أتموت الأشجار وهي واقفةً … وثم تسقطُ .. أم ؟

 

 

              

       

                                         

                                          يوسف زرا

     تعتبر حركة المجتمع الإنساني كقانون طبيعي، وسنة من سنن الحياة، غير خاضع للمجادلة ولا المزايدة عليه، كما لا يقبل أيضا التعطيل ولا المماطلة والتسويق بغية إبطال مفعوله، لأن آلياته وأجندته هي مكونات حيه  غير مستقرة ولا ساكنة، بل تتحرك وفق ما تمليه المفردات اليومية زماناً ومكاناً، وخاضعة للتغيير والتجدد، وحسب حاجة كل جيل ومجتمع وتحت تأثير ظروف مناخية وجغرافية معينة ، وعوامل اجتماعية واقتصادية وفكرية والتي تتماشى معها الأعراف والقيم المستنبطة من تلك الحركة الديناميكية، وعلى هذا الأساس إن ما يتفاعل ظاهريا في البنية التحتية العريضة للمجتمع. قد يتقاطع كليا أو جزئيا زمانا ومكانا مع ما هو مفروض عليها من قبل الشريحة المتحكمة وصاحبة النفوذ الناتج من جراء توظيفها في غفوة زمنية طويلة بحكم الموروث، دون الرجوع إلى القاعدة العريضة المسلوبة الإرادة والوعي والحق الشرعي في الحياة، لتكون صاحبة الكلمة والاستحقاق الناجز في العيش الكريم والاحترام المطلوب لجنس الإنسان، باعتباره أثمن كائن، وأغلى قيمة خارج المفهوم السوقي من المستغلين والمتضاربين به.

     فإذا كان المجتمع الإنساني منذ القدم قد توصل لإقامة أنظمة اجتماعية واقتصادية وفكرية خاصة عبر مراحل زمنية معينة، فأن التفاعل في مكوناته وعبر الوسائل المتاحة قد تكون بنسب متفاوتة وغير متكافئة ومتقاطعة مع مصالح القلة المتربصة والمتحكمة بالمجتمع القائم عبر الشرعية الزمنية المفروضة كمرجعيات وراثية، سواء كانت دينية وتشعباتها المذهبية، أو علمانية طبقية للنظام القبلي الإقطاعي، والتي تسهل ديمومة البقاء كصاحبة النفوذ الأوسع، والحاصل من الصراع المبطن بين تلك المرجعيات، مستغلة أتباعها كسور للدفاع عنها، والتي لا بد من الاعتراف بأهميتها زماناً ومكاناً كشريحة شرعية وفق المنظور الوراثي الديني والطبقي، وهذا ما كان سائداً لعدة قرون في أوربا بصورة عامة والغريبة منها بصورة خاصة كمرجعيات دينية متحالفة مع مرجعيات طبقة النبلاء والأشراف حتى عصر النهضة الفكرية كثورات اجتماعية واقتصادية والثورة الصناعية منذ أواسط القرن الثامن عشر . والتي أدت إلى إنهاء الشرعيات الموروثة مهما كان نفوذها قائماً على أرض الواقع لأنه إجحاف بحق الإنسان في الحياة وتمثيل مبطن وغير شرعي، ولم تتنازل هذه المرجعيات عن امتيازاتها المذكورة إلا بعد فرض العزلة التامة عليها وإنهاء دورها من قيادة المجتمع كشرعية للنهضة بكل معانيها الحياتية ضمن قانون حركة المجتمع فإذا كان المجتمع الأوربي قد سبق جميع المجتمعات في نهضته الفكرية والصناعية وله الفضل في تحرير القاعدة العريضة المقهورة والمسلوبة الإرادة وكان ذلك قبل عدة قرون، فأن انعكاسه كان بطيئاً على غالبية المجتمعات في القارات الأخرى وله أسباب ومبررات  أدت إلى بعض الجمود وعدم النهوض الجماعي كثورات اجتماعية وفكرية. يرجع كل ذلك إلى قوة المرجعيات المذكورة. وكثرة الصراعات التي كانت ولا زالت قائمة بين مكونات هذه المجتمعات ومنها المذهبية والطائفية والقومية والعنصرية والاثنية وغيرها، وضلت تُنعش هذه الصراعات حتى إلى زمن قريب مما أدى إلى قيام حروب ونزاعات إقليمية وطنية بين مختلف هذه المكونات، إضافة إلى التدخل المباشر من قبل الاستعمار الغربي الذي  مازال قائما رغم تغيير نمط نفوذه من الكولونيالية الى الاقتصاد ، إلا انه ظل يذكي نار الفتنة المتعددة بين هذه الشرائح العريضة والتي ضلت منساقة وبدون إرادة مع التيارات المتصارعة على أرض الواقع وبشكل متنوع ومختلف جغرافيا .

      إننا نعيش مباشرة هذا الصراع الدامي داخل العراق منذ عدة عقود وقد استفحل هذا الصراع في العقد الأخير بسبب الإرهاب المنظم لما يسمى بالقاعدة وكأنها الزلزال المدوي تحت أرضيته وبدون توقف، وما تشهده سوريا منذ أكثر من عامين من الحرب الأهلية بين مجموعة فصائل غير متجانسة دينيا ولا مذهبيا ولا قوميا، وألان في مصر واستقطاب الصراع بين التيار الديني المتطرف صاحب الشرعية القانونية المألوفة في وصوله إلى سد الحكم وما آل إليه الوضع بعد النهضة الثورية لقاعدة المجتمع المصري ووعيه بضرورة المبادرة لإلغاء الشرعية المذكورة لأنها حاصل فترة السبات والغفوة الزمنية الطويلة للشعب المصري، وقد يمتد الصراع إلى حرب أهلية لإصرار التيار الديني المتطرف على شرعية الحكم له وبين الجموع الثورية الناهضة وعدم اعترافها بالشرعية الشكلية، وهذا فعلاً يعتبر عملاً غير مسبوق في العالم الثالث وبهذا الشكل الجامح لإضعاف الشرعية الحياتية للقاعدة التحتية العريضة للمجتمع المصري التي قد تمثل أكثر من ثلاثة أرباع المجتمع إن لم يكن أكثر.

    أخيرا لا بد أن نقول إن موت الأشجار وهي واقفة هو حقيقة واقعية حية متفاعلة لا خمود لها وسقوطها حتمي مهما اشتد الإصرار، إنها مرحلة الانفصال التاريخي بين شرعية الماضي المتهالك على البقاء وأحقية الحاضر في قيادة المجتمع مهما كانت التضحيات.

انه الموت بعيون مفتوحة وهي واقفة، والسقوط المحقق وبدون رجعة ولا سقوط لها وهي واقفة وثم الموت .