب أخرى أضاف إليها وكرام في كتبه عن الآشوريين مثل الماكر أو المخادع أو الدجال وغيرها من الألقاب السيئة من أجل حط من قيمته ومكانته بين الآشوريين ومن ثم تبرير أسباب نفيه خارج وطنه.

8) – في المنفى، كانت فرنسا بمثابة سجن كبير له يعيق نضاله القومي ويبعده عن ساحة المعركة الذي كان بطلها الحقيقي، لهذا لم يهدأ للسكينة والراحة خاصة بعد انكشاف نوايا الإنكليز  في منح العراق الاستقلال السياسي عام 1932 وتهيئته لاكتساب عضوية عصبة الأمم من دون إيجاد حل منصف للمسألة الكلدو آشورية أو تقييد الحكومة العراقية بقيود وقوانين أو إلزامها بحماية الأقليات. لذلك حاول جنرال الأمة جلً جهده العودة إلى بيت نهرين واللحاق برفاق النضال القومي للحركة القومية الآشورية التي كان قد بدأت بوادرها بالتبلور وتصاعد عنفوانها من جهة، وزيادة سعير حقد النخبة العراقية الحاكمة للانتقام من الآشوريين وسحق مطالبهم بالطرق العسكرية الفاشية من جهة أخرى. أدرك الإنكليز والنخبة العراقية الحاكمة جدية وخطورة وجود أغا بطرس على أرض العراق  وبين الآشوريين المطالبين بحقوقهم  في تلك الفترة الحرجة وما سيكون له من تأثير في تنظيم أو توجيه وقيادة الحركة بالشكل الذي قد يؤثر على مشاريع بريطانيا في العراق. وقد تجلى خوف وخشية بريطانيا من أغا بطرس في رفض القنصلية البريطانية في مدينة بوردو الفرنسية السماح له بالعودة إلى العراق. وعندما أحس الإنكليز والحكومة العراقية إصرار أغا بطرس وبكل السبل والطرق للعودة إلى بيت نهرين واللحاق بالحركة القومية الآشورية المتصاعدة، حاولوا اللجوء إلى أبخس الوسائل وأرذلها لمنعه من ذلك. وعندما أنهار جنرال الأمة في شارع عام بوسط مدينة تولوز الفرنسية في الثاني من شباط من عام 1932  ومات وبشكل مفاجئ من دون وجود أعراض مرضية مسبقة وضمن ظروف غامضة ومثيرة للتساؤل عن سبب وفاته في هذه الفترة الحرجة والحساسة، عند ذاك توجهت أصابع الاتهام إلى الحكومة العراقية والإنكليز وبعض أعوانهم من الآشوريين لتقول بأنه تم تدبير أمر تسميمه وقتله بهدف إسكات صوته ومحو صورته من التاريخ القومي والتخلص منه في مرحلة وصلت ذروة المؤامرة في تقليص وسحق تأثير الوجود الآشوري في العراق إلى مراحلها التنفيذية النهائية. وهذا ما تم تنفيذه فعلاً في عام 1933 في مذبحة  سميل وما أعقبها من مأساة سياسية واجتماعية واقتصادية أثرت بشكل عميق على مسار تطور الحركة القومية الآشورية وأفرزت نتائج سلبية على المجتمع برمته تواصلت لفترات لاحقة. ولكن، إذا كان الإنكليز وأعوانهم في تلك الفترة قد وفقوا مرحلياً في مهمتهم هذه، فإنهم اغفلوا بأن البذور التي زرعها جنرال الأمة وغيره من أبطال التاريخ كانت قد بدأت تتجذر في الأرض وأخذت في الفترات اللاحقة تنمو وتورق وتزهر في ربيع جبال آشور وتثمر أبطالاً وأبطالاً يتبعون خطى جنرالهم الكبير من أجل إعلاء بناء كرمة الأمة العامرة بتلك القيم والمبادئ التي من أجلها أريقت دماء مار شمعون برصباي وماليك شليطا ومار بنيامين وتوما آودو وفريدون آتورايا وآشور بيت هربوت مروراً بدماء وأرواح شهداء العصر يوسف توما ويوبرت بنيامين ويوخنا إيشو وفرنسيس شابو والمطران فرج رحو ووغيرهم لتظل هذه الكرمة العظيمة عامرة.

أغا بطرس، جنرال الأمة هو رمز هويتنا القومية  ورائد من رواد حركة التحرر القومي الكلداني السرياني الآشوري، فإذا كانت أقلامنا وألستنا عاجزة عن وصف مآثره القومية الخالدة، فإن ضمائرنا وعقولنا صاحية ومدركة لمغزى نضاله المستميت ونفهم عناده وإصراره على مواصلة النضال حتى آخر لحظة من حياته، وهو النضال الذي يستلهمه اليوم مناضلون سائرون على نفس الخطى في أرض بيت نهرين  حتى يتم تحقيق الأهداف النبيلة التي كان ينشدها جنرال الأمة في مسيرة نضاله القومي.

   مات واستشهد الجنرال أغا بطرس ولكن ظل وسيظل حياً خالداً في قلوب كل أبناء الأمة الكلدانية السريانية الآشورية المناضلين الشرفاء.

الجبناء يموتون كل يوم … والأبطال يبقون أحياء خالدون