التدليل الزائد

 

 

 

 

 

                                                                         

                                                                                        

                                                                                                            

 

           سهى بطرس هرمز                  

 

     . 

         عندما يزرع الإنسان نبتةٌ ما، فأنهُ كل يوم يسقيها ويعتني ويهتم بها ويقلع كل الأعشاب الضارة التي من حولها لكي لا تضر بها وتخنقها، إلى أن تكبر ويأتي مُوسم حصادها، فيجني ثمار ما غرستْ يداهُ. والإنسان كذلك منذ لحظة الميلاد تبدأ عملية تشكيلهِ وتكوينهِ، وذلك وفقًا لمْا يعيشهُ في حياتهِ من تجارب ومواقف يكتسب منها خبرات تساهم في تكوين شخصيتهِ وإنسانيتهِ. خبراتٌ يكتسب من خلالها أشكال السلوك الإنساني التي تتفق وتتلاءم مع مُتطلبات العيش إلى أن يكبر، وعلى المُحيطين ضرورة فهم وإدراك معنى كيان وحياة إنسان. والطفل عند ولادتهِ، يُولد وهو صفحة بيضاء ناصعة ونقية تنتظر ما يخطُ عليها الزمان والمُجتمع. يُولد في أرض خصبة بكرْ، يتلقف ما يزرع فيها الوالدين والمدرسة والشارع والمجتمع، من تربية وأخلاق وتعاليم وعادات وتقاليد وطبائع، فينمو ويشبْ وهو صورة مُصغرة عن أقرانهِ. وما من أحد يستطيع أن يُعدّ الطفل الأعداد السليم غير أهلهِ وخصوصًا الوالدان، اللذان لهما الدور الأكبر في تشكيل عودَّ أبنائهم لمْا يغرسون في نفوسهم من تربية سليمةٍ وبناءةٍ وليست مُدمرة. وقد قال جوته:" باستطاعتنا أنجاب أطفال على درجة عالية من التربية، لو كان أهلهم كاملين". أي كاملين نفسيَا وعقليًا وأجتماعيًا وتربويًا.

الوالدان والتدليل:

الوالدان عليهما الانتباه إلى أن مرحلة تنشئة الطفل مرحلة مهمة، تتطلب منهم كثيرا من الجهد والصبر والتحمل والعطف والحماية لهذا الكائن الصغير، فهما مسؤولان مسؤولية كاملة عن حياة وكيان إنسان، جاءَ إلى الحياة وهو غريب عنها، جاهلٌ بأمورها لا يعرف شيئًا عنها.

نرى الطفل عند ولادتهِ يستقبلهُ الأهل ويحيطونهُ بالعناية والاهتمام، ويبدأ الوالدان مسؤوليتهما تجاههُ من تنشئتهِ وتعليمهِ وغرس في نفسهِ كل القيم الصالحة. ولكن هناك حالات وبدون أن يشعر الوالدان أو بدون أن يقصدا، ينشئون أطفالهم بطريقة خاطئة ومُبالغ فيها، من خلال فرط تدليلهم الزائد عن حدهِ.  

وهذا التدليل  Pampering لهُ حالاتهِ التي تكون أحيانًا من باب الشفقة وأحيانًا أخرى من عمق حبهم لأطفالهم. ففي مثل هذه الحالة الاستثنائية، وهي حالة كون طفلهم مُعاقًا أو يعاني من مرض ما في مرحلة الطفولة، فالوالدان عندما يران طفلهما بهكذا حال يصعّب عليهما جداً، ويشعران بالشفقة عليهِ، وطبعًا هذا من حقهم، وإن كانا يُدللانهِ فهذا من حقهم أيضًا، ولكن ليس لدرجة لفت الانتباه وإشعارهِ بإعاقتهِ وبأنهُ مُختلف عن أقرانهِ، لأن هذا بالنهاية سيؤثر على نفسيتهِ وكل تصرفاتهِ وسيتولد لديهِ شعور بالنقص والانطواء وفقد الأمل والابتعاد عن المجتمع، لهواجس وخوف ينتابهُ من تعرضهِ للسخرية أو النظرة الدونية لهُ من قبل البعض، وهذا بالطبع لهُ تأثيرهُ مُستقبلاً على الوالدين.  

