( سلسلة مقالات فكرية )   الجزء الثالث

 

حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

 

                                                   

                                                                          

                                                                          هرمز طيرو 

               تناولنا في مقالنا السابق ( الجزء الثاني ) الطبيعة المنطقية للمعرفة الدينية وذلك لغرض معالجة السؤال الأهم لأغراض هذه المقالات وهو السؤال المتعلق : هل من الجائز اعتبار المعرفة الدينية هي الأساس الأخير للمعرفة العملية ، ولكن ما ينطبق على الكشف عن الطبيعة المنطقية للمعرفة الدينية لجهة أهميته لغرض معالجة السؤال الأخير ، ينطبق كذلك وبنفس الأهمية على الكشف عن الطبيعة المنطقية للمعرفة العملية ، وأول شيء ننطلق منه لغرض معالجة السؤال الأخير ، هو أن نوضح : هل يمكن لنا أن نشتق المعرفة العملية من المعرفة الدينية ؟ ولكن حيث ذكرنا في مقالنا السابق ، فإنه لا نستطيع أن نبين أمراً كهذا قبل التأكيد من هل أننا نتعامل مع مكونين مختلفين في طبيعتهما المنطقية ، أم أننا نتعامل مع مكونين مختلفين لكنهما ذوي طبيعة واحدة ، فأذا لاحظنا مثلاً إن الأشياء التي تشكل موضوعات المعرفة العملية هي أشياء أو قضايا جائزه وليست قضايا ضرورية ، عند ذلك ستشكل هذه الحالة مانعاً دون اشتقاق قضايا عملية من أية قضايا دينية تتعلق مثلاً بصفات الخالق أو ماهيته ، لأن الصفات الأخيرة كما بينا سابقاً هي ضرورية لا جائزه ، وهذا وحده يبرهن على إن المعرفة العملية لا يمكن أن تجد أساسها أو جذورها في المعرفة الدينية

    إذن ، من الضروري أن نطرح اولاً السؤال وبشكل الأتي : ما هي طبيعة المنطقية للمعرفة العملية ؟ وكذلك من الضروري أن نوضح للقارىء ايضاً عن مفهوم المعرفة العملية والعناصر الأساسية المكونة لهذا المفهوم . فالمعرفة العملية كما سنبين لاحقاً تتكون من أنواع مختلفة من المعارف ، مما يعني أن عناصرها الرئيسة بحكم هذا الاختلاف قد لا تربطها بالمعرفة الدينية علاقة من نوع واحد ، بل علاقات متنوعة ، فأذا اكتشفنا مثلاً : أن المعرفة المعيارية الأخلاقية ( 1 ) والمعرفة العملية التطبيقية هما العنصران الرئيسيان اللذان تتكون منهما المعرفة العملية ، فأن من الطبيعي أن نسأل هنا ما اذا كان الاختلاف بين طبيعتي مكوني المعرفة العملية المذكورين ، ذا اهمية في سياق معالجتنا لطبيعة العلاقة بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية ، علينا وقبل التصدي لهذا السؤال ، أن نوضح مفهوم المعلرفة العملية والكشف عن العناصر الاساسية المكونة لها .

من الضروري هنا أن نؤكد ، من أننا نستعمل التعبير ( مفهوم المعرفة العملية ) وذلك للأشارة فقط إلى المعرفة المطلوبة لتنظيم حياتنا من كافة جوانبها ( السياسية – الأجتماعية – الاقتصادية ) وأن أهتمامنا بهذا النوع من المعرفة أمر يفرضه الهدف من هذه المقالات ، لأننا معنيون في هذه المقالات بالدرجة الأولى بتسويغ الموقف العلماني ، وأهم جانب الذي يجب الأهتمام به وأوضحناه في السابق ،  هو الموقف الإبستمولوجي ( المعرفي ) بمعنى أخر الجانب المتعلق بقدرة الأنسان العَلَماني على الوصول وبصورة مستقلة إلى كيف ينضم حياته الأجتماعية والاقتصادية والسياسية ولأية غاية ، إذن فأن تفضيل الجانب العَلَماني أو تزويده بأسس فكرية وفلسفية يستلزم البرهنة على معرفة الإنسان لكيف ينظم حياته العملية ولأي غاية من وراء هذا التنظيم بعيداًعن المعرفة الدينية .

