بلاد النهرين التوأمين - مهد الحضارات العريقة

 

 

                                      

 

                                                                                       

              يوآرش هيدو                               

ذلك الذي يسير في المقدمة يحفظ سلامة الرفيق

                        عليه ان يكون يقظاً وينبغي ان تظل عيناه مفتوحتين ،

                                                               إن اراد أن يحرس نفسه      

لينصرك شماش ويحقق رغباتك عسى أن ترى بعينيك ما تنبس به شفتاك .

ليفتح لك كل الابواب الموصدة وليمهد الطريق أمام خطاك عسى أن يأتيك الليل بأخبار سارة ليقف لوكال باندا الى جانبك ويوآزرك في تحقيق أمانيك وكل ما تتوق اليه نفسك .

                                                                    ( من ملحمة كلكامش 2000 ق.م.)

العراق ، أو ( بلاد ما بين النهرين) أي "ميسوبوتاميا" كما دعاه اليونان بلد خصب جداً يسقيه النهران التوأمان الفردوسيان دجلة والفرات اللذان ورد ذكرهما في "العهد القديم" (التكوين 14-10:2). فعلى ضفاف هذين النهرين العظيمين نشأت أولى عناصر الحضارة والمدنية. ويفتخر العراقيون اليوم بكونهم الورثة الشرعيين لتلك الحضارات العريقة من سومرية وأكدية وبابلية وآشورية. لقد لعب السكان القدامى لهذه البلاد الجليلة دوراً قيادياً بارزاً في سياسة وفن وفلسفة ودين وأدب الشرق الادنى. علىهذه الضفاف شيّد أول بيت وكـتب أول حرف وصنعت أول عجلة . ولا يمتلك أي بلد آخر في العالم ماضياً أكثر مجداً وتألقاً وعظمة من العراق.  لقد ورث العراقيون نماذج حضارية رائعة واحداثاً تاريخية جساماً أكثر من أي بلد آخر.  إن فصولاً مهمة من  التاريخ الانساني دوّن من قبل سكان هذه البلاد.  فعلى هذه الأرض المباركة ومن جذور إنغرست عميقاً في مجاهل عصور ما قبل التاريخ ، نمت تلك الحضارات ببطء لتتفتح مع بزوغ شمس التاريخ. وأستمرت تنبض بالحياة على مدى ثلاثة آلاف سنة.  وظلت المراكز الحضارية المتمثلة بالمدن العظيمة مثل أور،  أوروك ، نفر ، أكد ، بابل ، آشور ، نينوى وغيرها تشع بحضاراتها على الشرق الادنى برمته .

 أجل، على هذه الضفاف كان بزوغ فجر الحضارة التي لا تضاهيها في قدمها وعراقتها سوى ، ربما ، حضارة وادي النيل .على هذه الضفاف نشأت وازدهرت مدن عظيمة . جموع من الرجال والنساء سكنوا ها هنا لآلاف السنين وحققوا درجة عالية من البراعة في العلوم والفنون والآداب قروناً عديدة قبل الميلاد.

 ولقد برهنت التنقيبات التي أجريت في خرائب أو مواقع المدن الآشورية والبابلية والسومرية على أن سكان هذه البلاد قد بلغوا درجة عالية جداً من الحضارة وأحرزوا ثقافة متطورة جداً.  كما برهنت تلك التنقيبات وعلى نحو لا يدع مجالاً للشك، على أن العراق كان مأهولاً منذ أكثر من 6000 سنة.

 إن زيارة واحدة لأي متحف من متاحف العالم الشهيرة بما في ذلك المتحف العراقي ، تكفي للبرهنة على وجود الإنسان المتحضر في بلاد ما  بين النهرين منذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد.  لقد كان العراقيون القدامى مزارعين مهرة أوجدوا نظاماً متطوراً للري يدعو للاعجاب حقاً.  لقد شيّدوا مدناً عظيمة وأقاموا هياكل فخمة لآلهتهم العديدة.  وتشير اللقى والتحف الرائعة المحفوظة في المتحف العراقي إلى شغف العراقيين القدامى بالحياة الثقافية.

 إن القيثارة الذهبية الشهيرة والمدهشة، على سبيل المثال، التي أكشفت في (أور) الموطن الاصلي لإبراهيم الخليل، والتي تعرف بــ "قيثارة أور الذهبية" هي برهان ساطع على ما نقول.  كما أكتشفت في العراق أقدم الحواشي التفسيرية للموسيقى المبنية على فهم للنظام الموسيقي.

