المفهوم الفكري للحركة الديمقراطية الأشورية حول العلاقة بين الفرد والمؤسسة

 

                                                                                                                

 

                                                    

                                                        هرمز طيرو

                                                                          

( دور المؤسسة )

       في الكثير من الاحيان يتردد تساؤل بين المهتمين بنظرية التطور وحركة التاريخ حول ( دور الفرد ) ومدى تأثيرأصحاب هذه الادوار في تقدم المسيرة البشرية ، على الرغم من تراجع بعض المبررات وذلك نتيجة التقدم الحاصل في منطق التخصص وغياب الحالة الشمولية والشخصية الموسوعية من ساحة التطور التاريخي للأنسانية ، في حين يقف على الجانب الأخر ، من يعتقد غير ذلك ، حيث يشعرون بأن ( دور الفرد ) سوف يختفي مع تطور السريع للحياة في عصرنا الحالي ، لأن التقنيات الحديثة وتنظيم المجتمعات سوف تصبح مبرراً للانتقاص من :

1 - القيمة العقلية للفرد .
2 - الذكاء الأنساني .
3 - التفوق العقلي . 

ويبدو واضحاً أن دعاة هذه الطروحات يستندون إلى سيطرة مناهج الابحاث المتطورة اولاً ، وإلى تطور طرائق التفكير العلمي ثانياً ، بحيث اصبح التفكير النمطي والمحاكاة المهنية المستقرة كلها عوامل إضافية ، لا تحتاج عملية التطور البشرية إلى نبوغ وتفوق واضحين . والدليل على هذا التوجه هو التقدم الياباني مثلاً في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين ، والذي يعتبر دعماً مباشراً على اصحاب هذا التوجه ، على أعتبار أن تقدم ( العلمي التكنولوجي ) لم يكن نتيجة تقدم ( العبقرية الفردية ) أو بروز تفوق فردي مفاجىء ، بل كان نتيجة

اولاً : تنظيم المؤسسات من خلال تنظيم المجتمع .
ثانياً : المحاكاة العامة للوظيفة المهنية . 

وهذان العنصران اعلاه واللذان قام عليهما التطور الياباني الحديث ، هما اللذان صنع من الدولة اليابانية الفقيرة في الموارد الاقتصادية إلى دولة ذات تأثير واسع في اقتصاديات العالم .
وبالرغم من ذلك فأننا نشاهد وعبر التاريخ كله ، بأن للفرد موقع ودور متميز في الكثير من محطات التطور البشري ، بدءاً من وضع القوانين الوضعية مروراً بكتابة الفلسفات الكبرى والأكتشافات المعاصرة ، إلا أنه بدأنا نشعر في العقود الأخيرة وخاصة بعد ثورة الحاسبات الألكترونية تحديداً ، أن الادوار الفردية أصبحت تواجه تحدياً مختلفاً يتأكد معه يوماً بعد يوم أن العقل البشري متقارب في قدراته التي لا حدود لها ، وأن التدريب المنظم والتعليم الممنهج هما كفيلان لصنع مقومات شخصية قد تتمكن من جعل الادوار الفردية غير المنظمة ضعيفة والتفوق العلمي المظطرب متأخراً .

ولعل الذي جعلني إلى مناقشة هذا الموضوع وفي هذا الوقت بالذات ، هي تلك الرحلة التي قمنا بها كما قلت في الحلقة السابقة إلى الوطن ( العراق ) ومناقشة بعض الطروحات مع الكثير من السياسيين والمثقفين والمفكرين ، حيث طرح قسم منهم مما طرح مقولة ( أن العالم اليوم استطاع من خلال النظام أن يتفوق على العقل والذكاء الفردي ) ويقصد بالنظام هنا بمعنى System وليس Order والفرق بينهما واضح .