إذا سلمنا بأن المعنى الذي يعنينا من المعرفة العملية أمر ممكن ، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، ما هي الموضوعات التي تشكل منها هذا النوع من المعرفة ، بمعنى أخر ، ما الذي ينبغي أن نعرفه عندما نحاول أن نعرف كيف ننظم شؤون حياتنا الأجتماعية والسياسية والاقتصادية ؟ ولكي نعطي الإجابة الواضحة لهذا السؤال ، لنحاول اولاً أن نعطي بعض الأمثلة عن الأسئلة التي سوف نطرحها من أجل الحصوال على المعرفة العملية بالمعنى الذي يعنينا ، ومن هذه الأمثلة : ما هي أفضل طريقة يستطيع افراد أو جماعات من المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية في المجتمع هل هي :

اولاً : الديمقراطية التمثيلية .

ثانياً : الديمقراطية المباشرة .

ثالثاً : هل النظام الاشتراكي أمر مرغوب به أم النظام الاشتراكي الديمقراطي .

رابعاً : هل النظام الرأسمالي هو النظام الأفضل في ظل الاسواق الحرة .

خامساً : هل الليبرالية الاقتصادية هي أفضل لضمان الحريات الفردية من الاشتراكية .

سادساً : هل للحرية الأولوية على العدالة الاقتصادية .

سابعاً : هل التعددية الثقافية داخل المجتمع أمر مسموح به وإلى أي مدى .

ثامناً : ما الغاية الأخيرة للمؤسسات الاقتصادية والسياسية والأجتماعية التي يجب أن تشكل على أساسها .

تاسعاً : ما هي الاصلاحات التي يجب احداثها في مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والأجتماعية .  

عاشراً : ما هي أفضل طريقة لضمان إنصاف المنتجين من افراد المجتمع ، وماذا يعني التوزيع العادل للأنتاج وكيف نحققه .

أن قائمة الأسئلة تطول وطرحها مهم جداً لنا في سياق محاولتنا الحصول على معرفة عملية بالمعنى الذي يعنينا هنا . وإذا تأملنا قليلاً في طبيعة الأسئلة المطروحة اعلاه ، سنجد أن هناك شيىء واحداً مشتركاً بينهما ، ألا إنها جميعاً وبلا أستثناء تستهدف معرفة ما الذي ينبغي أن نقوم به في مجال الاقتصادي – الأجتماعي – السياسي ، وبتعبير أخر ، إنها تستهدف معرفة ما الذي ينبغي أن نختاره أو نتبناه من سياسات أو إستراتيجيات أو غايات أو خطط عمل في هذا المجال .

وعن طريق تناولنا مثال بسيط ، سنحاول أن نبين كيف يمكن للمعرفة التي تزودنا بها العلوم الطبيعية أن تكون الأساس لمعرفتنا للوسائل المطلوبة لتحقيق غايات سياسية – أجتماعية – اقتصادية ، ومن هذه الأمثلة على سبيل الجدل لا أكثر : أن إقامة نظام سياسي – أجتماعي تتوفر فيه الشروط التي يتحرر منها الإنسان من الضرورة الاقتصادية ، هي مسألة متاحة للإنسان من حيث المبدأ ، كما أعتقد كارل ماركس أو إن إقامة نظام أجتماعي – سياسي من هذا النوع غير ممكنة بدون توفير قاعدة مادية من نوع معين للمجتمع الذي يفترض إقامة النظام المعني فيه ، لأن تحرير الإنسان من الضرورة الاقتصادية لا يمكن أن يتحقق في ظل اقتصاد الندرة ، ولا يمكن تجاوز المرحلة بدون تطوير قوى الإنتاج إلى الحد الذي يسمح بإنتاج أكثر ما أمكن من ضرورات الحياة وبأقل جهد ممكن . وهذا بحد ذاته يحتاج الحصول على تكنولوجيا متطورة ، ولا يمكن من الحصول على التكنولوجيا المتطورة بدون اللجوء إلى المعرفة التي تزودنا بها العلوم الطبيعية ، إذن ، فهنا نجد كيف يمكن للمعرفة العلمية للطبيعة أن تكون ذات أهمية بالغة في تحديد الوسائل المطلوبة لتحقيق غاية من النوع الأجتماعي – السياسي .