  لقد كان للعراقيين القدامى حكومات قوية تتمتع بدرجة عالية من الادارة الكفوءة وفن الحكم. وفضلاً عن تقدم فن العمارة ، كانت هناك إنطلاقة كبرى في العلوم  والآداب وشؤون الحرب والتنظيم العسكري.  لقد إستطاع حمورابي، المشرّع الشهير، (1792-1750 ق.م.)، أحد أحفاد سركون الأكدي، أن يؤسس مملكة قوية في ميسوبوتاميا عاصمتها بابل.  إلا أن إهتمام هذا العاهل العظيم لم يقتصر على الفتوحات والانتصارات العسكرية الباهرة ، بل وجّه إهتمامه أيضاً الى الاصلاحات العمرانية ونشر الثقافة والحضارة في جميع أنحاء إمبراطوريته .ومن أبرز أعماله التي كان لها دوي عالمي وخلدت إسمه على مدى التاريخ ، مجموعة القوانين التي عُرفت "بشريعة حمورابي".  تحتوي نصوص هذه المجموعة حوالي (375) مادة قانونية لتنظيم الأسرة والتجارة والزراعة والعقوبات وغيرها. وهي مدونة بتنسيق رائع على مسلة كبيرة من حجر الديورايت الأسود، وهي اليوم محفوظة في متحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية.  كما أكتشف العديد من الوثائق القانونية والتجارية والدينية وغيرها في عهود خلفائه تشير الى أن البلاد بلغت درجة عالية جداً في مضمار الحضارة والمدنية. وكان الانسان العنصر المحوري لهذه الحضارة جنباً إالى جنب القوة العسكرية وتنظيم الجيوش وفن إدارة الدولة والقوانين والفن المعماري وكلها تلقي الكثير من الضوء على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلاد ما ين النهرين. بين مدن ميسوبوتاميا العظيمة تشمخ مدينة نينوى التي كانت واحدة من أهم عواصم الاميراطورية الآشورية .  كانت هذه المدينة الرائعة لزمن طويل القلب النابض للعالم القديم وسيدة آسيا الغربية بلا منازع.  وقد أتخذ العديد من ملوك آشور مدينة نينوى عاصمة لهم.  لقد وردت  أسماء بعض الملوك الآشوريين العظام في الكتاب المقدس.  وهؤلاء هم تغلات فلاسر الثالث ، شلمناصر الثالث ، شلمناصر الخامس ، سركون الثاني ، سنحاريب ، أسرحدون وملك آخر ورد إسمه في سفر عزرا(10:4  ) بصيغة اسنفر الذي يصفه كاتب السفر بــ (العظيم والنبيل).

ومن الغريب حقاً أن آشور بانيبال الذي يعتبره بعض المؤرخين أعظم وأقوى ملك آشوري ، لم يرد له ذكر في الكتاب المقدس.إلا أن مؤرخين آخرين يميلون الى الحدس بان (اسنفر) ما هي إلا صيغة محرفة أو تصحيف لاسم آشور بانيبال. ومهما يكن من أمر فان آشور بانيبال كان فعلاً واحداً من أقوى ملوك آشور وأعظمهم إن لم يكن أعظمهم على الاطلاق. ويتميز آشور بانيبال (626-669) عن غيره من ملوك آشور بولعه بالعلم والمعرفة وتشجيعه للآداب والفنون الى جانب فتوحاته العسكرية . فقد نشطت في عهده حركة التأليف والترجمة  باللغتين السومرية والآشورية ووضعت لها المعاجم والفهارس.

