الموقع الرسمي للحركة الديمقراطية الاشورية (زوعا).. the official website of Assyrian Democratic Movement- Zowaa

                                                   قصة قصيرة

 

زهرة الياسمين

 

 

                                 

 

                                     عبد المسيح بدر حنو

              مددتُ يدي إلى حيث جيب سترتي أبحث عن علبة ثقاب, فإذا بيدي تلامس أشياء سرعان ما تناثرت بين أناملي.. إنّها بضع وريقات من زهرة الياسمين يابسة, وبدأت أعبث فيها فإرتعشت كفّي وأطبقت على هذه الزهرات اليابسة.. كانت ليزا تحبّ زهرة الياسمين وقلّما وجدتها خالية منه,وكانت مغرمة به إلى حد بعيد وتتفنّن به وتجعل منه عقداً جميلاً.. عندما إلتقيت بها أوًل مرة كانت ظاهرة من بين كلّ الناس, بجمالها ووقارها وحسن هندامها وقامتها الرشيقة.. وتكاد تكون طفلة بعينيها.. عينا العصفور الفرح وبجسدها العسلي الذي لا تزال أشعة الشمس واضحة عليه.. تعلو وجهها إبتسامة طفولية رقيقة.. نظرت إليها بنظرة مليئة بسحر غريب لم أتلمّسه من قبل في عيني أحد.. نظرة يجتمع فيها الوله المدلّل وقد تعلّقت بهذا الوله فرص العمر. عندما تعرّفت عليها للمرة الأولى لم أستطع السيطرة على يدي كي أمدّها لمصافحتها فإرتعشت في يدها وشعرت ساعتها بأنّي مهزوز, غير واثق بموقفي,أكاد أفقد السيطرة على أعصابي, وبحثتُ جاداً عن كلمة في رأسي أنطق بها.. فضاعت كلّ الكلمات. وفجأة وجدت أنّني أبحث عن كلمات غير التي أعرفها, كلمات تقول أشياءاً جديدة.نظرة تستعمق الجراح وتشفيها معاً, أردتُ أن أحدّد أفكاري في صيغ ما خطرت ببالي من قبل.. أحسّت ليزا بما أنا عليه فراحت تتكلّم بصوتها العذب فبدّدت عني هذه العزلة,إذ كانت كلماتها تصلني كأنّها سمفونية بيتهوفن.. كلمات مملوءة بالثقة ممّا أدخلت إلى نفسي الهدوء والإطمئنان.. لماذا لا تتكلّم؟ وفجأة قفزت الكلمات في رأسي وقلت (أنّني جداً سعيد) وبقينا جالسين لا يعرف أحدنا الآخر سوى القليل إلاّ أنّه ما من شك بأنّها كانت هناك رابطة تفاهم صامت بيننا يحسّها كلّ منّا, ولقد وجدت راحة في مشاركتها هذا الصمت الطارىء والصداقة الخفية,ولقد بدا لي أنّ كلانا لم يحصر تفكيره بمحيط  ضيّق فيطمح إلى الرابطة التي تربط  إمرأة برجل أو ربّما كنّا نتهيّأ إلى الإقتراب من تلك الأفكار.. هكذا بدا لي.. في اليوم التالي ذهبت إلى مرسمي وبدأت أرسم لوحة تمثّل حقلاً من زهر الياسمين وأبدعت بكل ما أوتيت به من الفن بإحدى الزهرات, فخرجت إلى الأنظار وهي آية من الجمال والفن الرفيع.. كانت فكرة مقابلتي لـ (ليزا) لا تزال عالقة في ذهني, وبعد أن إنتهيت من رسم اللوحة أخذت لي موضعاً على الكرسي الذي يقع من قرب باب المرسم المطل على الشارع وبدأت أتأمّل الناس في ذهابهم وإيابهم وهم يتحرّكون كخلية نحل فإستمتعت بمنظرهم الجميل هذا, ولا أعلم كم من الوقت بقيت على هذه الحالة.. وفجأة وقعت عيناي على فتاتين تسيران معاً فتبينت على الفور بأن أحدهما ليزا ووجدتني ودون وعي مني اتجه نحوهما وبادرتهما بالتحية ودعوتهما الى مرسمي..