ويستطرد هؤلاء من خلال طروحاتهم قائلين : بأننا لو أخذنا بهذه النظرية وبهذا النهج لكان بمقدورنا بقليل من الجهد أن نتجاوز الكثير من المشاكل التي تقف أمامنا ونكون عاجزين في حلها ، إلا أنني تعرضت إلى وابل من الاستفسارات والأسئلة جاء في معظمها من الزملاء والمعارف الذين تصورقسم منهم ايضاً ، بأن في عالم اليوم وعالم الغد لا مكان لادوار الفردية والذكاء الفردي ، لذا يجب علينا أن نسلك إلى عالم شديد التنظيم لا يعبأ بالعبقري أو مفكر أو مبدع ، بل ينظر إليهم بالشك والريبة ، بل وأكثر من ذلك يجب الأستغناء عن طاقاتهم وأبداعاتهم مفضلاً عليهم السير في طريق يحكمه نظام متماسك ودقيق قابل للتطبيق بسهولة وبدون تفكير . وهذا بالتأكيد لم يكن الهدف المقصود خلال الحديث اعلاه ، فالنظام كمفهوم عام ضرورة من ضرورات أي من المجتمعات الحديثة المتطورة ، بحيث لا يمكن الأستغناء عن هذه الضرورة ، لكن في نفس الوقت نشاهد بأن المجتمعات المتطورة في كل العصور قد كرمت العباقرة والعلماء والفلاسفة ، ولم تشهد أي فترة من الفترات التاريخية تهميشاً لهؤلاء إلا في المجتمعات التي تمر في العصور المظلمة وعصور التخلف ، ومما لا شك فيه هو أن أي نظام ( سياسي - أجتماعي ) هو بالضرورة نتاج لجهد مفكر أو عالم أو عبقري وفي الغالب هو نتاج وحصيلة فكرهم وعلمهم وعبقريتهم ، ومن هنا يتضح لنا جميعاً بأن هناك قضية تستحق الدراسة والتحليل ، وهي أن الأنسان من حقه أن يسأل احياناً : هل لم يعد هناك للعبقرية الفردية ضرورة في المستقبل ، وأن الأسماء مثل فولتير وجان جاك روسو وهيجل ( وجورج واشنطن وجيفرسون وماديسون وأبراهام لينكن ) وأديسون وأنيشتاين .. الخ أصبحت جزء من الماضي ، مع العلم أن هذه الأسماء وغيرها قد أحدثت طفرات نوعية على مستوى البشرية في زمانهم وأمتد تأثيرهم لحد هذا اليوم من أجل الارتقاء بالأمم والشعوب . ومع ذلك فإننا قد شهدنا بعد منتصف القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بأن التقدم الحصل في المجال العلمي والمختبري والإكتشافات الباهرة التي حدثت في العالم ، لم تعد منسوباً ومرتبطة بأفراد وشخصيات معينة بقدر أرتباط هذا الجهد المبدع بمؤسسات وشركات كبرى ، وكأنما أصبح قدر العالم اخيراً أن يتعامل مع ما يطلق عليه بالعبقرية المشتركة أو الفكر الجماعي . وفي نفس الوقت وربما سائل يسأل : ماذا عن الأفراد الذين يحققون إنجازات علمية منفردة وينالون عنها جوائز عالمية والتي تعتبر ( جائزة نوبل ) انموذجاً ؟ الجواب هنا بالتأكيد سيكون بأن هؤلاء يعمل معهم فريق عمل كامل يحقق لهم أكتشافاتهم الكبرى ، لذا فأن الأمر يدعونا عند الرد على هذه التساؤلات إلى مراعاة الملاحظات التالية :

اولاً : إن الادوار الفردية في العصر الحديث ستصبح شيئاً مختلفاً عن ماضيها ، لأنها الأن هي جزء من المنظومة الحديثة للبحث العلمي والتي نشأت من التفارب بين الدراسة الأكاديمية والتعليم الصناعي ، حيث أصبحت هذه المنظومة تتلقى دعماً من المؤسسات والشركات العالمية من أجل الأستمرار في البحث في موضوع واحد . لذا فأن مهمة الفرد سوف لن تكون أكثر من وضع الافكار والتوجيهات والخطوط العامة لتجربة جديدة قد تنتهي بإنجاز أو أكتشاف أو أختراع شيىء جديد ، عليه فأن العبقرية ستبقى وتستمر ما بقيت مسيرة الحياة في التاريخ .

ثانياً : إن العقل البشري كان في الماضي ولا يزال هو محرك التاريخ ومسيرة تطوره ، والعبقرية نوع من أنواع التفوق العقلي مما يجعل أعمال صاحبه نقطة مضيئة في تاريخ البشرية .