ما يتضح من هذا التوضيح ، هو أنه توصلنا إلى جانب من الجوانب ما تعنيه المعرفة العملية ، ألا وهو الجانب المتعلق بمعرفة ما الذي يجب أن نعمله في المجال السياسي – الأجتماعي – الاقتصادي وذلك لتحقيق غاية من غايات متفق عليها مسبقاً . وفي أمثلة سابقة اقترحنا في سياق تناولنا لهذا الجانب من جوانب المعرفة العملية ، أن حالات كهذه وعندما نكون فيها مدعوين لمعرفة ما الذي نفعله لتحقيق الغايات اعلاه ، هنا لا تستوجب منا سوى الحصول على معرفة علمية تطبيقية ، سواء كانت من النوع التاريخي – الأجتماعي أو من أي نوع أخر . لكن من المفيد أن يطلع القارىء إلى أن هناك حالات ليس في مقدولرنا أن نقرر ما الذي ينبغي أن نفعله لتحقيق غاية متفق عليها دون التصدي مسبقاً لأسئلة معيارية ، لنأخذ مثلاً السرؤال الذي طرحناه سابقاً : ما هي أفضل الوسائل لإنصاف المنتجين ؟ ، وأذا توصلنا إلى فرضية التي تقول أن الوسيلة الأكثر فعالية لإنصاف المنتجين هو النظام الذي تتحقق فيه العدالة الأجتماعية ، وإقامة نظام سياسي – أجتماعي – اقتصادي يحد كثيراً من حرية الافراد ونعني به النظام الاشتراكي ، أو توصلنا  من أن التنظيم الديمقراطي للمجتمع هي الوسيلة الأكثر فعالية لضمان الحريات الاساسية للفرد ، إذن علينا أن نقول في ضوء ما سبق ، بأن هناك تعارض شديد بين الوسيلة المطلوبة لإنصاف المنتجين وتحقيق العدالة الأجتماعية من جهة وبين ضمان الحريات الاساسية للفرد . إذا صح هذا الاستنتاج وما أوصلنا إليه ، إذن هل يمكننا أن نختار وبدون تردد اللجوء إلى الوسيلة المذكورة لتحقيق الغاية المعطاة ، أن الجواب على هذا النوع من السؤال يتوقف على ما أذا كنا نثمن الحرية أكثر من العدالة أو نثمن العدالة أكثر من الحرية ، في هذه الحالة فأن الوضع الذي نواجهه هو يملي علينا أن نتصدى للسؤال المعياري وهو : ما هي الغاية التي ينبغي أن نختارها من بين الغايتين المذكورتين ( الحرية – العدالة ) قبل التوصل إلى قرار بخصوص ما ينبغي فعله على مستوى التنظيم السياسي – الأجتماعي – الاقتصادي .