وجدتنا نحن الثلاثة نتجول في المرسم وكانت ليزا تتمعن باللوحات كفنان خبير بشؤون الرسم وتبدي بملاحظات تنم على معرفة وذوق رفيع كما لمت  تنسى أن تثني على الرسوم .. وتوقفت أمام إحدى اللوحات وكأنها تريد أن تشم رائحة الياسمين المرسوم عليها ، ثم استدارت حيث كنت أسير بالقرب منها ، وقالت كان يجب أن تكتب في أسفل الصورة حقل الياسمين وليس بزهرة الياسمين .. فاقتربت منها وهمست بأذنها محاولا عدم سماع أختها،وقلت لها أني أريد هذه الزهرة فقط ..فأدركتْ المغزى وإحمرت وجنتاها واكتفت بابتسامة جميلة..عند انتهاء الزيارة أهديت لها اللوحة..ذكرى زهرة مليئة بالحيوية والحياة الباسمة..زهرة تنضح بالجمال في حقل تحمل اللون والسحر والفن وحسن الإبداع.. سمعت مرّة صوتها في الهاتف تدعوني لحضور دعوة, ولكنّي إعتذرت رغم حبّي لها وتوقي لرؤيتها لإعتقادي أنّ إعتذاري هذا سيزيدها تعلّقاً,ولكن لم أنسى أن أدعوها لزيارة مرسمي.. جاءتني في اليوم التالي وتوقعّت بأنّها سوف تؤنّبني لعدم تلبية دعوتها يوم أمس ولكنّها ما أن إستقرّت حتى شعت بإبتسامة رقيقة على شفتيها المكتنزتين.. إنتابتني رعشة وأنا أستعيد جلال ذلك التسامح العميق الذي خلّفه الصمت لكي أتعرّف.. وكرّرت شكرها على الصورة التي أهديتها لها بالأمس. تكرّر ليزا زياراتها للمرسم كلّما سنحت لها الفرص.. ثمّ تعرّفت بأهلها فوجدتهم على درجة عالية من الثقافة والنضج ممّا شجّعني على زيارتهم بين الحين والآخر.. وبالمقابل هم أيضاً تعرّفوا بأهلي ممّا زادت روابط العرق والصداقة والحب الإنساني الطاهر بيني وبينها.. ذات يوم وجدتنا نحن الإثنين نتسلّق قمة الجبل.. كانت الشمس تقف في العمق غرباً, والجزء الشرقي يقع في منطقة الظل,والأرض المسطّحة المحددة تسطع بلونها الذهبي, وفي الأفق ترى نهايات السماء تختفي بإرتعاش.. كانت البيوت المتناثرة والشوارع والطرقات والأشجار تلامس هاماتها السفح,كلّ الأشياء على الأرض السهلة على مدّ البصر تبدو من فوق ضئيلة, تبدو أصغر من لعب الأطفال, هنا سيارة تتدرّج ببطء, وأخرى هناك أكثر بطء. من إحدى المداخن يتصاعد دخّان, كأنّ الناس يتحرّكون, وكلّما أطلنا على الأرض يبدو جمالها وحيويتها,ولكن المنطقة صغيرة,فبالتأكيد يبدو كلّ شيء متحرّكاً ويعطي إنطباعاً أكثر واقعية ومن هنا ينظر إليها المرء وكأنها من كوكب آخر. في أحد الأيام إتّفقنا على رسمها.. كم شعرت بالسعادة بأن أرسم ذلك الوجه الجميل ولأظهر أساريره وفتنة ملامحه. بإمكانك يا عزيزتي أن تتحدّثي بحرية وأنا أرسمك.. ثمّ راح هو يتحدّث بدلاً منها حيث كان بصره مشدوداً بين الوجه ومسند الرسم متجوّلاً بين الإثنين. أينبغي لنا أن نخفي الحب كما نخفي ملعقة فضّة عن أنظار معروفة بالسرقة؟. الحق هو أن لا نخفي الحب هكذا دائماً ما يعرفه أيّ إمرء.. (ما كان علينا لنخفي الحب هكذا دائماً) أعاد القول ثانية (أسأل نفسي كيف يمكن للمرء أن يمجّد الجزء الروحي والسماوي من الحب, إذا إحتقرنا الحب الدنيوي وحرمناه إستفزينا منه إذن لن يصبح الجزء فحسب بل الكل كذباً). بعد أن أنهى الرسم ووضع اللمسات النهائية على اللوحة.. قال لها أترغبين بالتطلّع إليها؟.. نهضت بصمت وتقدّمت منه ثمّ وقفت أمام اللوحة.. (هل تسمحين لي بإهدائك اللوحة يا عزيزتي)؟. (قالت كلا فنحن سنعلّقها بالكنيسة).. أدار نفسه نحوها إبتسمت لحظة تطلّعت من نافذة إلى نافذة أخرى ثمّ وجّهت قولها بقصد:- (من الأفضل أن نختار لمنزلنا ستائر تناسب ألوان اللوحة) إن كان هذا يناسبك.. نظر إليها بعينين ثابتة فتمتم مع نفسه وهو يمسك يدها هل حقاً أنا