ثالثاً : إن التحولات التي حدثت خلال العقود الماضية من التشابك في النظم الحديثة ودخول الحاسبات الألكترونية والأنترنيت في حياة الأنسان ، كل هذه التحولات والتطورات لم تقهر العبقرية الفردية ولم تساهم في اختفاءها أو أنزواءها ، بل من المتوقع أن تكون لقدرات العقل البشري الفردية دور كبير لخدمة النظم السياسية والمذاهب الفكرية ، بعد توظيفها وتنظيمها في المجتمع .

رابعاً : كل التجارب البشرية تتحدث بأن الوصول من نقطة ( أ ) إلى نقطة ( ب ) هناك عدد هائل ولا نهائي من المسارات ، إلا أن أفضل هذه المسارات هو الخط المستقيم الواصل بينهما ، ومع ذلك فلا يذكر في التاريخ أسم العبقري الذي أكتشف هذه الحقيقة ، وهذا الواقع يدلنا على إننا يجب أن نغوص في التاريخ وأعماقه بحثاً عن عباقرة مجهولين تأهت اسماؤهم في زحام العصور ، بينما في الحقيقة هم من ساهم في التطور وبناء الحضارة الشاملة ، لذلك فأننا نؤكد على وجود المئات من العبقريات الفردية المجهولة إلى جانب العبقريات المعروفة .

إذن ، فإن العبقرية الفردية والنبوغ الفكري لن يختفيا ، لكن مستوى مساهمة الفرد فيهما سوف يقل ، لأن المعجزة اليابانية كما قلنا سابقاً هي :
1 - جماعية التكوين ( التنظيم الدقيق ) .
2 - أسيوية الفلسفة ( المحاكاة الواعية ) .

عليه فإننا نعتقد بأن البشرية ستواجه في المستقبل القريب عصرأ ستختفي منه العبقريات والزعامات الكبرى ، وسيكون للأنسان البسيط دوراً في تكوين حركة التطور في التاريخ ، ومن هنا فإن معاهد البحث العلمي التي تقوم بالدراسات في حقول ( التدريب العقلي وتنمية الذكاء ) يؤكدون بأن للعقليات المتوسطة سوف تحقق إنجازات مهمة لا تقل تأثيراً عن تلك التي تحققت سابقاً ، عليه وخلال العقود القادمة سوف يكون للعبقريات الفردية ظهوراً واضحاً ، لكن سيكون ظهورها مختلفاً في هذه المرة .

ولعل في هذه النقطة بالذات تبدو ذات مغزى بالنسبة لتطور ونهضة شعبنا الكلداني السرياني الأشوري الحديثة والتي يمكن أن تقوم على :
1 - فكر جديد يتعامل بجدية مع الحداثة والتقدم العلمي .
2 - الأدراك بأن العمل الجماعي قد يحقق نتائج وإنجازات باهرة .

وهناك نقطة أخرى جديرة بالتأمل والتحليل ، وهي أن الاعمال المتميزة التي حدثت في تاريخ شعبنا عبرمسيرته التاريخية لم تكن نتاج عمل فردي لوحده ولا نتاج عمل جماعي لوحده ، إنما هذه الاعمال الكبرى تمت نتيجة التزاوج بين عبقرية الفرد مع عبقرية المؤسسة التي هي العبقرية الجماعية لشعبنا . ومن هنا نستطيع أن نقول : بأننا سوف نواجه مستقبلاً نمطاً جديداً من العبقرية ، وهي العبقرية القائمة على النبوغ الفردي والجماعي المنظم ، وليس النبوغ الفردي والجماعي العشوائي .

أن القضية التي نتطرق لها الأن ليست ترفاً فكرياً ولا سفسطة نظرية ، ولكنها تدخل في صميم التطور التاريخي الذي نشهده اليوم ، كما أنها تعتبر محاولة بسيطة للبحث في العلاقة الديالكتيكية القائمة بين الفرد المؤسسة في ظل قوانين حركة التاريخ التي أفرزتها الثورة العلمية ، ومدى تأثيرها على المعرفة البشرية من النواحي الثقافية والسياسية والأجتماعية والاقتصادية .

أن زيارتي الأخيرة للوطن قد فتحت لي ملفاً يصعب إغلاقه دون الأقرار بأن دور الفرد الملتزم بنهج المؤسسة وأنظمتها سوف لن ينتهي ، ودور المؤسسة ( العمل الجماعي أو الفكر المشترك ) سوف تفتح أبواباً وتتيح المجال لأفرادها الملتزمين بأنظمتها لعبقريات جديدة .