ولكن من الضروري أن نتطرق ايضاً إلى مسألة لم نوضحها سابقاً ، ألا وهي المسألة المتعلقة بدور المعرفة العلمية في تقرير الغايات ، لأننا ركزنا في بداية المقال إلى دور المعرفة العلمية في تقرير الوسائل المطلوبة لتحقيق غايات معطاة مسبقاً ، إننا نريد أن نعرف مثلاً : أي نظام سياسي نختار وأية غايات أجتماعية ينبغي أن تتحقق من وراء تنظيم المجتمع ، وهل ينبغي أن تكون ملكية وسائل الانتاج لأفراد معينين في المجتمع أم للمجتمع ككل . فلنتذكر هنا أن الغايات التي تعنينا هي غايات كما قلنا سابقاً من النوع الأجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وهي التي يفترض أن توصلنا الاعتبارات المعيارية إلى ضرورة تبنيها هي غايات نختارها لمجتمع معين له ثقافة وظروف معينين ، ويحتل وضعاً معيناً في سياق التطور التاريخي . ومن هنا يتضح أن اللجوء إلى الاعتبارات المعيارية لا يمكن أن تكون كافية لمعرفة الغايات السياسية – الأجتماعية – الاقتصادية التي يجب أختيارها لذا المجتمع أو ذات ، لأن الغايات التي تناسب مجتمعاً معيناً في ظل ظروف ثقافية وأجتماعية وتاريخية معينة ، قد لا تناسب مجتمعاً أخر ، أو حتى المجتمع السابق له . ولا يوجد وعبر التاريخ نظام أجتماعي أو اقتصادي أو سياسي صالح لكل المجتمعات وفي كل العصور ، فأذا كان النظام الديمقراطي المباشر مناسباً لأثينا ( المدينة – الدولة ) مثلاً ، فأنه قد لا يكون مناسباً للأمم الأخرى . وأذا كان بناء المجتمع على أسس اشتراكية علمية يحتاج كما يقول كارل ماركس مثلاً إلى تطور الانتاج إلى أقصى حداً له ، عليه فإن بناء المجتمع على هذا النحو ، له مناسب للمجتمعات التي حدث فيها هذا التطور في قوى الانتاج ، وكذلك فإنه غير مناسب للمجتمعات التي لم تشهد هذا التطور بعد في القوى الانتاجية .

وقد اصبح واضحاً الأن ، من إن معرفة ما هي الغايات السياسية والأجتماعية والاقتصادية لمجتمع معين ، وفي ظل شروط تاريخية وثقافية معينة ، هي معرفة غير ممكنة بدون العودة إلى ظروف واقعية معينة تتصل بوجود هذا المجتمع ، ظروف من النوع السوسيولوجي والتاريخي والثقافي ، فكيف يمكننا أن نعرف ما هو مناسب وما هو غير مناسب لهذا المجتمع أو ذاك ، بدون معرفة الظروف الواقعية لهذا المجتمع ومعرفة الابعاد التاريخية والثقافية والسوسيولوجية ايضاً ، وبما أن المعرفة الأخيرة هي ما تأتي إلينا عن طريق معرفتنا للعلوم الأجتماعية والتاريخية ، إذن فإن العودة إلى هذه العلوم ضرورية لمعرفتنا ما هي الغايات التي يجب أن نتبناها على المستوى السياسي – الأجتماعي – الاقتصادي .

أن المسألة الأخيرة تنقلنا من المعرفة العلمية كمكون أساسي للمعرفة العملية ، إلى المعرفة المعيارية كمكون أساسي أخر لها . فأن نعرف ما نختار تحقيقه من الامكانات المختلفة المتاحة لنا أمر يتوقف كما رأينا سابقاً ، على المثل العليا السياسية أو الأجتماعية أو الاقتصادية التي نتبناها ، والأمر الأخير بدوره يتوقف على ما هي المبادىء المعيارية التي ينبغي الامتثال لها . غير أن معرفتنا لأي مبدأ معياري ينبغي أن نمتثل هي في المقام الأول ، معرفة لما هو مسوغ من المنظور الأخلاقي من بين المبادىء المعيارية المتنافسة . أن المكون المعياري للمعرفة العملية هو إذن في أساسه مكون أخلاقي .

الهوامش :

( 1 ) المعيارية : هو القاعدة والمثل الأعلى والنموذج سواء حددناه على نحو مجرد أو على نحو عيني ، والعلوم المعيارية هي تلك العلوم التي موضوعها الأحكام التقويمية وهي : الأخلاق وموضوعها الخير ، والجمال وموضوعها الجميل ، والمنطق وموضوعه الحق . أنظر موسوعة الفلسفة الجزء الثاني ص 451 .

                                  ( يتبع في الجزء الرابع )