حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

( سلسلة مقالات فكرية )

 

                                                    

                                               

                           هرمز طيرو

الجزء الأول

منذ فترة وأنا أراقب التراجع التدريجي في الفكر العلماني (1 )  بين أوساط شعبنا وتتقلص القوى العلمانية ويتهمش دورها ، فلا أدل على ذلك من الانتعاش السريع الذي تشهده الحركات والتنظيمات ذات المرجعيات المذهبية المسيسة للمذهب والدين في انتشارها السريع بين شاباتنا وشبابنا ، ومن التنازلات التي تقدمها الحركات السياسية والمنظمات الأجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية القومية ، كل هذا نجده في الانتشار التدريجي في اللغة السياسية المذهبية والطائفية بما تنطوي عليه مقولات ومعايير على الخطاب الثقافي الفكري ، فليس هنالك أي أستغراب أن نقرأ مثلاً لعدد من مثقفينا ومفكرينا الذين لا تربطهم اي رابط بالفكر المذهبي الطائفي المسيس لا أيديولوجياً ولا فلسفياً ، بأن للطائفية والمذهبية بُعد سياسي ولهما نظام حياة شامل ، بل وأكثر من ذلك فأننا نجد في السنوات الأخيرة تسابق من قبل بعض المنظرين والمثقفين للفكر القومي ( وحدوي وغير وحدوي ) الجديد للتوفيق بين الفكر المذهبي الطائفي والفكر القومي .

إن العوامل وراء تراجع الفكر العلماني بين أبناء شعبنا كثيرة ولا مجال لعرضها الأن ، لأن الهدف من هذا المقال ليس الشرح التاريخي أو السوسيولوجي لهذا التراجع ، إلا أن هنالك في فهمنا عاملاً ساهم بشكل كبير على احداث هذا التراجع ولا بد من ذكره في هذا السياق . هذا العامل يعود إلى أن الفكر العلماني لم يظهر في مجتمعاتنا في سياق حركة فكرية ثقافية نقدية من أجل الوصول إلى فهم أعمق للعناصر المكونة لطبيعة ( القيم  - السياسية – الدين ) لذا فأننا نرى في علمانيتنا بانها كانت علمانية ذرائعية وعلمانية تقليدية ( للغرب ) تقوم على أسس هشة مما جعلها غير قادرة على الصمود في أوقات الصمود امام الأختبار .

لذا فأن الغرض من سلسة هذه المقالات هو أن نبين بصورة منهجية : ما هي الاعتبارات الفلسفية التي يجب أو ينبغي أن تقوم عليها الفكر العلماني ، وما نفهمه من الموقف العلماني ( كما سنوضح في مقال أخر ) هو شيء أبعد بكثير من القول بفصل الدين عن السياسية أو عدم السماح لرجال الدين من التدخل في الشؤون السياسية ، فالعلمانية وحسب فهم وقراءة الحركة الديمقراطية الأشورية لها هي موقف شامل ومتماسك من :

1 – طبيعة العقل .

2 - طبيعة الدين .

3 – طبيعة السياسة .

4 – طبيعة القيم .

لذا فأن المعطيات التي تجعل الموقف العلماني مسوغاً من الوجهة العقلية هي أعمق من المعطيات التاريخية والسوسيولوجية ، ولو أنها معطيات مهمة إلا أن القضية المحورية لهذه المقالات هي أن نبين بأن الانسان قادر ولأعتبارات فلسفية على أن ينظم حياته الدنيوية بأستقلال عن هذه الثقافات الروحية او تلك ، واهم هذه الأعتبارات :

اولاً :  ما هو أبستمولوجي ( 2 ) ويتعلق بطبيعة المعرفة الدينية وطبيعة المعرفة العملية والعلاقة التي يمكن أن تقوم بينهما .

ثانياً : ما هو أخلاقي أو ( ميتا - أخلاقي ) والتي تتعلق بطبيعة القواعد والافكار والاحكام الخلقية .