 في منتصف القرن التاسع  عشر ، وبينما كان العالم الاثري الانكليزي  الشهير  الملقب بـ (أبو الآشوريات) ، أوستن هنري لايارد ومساعده العالم الاثري الآشوري هرمز رسّام  يجريان  تنقيباتهما في موقع نينوى ، قادتهما الصدفة الى إكتشاف واحد من أثمن الكنوز في تاريخ علم الآثار.  إن هذا الاكتشاف المدهش الذي لا يُقدر بثمن ، والذي أذهل العالم ، لم يكن سوى المكتبة الملوكية لآشور بانيبال.  فبينما كان لايارد يميط اللثام عن قصر آشور بانيبال الفخم ، قادته تنقيباته الى غرفتين من القصر كانت أرضيتهما مغطاة بالواح من الطين المفخّر نُقشت عليها من كل الجوانب كتابة مسمارية باللغة الآشورية .  كانت هذه الرُقم الطينية هي كتب المكتبة التي جمعها ورتبها ونسقها واحتفظ بها العاهل الاشوري العظيم آشور بانيبال في قصره المنيف الذي دمر قبل عشرين قرناً من تاريخ إكتشافه من قبل لايارد ، على أيدي أعداء قساة ، حاقدين وعديمي الضمير.  وقد شحنت تلك الالواح التي بلغ عددها اكثر من عشري الفاً على الفور الى إنكلترة لتحفظ في المتحف البريطاني .  وكان لفك رموز الكتابة المسمارية على هذه الرُقم أهمية بالغة لانه ألقى ضوءاً ساطعاً على التاريخ المجيد لبلاد ما بين النهرين وحضارتها العظيمة .

  لقد حقق الآشوريون والبابليون وهم شعب واحد لغة وتاريخاً وديناً وثقافة ، تقدماً ملحوظاً في الحرف اليدوية ، وكانوا مهندسين بارعين ، وبالرغم من قلة المواد الضرورية للبناء، فقد قطعوا شأواً بعيداً في فن الريازة.  كما برعوا في فن النحت.  وكانت بوابات قصورهم الملوكية مزينة بالاسود أو الثيران المجنحة العملاقة برؤوس بشرية والتي كان الغرض منها حماية المداخل من الارواح الشريرة .  ويعتقد البعض إنها كانت ترمز الى القوة والحكمة والسرعة. وكانت  الجدران أحياناً تغطى بنقوش نافرة وقد تفوق الآشوريون والبابليون في العلوم وخصوصاً في الرياضيات وعلم الفلك. وكانت  مهارة الفلكيين البابليين مضرب الأمثال.  وكانوا قادرين على ايجاد مساحة المثلث قائم الزاوية والمستطيل وشبه المنحرف تماماً كما نفعل اليوم.  وكانت النظرية التي تنسب الى فيثاغورس والتي مفادها ان المربع المنشأعلى الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين القائمين ، قد أكتشفوها قبل فيثاغورس بزمن طويل.  إلا أن هذين العلمين كانا مقتصرين على الكهنة الذين كانوا ينقلونها بدورهم الى خلفائهم في سلك الكهنوت بعد تدريبهم في مدارس ملحقة بالمعابد.

لقد كان السقوط المفاجئ للامبراطورية الآشورية واحدة من المآسي الكبرى في التاريخ ولم يستطع أي مؤرخ حتى يومنا هذا أن يفسر لنا على نحو مقنع هذا الحدث التاريخي المحيّر.  لقد بلغت الامبراطورية الآشورية أوج مجدها وقوتها وعظمتها في عهد آشور بانيبال . ومع ذلك فان هذه الامبراطورية القوية المترامية الاطراف كُتب لها أن تنهار في غضون سنوات قليلة بعد موت آشور بانيبال. لقد سقطت نينوى العظيمة ، جوهرة العالم القديم ، وكان سقوطها عظيماً وخرابها شاملاً إن الحقد الاسود والحسد القاتل جعل المدينة الشقيقة  المتآمرة والمستاءة دوماً بابل تدخل في حلف مع عدو آشور اللدود - الميديين!  سقطت نينيوى عام  (612 ق.م.). لقد دمّر الغزاة المدينة العظيمة تدميراً شاملاً ونهبوها واشعلوا فيها النيران وأبادوا سكانها . ولم يسلم من الموت سوى أولئك الذين حالفهم الحظ في النجاة من السيوف الدامية للجيوش المتحالفة والهرب الى الجبال الوعرة أو أولئك الذين وجدوا لهم ملاذاً آمناً في القرى البعيدة. هكذا سقطت نينوى العظيمة فخر كل مدن ميسوبوتاميا.الآن إنتقل الملك والسلطان الى الجنوب وفازت بابل بالسيادة مرة أخرى بعد أن ظلت العاصمة الثانية لآشور قروناً من الزمن.  بعد سنوات قليلة من حكم نابوبولاسر الخائن، خلفه إبنه نبوخذ نصر على العرش البابلي.  إستطاع نبوخذ نصر أن يجعل من بابل عاصمة عظيمة لبلاد ما بين النهرين وأجمل مدينة في الشرق بل ، ربما، في العالم القديم بأسره. لقد كان هذا الملك القوي معماراً عظيماً.  فقد كرّس طاقاته لتوسيع عاصمة ملكه وتجميلها . وخلال فترة حكمه الطويلة (562-604 ق.م.) توسعت المدينة توسعاً كبيراً وأقيمت حولها أسوار ضخمة لحمايتها وتحصينها ضد الأخطار الخارجية.