معجب بها كثيراً؟.. وكثيراً ما نبع من ضميري هذا السؤال الصامت ونبعت معه إجابته (حتماً) وإلا لما رسمتها بهذا الشكل الرائع الذي فيه كثير من الإبداع والفن.. وهكذا وجدتني أرسم لها أجمل صور وكانت تساعدني في عملي هذا, وكنّا نقرأ سوية الكتب ونتناقش في فحواها ونتعاون على إختيار الأحسن والمفيد منها.. ووجدتها على فطنة كبيرة وسليمة في الإختيار هذا.. وكانت يوماً بعد يوم تزداد مكانتها في قلبي وعقلي لأنّها كانت في كلّ يوم تكشف عن سرّ جديد عن مداركها وثقافتها.. وصارت جزءاً لا يتجزأ من حياتي حتى أنّ أقلّ حادث كان يصيبها كان لي كمفاجأة وأحسستُ كأنّ إيمان ساحر يصلني بجوهر الأشياء ويجعلني أتّصل مع اللانهاية وعلقت في جذور هذا الكون وخيل لي أنّ كل ما في الوجود كان ماثلاً أمام ناظري وكلّ ذلك لأنّ ليزا كانت موجودة.. هكذا كانت الأيام بالنسبة لنا كحلم جميل وكأنّنا لا نعيش على هذه الأرض التي لا تخلو من المآسي بل في جنة لا نعرف فيها إلا الحياة السعيدة.. إلى أن جاءت الصدمة.. فقد مرضت ليزا وكنت كلّ يوم أذهب لزيارتها في المستشفى, وطال مرضها.. ولم أنقطع عن زيارتها كلّ يوم.. فنجلس سوية لحظات تطول ونحن نبني الآمال ونخطّط لمستقبلنا.. وفي أحد الأيام وكانت صحّة ليزا قد ساءت وبدأت حالتها بالتدهور وبينما أنا قريب من سريرها سمعت الطبيب يهمس في إذن والدها, ففهمت بأنّ حالتها ميؤوسة ولا أمل من شفائها.. كان الصمت المطبق يلفني في هذه اللحظات الصعبة وأنا أتطلّع من النافذة جال بخاطري الأوقات الممتعة التي عشناها معاً.. كل ما عشناه كان رائعاً والآن يريد المرض أن ينسي كلّ شيء.. يريد أن يمحو آثار الأشياء الجميلة, يريد أن يجعل من شجرة حبنا ذابلة ميتة والأسوأ من ذلك يحاول أن يمنع المستقبل من أن يرى النور.. يريد أن يمحو الماضي وآثاره ويرميه في البئر كدمية القش الصفراء القبيحة, حالما يأتي الربيع, وحالما يبعث كلّ شيء من جديد.. كل هذه الأفكار جالت في رأسي ورجعت إلى المرسم بعد أن أحسستُ أنّ قدماي لا تقوى على حمل جسدي الذي أصبح يترنّم وأحسستُ كأنّ شيئا في صدري يمزّق نفسه وأنّ قشعريرة باردة تدبّ في أعصابي وكان جلدي يتكرمش فوق عظامي.. كنتُ أرد أن أثور.. أن أحطّم شيئاً وضغطتُ على أعصابي بقوّة ودخلت المرسم وإرتميتُ على أحد المقاعد وعلّقت عيناي بالسقف.. ولم أنم كأنّ البركان الذي في صدره يصعد إلى السماء لا يدري به أحد سواي.. وتركت البركان يأخذ بنبض قلبي وهدوئي.. وشحنة كبريائي هل تدري هذه الآنسة كم أصبحت احبّها؟..  كان الصباح فأسرعت إلى الستشفى فما أن دخلتها حتى أن إنتابني شعور لم أشعربه من قبل وخيّل لي بأن أسمع أصوات موسيقى حزينة.. أصوات أوتار رخيمة قادمة من أرجاء بعيدة, جعلتني أحلّق في الخيال مندهشاً.. ودخلت غرفة ليزا وبيدي باقة من زهرات الياسمين كسابق عادتي عند زيارتها لأقدّمها لها فوجدتها نائمة بخشوع وسكون ويدها مطبق على زهره من أزهار الياسمين.. وسمعت أصوات الملائكة وكأنّها تحوم فوق فراشها وهي تعزف سمفونية السماء.. فتسمّرت في مكاني من هول الشعور المهيب الذي تملّكني في تلك اللحظة,وسألت نفسي ماذا جنت هذه الفتاة البريئة التي لم يمتد بها العمر بعد حتى تقف على الأرض وتسير في زحام الحياة ويتعكّر نقاؤها بضجيجها.. لتكون فريسة هذا المرض العضال.. أهي إرادة الله.. نعم