ثالثاً : ما هو سياسي أو ( ميتا - سياسي ) والتي تدخل في إطار فلسفة السياسة .

رابعاً : ما هو ديني أو ( ميتا - ديني ) وتدخل تحت عنوان فلسفة الدين .

ومن الأشياء التي ينبغي ألا تحصل أي سوء فهم حولها ، هو أننا لا نحاول مطلقاً التوفيق بين الدين والعلمانية بل على العكس سنحاول أن نبين عن طريق العودة إلى الأعتبارات المنطقية والفلسفية والمفهومية ( العقل الخالص ) بأن العلاقة بين الدين والسياسة وعلى مر الأجيال لا يمكن أن تكون إلا علاقة تأريخية خالصة ( أي علاقة جائزة لا ضرورية ) وأذا تمكنا من ذلك ، فهذا يعني نجاحنا في أن نبين : أن الذين يصرون على أن العلاقة بين الطائفية والمذهبية ( المسيسة ) والسياسة هي علاقة ضرورية تفرضها ماهية الطائفة والمذهب .

 الأسئلة المحورية

سنطرح في هذه المقالات مسألة على درجة كبيرة من الأهمية ألا وهي مسألة العلمانية ، وأن الهدف من ذلك هو أن نبين عن طريق اللجوء إلى أعتبارات فلسفية خالصة ( معرفية ومنطقية أو مفهومية) . أن الموقف العلماني هو الموقف الذي لا مفر منه ( أذ اردنا التطور ) من وجهة النظر العقلانية ، وأن مفهوم الحركات السياسية ذات مرجعيات مذهبية أو طائفية مرفوض من حيث المبدأ .

وفي معرض معالجتنا لمفهوم تسويغ العلمانية فلسفياً علينا أن نوضح اولاً مفهوم العلمانية ، وهذا ما سنتعرض له في الجزء الثاني من هذه المقالات . أن الفهم السائد للعلمانية في أوساط البعض من أبناء  شعبنا المثقف وغير المثقف هو فهم سطحي جداً ، لأنه لا ينظر إلى العلمانية من المنظورين المدرجة ادناه :

اولاً : موقف العلمانية من الأنسان والقيم والدين .

ثانياً : موقف من منظور إبيستمولوجي أي موقفاً من طبيعة المعرفة العلمية وطبيعة علاقتها بالمعرفة الدينية .

اذن ، أن القضية أعمق من ذلك بكثير ، أنها قضية فهم العلاقة بين طبيعة الدين وطبيعة الأنسان وطبيعة القيم ، وكذلك الفصل من نوع أعمق من النواحي المعرفية والمنطقية بين الدين والسياسة .  

ومن الأمور التي ينبغي ألا يحصل أي شك أو أي نوع من ألتباس في ذلك ، هو أننا لا نحاول في سلسلة مقالاتنا هذه وكما ذكرنا سابقاً التوفيق بين الدين والعلمانية ، ولا أي منهما الأقرب إلى الصواب ، ولكن بغض النظر عن هذا الموقف أو تلك ، فأن الموقف العلماني يظل الموقف المسوغ عقلياً ، ومع ذلك فمن الضروري التطرق لطبيعة المعارف التي ترتبط بدور الأدلة العقلية من أجل الوصول إلى معرفة من هذا النوع ، وكذلك التطرق إلى علاقة الوحي بالعقل . وسنتناول وسنعالج جميع هذه المعارف ضمن الأسئلة المحورية في المقالات القادمة ما تثيرها هذه الأسئلة التي لا بد من أن تقودنا إلى تزويد

الموقف العلماني بأسس معرفية قوية ، من أجل تسويغ الأطروحة القائلة : أن الفرد قادر على أن يقود شؤونه السياسية والدنيوية بصورة مستقلة ، بالإضافة إلى الفهم بأن العلاقة بين الدين والسياسة لا يمكن أن تتجاوز كونها علاقة تاريخية لا أكثر .