لقد صمم نبوخذنصر على ان يبز أسلافه الآشوريين في فخامة وروعة المباني العظيمة التي شرع الآن بتشييدها.  ففي الزاوية الجنوبية من  المدينة أعاد بناء الهياكل المكرسة للآلهة التي عبدها البابليون منذ زمن بعيد.

 ووسط هذه المعابد شيّد قصره الامبراطوري الفخم بجنائنه المعلقة التي ذاع صيتها في العالم الغربي واعتبرها الاغريق واحدة من عجائب الدنيا السبع للعالم القديم. وأشتهرت بـ "جنائن بابل المعلقة".  كانت هذه الحدائق سطوحاً ومستويات مستطيلة مهد بعضها فوق بعض تتكون من تراب خصيب هو من طمي نهر الفرات.

وكان كل سطح يتجاوز ما هو أعلى منه. وقد زرع على جوانب السطوح وممراتها أشجار النخيل وبينها النباتات الظلية الرائعة العطرة وأنواع من الزهور العابقة بالاريج.  وكانت هذه الجنائن تسقى بماء يسحب من نهر الفرات في أقنية، بآلات مائية خاصة يتناوب في إدارتها عدد من الرقيق حتى يصل الى أعلى طبقة من تلك السطوح ثم ينساب الماء متحدراً من سطح الى السطح الذي دونه.

  وينسب البعض إقامة تلك الحدائق الى الملكة الآشورية شمورامات (سميراميس بحسب اللفظ اليوناني) أو شميرام كما نسميها نحن اليوم، تلك الملكة الفاتنة القوية والشجاعة. ومهما يكن من أمر فان تلك الجنائن المعلقة إستثارت خيال العديد من المؤرخين والكتاب والسياح في الشرق والغرب ولهجوا بجمالها وعظمتها.ويقال أن نبوخذنصر أنشأ تلك الحدائق إكراماً لزوجته الجميلة (الاميرة الميدية) التي كانت تحن الى موطنها الجبلي ذي المناخ المعتدل فأشفق عليها وهي تعاني من قيظ بابل.  لقد أنشأ نبوخذ نصر شارعاً رحباً كان يستعمل في المناسبات الخاصة والاعياد أطلق عليه "شارع الموكب". كان هذا الشارع يمر من خلال بوابة مهيبة سميت "بوابة عشتار" لأنها كانت مكرسة لعشتار إلهة الحب والجمال والحرب.

 وختاماً أقول: إن هذه المقالة الموجزة ليست كافية لاظهار عظمة ومجد وحضارة بلاد ما بين النهرين. بل أن الحديث عن تلك الحضارة يتطلب مجلدات ضخمة عديدة لانها كانت حقاً حضارة بلغت درجة عالية من النضج والشمول. ويدرك الآشوريون اليوم تماماً بانهم سليلو ذلك الشعب العظيم المثابر، الحكيم والنبيل الذي لم يسبقه أي شعب آخر في العالم باسره في بناء الحضارة المزدهرة والمدنية العريقة.  في أعماق قلوبهم وأرواحهم سيظل الآشوريون دوماً فخورين بكونهم أحفاد أولئك الأجداد العظام والاسلاف الأفذاذ الذين كان لانجازاتهم تأثير كبير، لا يمكن نكرانه ، على حضارات الشعوب الاخرى ومنهم اليونان.

 نعم نحن فخورون – لكن دون تكبر واستعلاء – بأولئك الأجداد الشجعان الذين  زرعوا في هذه الارض الطيبة المعطاء بذور الحرية والكرامة والنبل والشهامة، وقبل كل شئ بذور العلم والمعرفة.