أنّها إرادة الله.. الله الحق.. هذا ما تعلمناه من الكتب السماوية.. هو القادر على الحياة والموت والمرض وكلّ شيء.. هو المسؤول عن كل هذا.. فكيف يعاقب ويعذّب الإنسان على ذنب هو غير مسؤول عنه.. ولمجرّد أنّ السماء ظلمته فكان نصيبه العذاب.. لا ألف مرة لا.. لا يمكن أن يكون هذا الله.. إنّ الله يعرف الناس منذ أن خلقهم وهو أرحم بهم من أن يتركهم لبراثم الشر والعذاب.. إنّه الله.. الرؤوف الرحيم.. إنّه الحب وهو السلام.. إذ لا بدّ وأنّ هناك تفسيراً آخر للخير والشر والعذاب..!! إذاً من المسؤول عن كل هذا؟.. القدر.. القدر.. كم أنت مسكين أيّها القدر.. كلّ شيء في حياتنا أصبح القدر سيء.. وما هو القدر هذا؟.. إنّه شيء خارج عن إرادتنا يحدث في الغالب دون أن يكون لنا سابق معرفة به.. ولكن يا ترى ما هي ماهيته؟.. ولماذا يحدث؟.. ولو لم يكن القدر كيف كان هذا الكون؟.. هكذا سيظلّ الإنسان حبيس نفسه.. سيعيش وعمره لا يعرف عمرة نفسه هذه.. ولا يرى غده ولا يمسك بأمسه.. أنّه لا يستطيع أن يرسم لنفسه صورة أبدية يضعها داخل إطار ويعلّقها أمامه ويقول: هذا هو أنا.. أبداً أنا (أنا) غداً وغيره أنا أمس.. أنا اليوم سعيد وأنا غداً نفسه.. أنا اليوم أحب.. وأنا غداً لا أحب.. أنا اليوم أحلم وغداً لا أحلم.. كيف يرسم الإنسان هذه (الأنا).. كيف يرسم نفسه وهو لا يعرفها.. ولا يعرف لها حالاً مستقراً في يوم واحد ولا في دقيقة واحدة..ولا في لحظة واحدة.. إنّ كلّ شيء يمكن أن يحدث لهذه النفس في كلّ وقت.. بل ليس هناك ما لا نستطيع أن نسمّيه اليوم.. كلّ الأيام أمس.. وكلّ الأيام غداً.. لا تكاد تمسك بيومك حتى تجده أمس أو غداً.. وبقيت هكذا جامدا.. بدون أن أبدي أيّ حراك.. أمام جثمان ليزا وكأنّي أسمعها تخاطبني.. هل تذكر يا حبيبي اليراع الذي يضيء دفعة واحدة.. تلك الحشرة الصغيرة المضيئة التي كانت تقف على الشجرة عندما كنّا نسير والقمر غير مضيء وكنا نرقب اليراع.. ولا تمرّ فترة حتى تنطفىء وبعد ذلك لم يبقى شيء غير النجوم وبفترة وجيزة يضىء اليراع بالوهج الذهبي.. أجل كلّ ذلك مثل حبنا الذي أصبح ذكريات.. شعّ ثمّ إنطفأ إلى الأبد.. فإنتظرني يا حبيبي في الدنيا الآخرة.. حتماً سنلتقي ويبدأ شعاع حبّنا بالإنبعاث مرة أخرى كما كانت تفعل اليراع.. وداعاً ليزا.. لقد إنطفأ ما كان مشتعلاً في قلبنا.. لقد تركتيني وحيدا أصارع الحياة, وأنت تعلمين أنّ الحياة من بعدك مستحيلة.. من يفكّر مثلي في هذا الوقت المخيف.. كيف تمشي ساعة اليد؟ كيف يمشي زماني؟ لحظة بعد لحظة؟ ثانية بعد ثانية؟ لا أريد أن أصدّق أنّ الزمان يمكنه أن يحاربني ويمسح مساحات جلدي من جسدي, لا أريد أن أصدق ما حدث.. أعدت باقة الورد إلى حبيبي وأقفلت راجعاً أهيم في الشوارع كالطفل التائه في الشوارع لا نهاية لها.. لا أحد يعطيني عمري ولا أحد يسأل عني.. مجرد كومة من لحم وعظام وذكريات تمشي وتسأل ثمّ تبكي, لا أعرف بالضبط كم أحبتني ليزا ولكني أعرف كم كنت أحبها.. ذلك الحب الخارق الذي فجّر في أعماقي حجم اللوعة واللذة لأيّام غيّرت حياتي كلّها, ثمّ تركتني أتخبّط كيفما إتّفق.. إستريحي يا ليزا ونامي في مرقدك فلا أحد يستطيع أن ينهضك بعد اليوم.. " هذه هي الحياة تمثّلها الليالي على ملعب الدهر نظير مأساة وتنشدها الأيام كأغنية وفي النهاية تحفظ الأبدية كجوهر".