ومن الضروري أن يكون القارىء على اطلاع من أن غرضنا من هذه المقالات ليس التوفيق بين المذهبية والطائفية السياسيتين من جهة والعلمانية من الجهة الأخرى ، لكن هدفنا هو أن نبين بأن هناك اعتبارات فلسفية ومعرفية ومنطقية ومفهومية تشير جميعها بوضوح بأن الحركة الديمقراطية الأشورية تتبنى موقف علماني ، وأن طبيعة هذه الاعتبارات هي من نوع الذي يظهر أن من يحاول الربط بين الدين والسياسة ، فأنه يضع نفسه في شتى انواع التناقضات والمفارقات ، ومن الاعتبارات التي لها اهميتها هي مسألة الفهم الصحيح لمفهوم الأنسان ومدى ارتباطها بمفهوم الاستقلالية المستمدة من الطبيعة العقلانية والأخلاقية والتي تعني استقلالية العقل الانساني بالذات ، ولها بُعد تقوم على اعتبارات معرفية بالإضافة إلى بًعد أخر يتصل بالإرادة وهو ما صار يعرف في ادبيات الفلسفية بالحرية الميتافيزيقية ( 3 ) . ومن المسائل الهامة التي سنوليها اهتمامنا ايضاً والتي نعتقد من أن الحفاظ عليها ضروري لضمان استقلالية الأنسان هو مبدأ ( الحاكمية للمطلق ) الذي يشكل الركيزة الأساسية لفكرهم ( الاعلماني ) ويتعارض مع مبدأ استقلالية الأنسان ، لأن في ( الحاكمية للمطلق ) الذي هو جزء من ماهيتهم لا يقبل التغيير أو التعديل أو حتى النقد من حيث المبدأ ، لأنه فكر مطلق والأنسان ممثلاً بهذه الجماعة يحل محل ( المطلق ) ويصبح المرجع الأخير في كل الأمور الدينية والدنيوية على حد سواء .

                                                              ( يتبع في الجزء الثاني )

الهوامش :

1 – العلمانية :  مفهوم سياسي اجتماعي نشأ ابان عصور التنوير والنهضة في اوربا ، عارض ظاهرة سيطرة الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع ، ورأى ان من شأن الدين أن يعني بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم ونادى بفصل الدين عن الدولة وبالتالي اخضاع المؤسسات والحياة السياسية لإرادة البشر وممارستهم لحقوقهم وفق ما يرون وما يحقق مصالحهم وسعادتهم الإنسانية . ( انظر الموسوعة السياسية المجلد 4 ص179 ) .

( 2 ) إبيستمولوجيا : فرع في الفلسفة يبحث في أصل المعرفة وطبيعتها ومداها ومدارسها المختلفة ، فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس ، والعقليون يؤكدون أن بعض المبادىء مصدرها العقل لا التجربة الحسية . وعن طبيعة المعرفة يعترف الواقعيون أن موضوعها مستقل عن الذات العارفة ، ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلي في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا افكاراً . أنظر الموسوعة السياسية المجلد 1 ص 26 ) .

( 3 ) أن هذا التعبير ( الحرية الميتافيزيقية ) يستعمل للإشارة إلى حرية الإنسان من حيث هي سمة لقدرته الذاتية على الاختيار ، أن هذا الفهم للحرية الميتافيزيقية يميزها عن الحرية بمعناها السياسي والأجتماعي ، فالحرية بالمعنى الأخير منوطة بتوفر شروط مستقلة عن الإنسان – شروط موضوعية ، لا ذاتية من النوع الذي يتيح الفرصة للإنسان لأن يفعل وفق ما يختاره دون إكراه خارجي . من الواضح هنا أن الإنسان يمكن أن يكون حراً بالمعنى الميتافيزيقي دون أن يكون حراً بالمعنى السياسي أو الأجتماعي . ( المؤلف ) .