وهناك من الأطفال من يتوقعون أن تكون كل حاجاتهم وأمانيهم ورغباتهم مُجابة مهما كانت مُستحيلة التنفيذ، وتكون واجبة التحقيق من قبل من يقوم على رعايتهم (الوالدين). بحكم كونهِ صغير ومن عُمق حبهم لهم، يُلبون جميع رغباتهِ وما يريدهُ بدون تردد وفي لحظتها، وخصوصًا إذا كان الطفل الأكبر لوالديهِ أو طفل وحيد في الأسرة، ولكن بالمقابل هم لا يعرفون أنهم بهذه الطريقة يضرون الطفل ولا يفيدونهُ، ويُولدون الأنانية والغرور في نفسهِ وحب الذات وتفضيلها على الآخرين

أي أبٍ وأمٍ يحبون أن يُدللوا أولادهم ويقضون جميع حاجاتهم، ولكن إذا كانت زائدة عن حدها، فهم بهذا يؤذون طفلهم ويولدون سلبية في كل شيء في حياتهِ، لأن كثير من الأطفال الذين تعرضوا لكثير من التدليل الزائد يُعانون من الخوف الشديد والقلق والجُبن! خوف من الأقدام على خطوة في حياتهِ بمفردهِ، خوف من الظلام ومن البقاء وحيداً، ومن قلة الاهتمام والرعاية.....الخ. هذا الخوف يستغلونهُ لصالحهم، لأنهُ بهِ يُمكنهم من الحصول على المزيد من الحب والرعاية من قبل ذويهم، وهذا بدورهِ يستغلونهُ في بناء أسلوب حياتهم وتحقيق أهدافهم.

وهناك من الأطفال من يتظاهرون بالمرض والتعب، لأنهُ بهذا ضامن أن كل طلباتهِ ورغباتهِ تكون مُجابة وبالتالي سيضمن أنهُ سوف يتم تدليلهُ أكثر وأكثر ويصبح مركزاً لاهتمام الجميع! وهنا بهذا سيتحول إلى طفل مُتحايل! يتعلم الحيلة والمُراوغة، وأي شيء يريدهُ سيتعامل بهذا الأسلوب كي يحصل عليهِ، حتى ولو كان على حساب أمكانية والديهِ.  وشخصية الفرد المُدلل تبلغ خطورتها عندما يصل إلى مرحلة المراهقة والبلوغ! وإذا حاول أحد الوالدين المُعاندة معهُ ورفض تنفيذ أحد طلباتهِ، سيتحول إلى إنسان عدواني وانفعالي! ويُصاب بنوبات من الغضب والصراخ وكسر الأشياء والتمرد على كل شيء، ويُصبح التعامل والتفاهم معهُ صعبٌ جداً، لأنهُ مُتعوّد منذُ صغرهِ على الأخذ بدون تعب وعدم الشعور بالمسؤولية، مُتعود على الطلب والآخرين عليهم التنفيذ!   

الوالدان المسكينان كان كل همهم فرحة طفلهم، ولكن بدون قصد جعلوا من طفلهم هذا، إنسانًا يجد صعوّبة في العيش عندما يكبر، لأنهُ تدربَ منذ نعومة أظافرهِ على الأخذ دون العطاء! الوالدان خلقوا إنسان عاجز على الاعتماد على نفسهِ وصنع ذاتهِ وشخصهِ، إنسان فاقد القدرة على الاستقلال بذاتهِ، يُعاني من الخمول وضياع الهدف، يجد صعوبة في التكييف مع ظروفهِ الخاصة، وصعوبة الانخراط والاستمرار في الأعمال. إنسان يكون كل إهتمامهِ نفسهُ وكيف يجعلها مُتميزة ومُفضلة. إنسان أصبح راغبًا في الحصول على المزيد، واتكالي لا يعرف معنى الاعتماد على الذات والمُشاركة والتعاون، فاشلٌ في الحياة، لا يعرف كيف يُسيرها ويُسايرها ويتأقلم معها. وعندما تواجههُ مشكلة، فأن الحل الوحيد أمامهُ هو طلب المُساعدة ممنْ حولهُ (إنسان اتكالي)!

الوالدان خلقوا إنسانًا لا يعرف معنى الحياة، ومعنى المسؤولية، والبعض يكبر ولكن تعاملهُ وتفكيرهُ وتصرفهِ مازال كطفل صغير. إنسان فاشل اجتماعيًا! والوالدان من جانبهم حتى لو كانت لديهم الإمكانيات المفروض أن لا يلبوا جميع رغباتهِ، حتى يتعلم الرضا والقناعة في كل شيء، وأنهُ عندما يكبر ربما الحياة لن تمنحهُ كل شيء مرة واحدة! لأنها تحمل الكثير من الايجابيات والسلبيات معًا. والوالدان المفروض أن يزيدوا من معلوماتهم عن كيفية تنشئة الطفل التنشئة الصحيحة، لأنهُ كلما زادت معلوماتهم زادت قدرتهم أكثر على المساعدة، وأنشئوا إنسان قادر على الاعتماد على ذاتهِ وصقل شخصهِ وإنسانيتهِ كإنسان.