( سلسلة مقالات فكرية )

 

حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

 

    

                                                            

                                                                                                   هرمز طيرو  

   

                                                          ( الجزء السادس )

                                               العقلانية والعلمانية واستقلالية الإنسان 

 

       سنحاول أن نبين في هذا المقال عن العلاقة الجدلية التي تربط بين استقلالية الإنسان ومسألة تسويغ العلمانية والتي ينبغي العمل اولاً على توضيح الابعاد المختلفة للأستقلالية ومن ثم نحاول الوصول إلى المبادىء الأساسية الضرورية لضمان استقلالية الإنسان ، وبعد معالجتنا لهذه المسألة سنقوم  بمعالجة المسألة الثانية ، ألا وهي ضرورة إتخاذ النظام السياسي طابعاً علمانياً وذلك حفاظاً لعدم خرق المبادىء الأساسية المطلوبة لتأمين على استقلالية الإنسان بكافة ابعادها المختلفة .

 

لنعد الأن إلى معالجة المسألة الأولى : ولكن قبل ذلك علينا أن نوضح بأن هناك بعدان أساسيان لاستقلالية الإنسان ويجب التمييز بينهما وهما :

اولاً : استقلالية العقل الإنساني .

ثانياً : استقلالية الإنسان بأعتباره كائناً اخلاقياً .

لذا فالأستقلالية في بعدها الأول هي ما ركزنا عليه في الأجزاء السابقة من هذه المقالات ، وذلك في محاولتنا البرهنة من جهة على أن المعرفة العملية لا تقبل الاشتقاق من المعرفة الدينية ، والبرهنة ومن جهة ثانية على إن المعرفة الدينية ليست ممكنة نظرياً بأعتبارها معرفة عامة ، إلا أذا أخضعنا الوحي أو الادعاءات المؤسسة على الوحي لمعايير العقل ، عليه فإن ما تعنيه استقلالية العقل في ضوء الاعتبارات المعرفية التي لجأنا إليها سابقاً في هذه المقالات ، هو أن لمعايير العقل أولوية مطلقة في الشؤون المعرفية ، فأذا كان تحليلنا صحيحاً في الأجزاء السابقة ، فإن المعرفة بأعتبارها شأناً عاماً ( حيث لا اهمية مطلقاً هنا لمفهوم المعرفة بأعتبارها شأناً خاصاً ) غير ممكنة إلا إذا قامت على أسس عقلانية ، فلا الوحي ولا الحدس ولا أية وسيله أخرى قد يحلو لبعضنا أن يعتبرها كمصدر للمعرفة يمكنها أن تتخذ على أن لها أولوية على العقل ، فكل ادعاء معرفي يقوم على ( حدس أو وحي مزعوم ) يجب أن يوضع على محك العقل ، وإلا فإنه سيبقى مجرد ادعاء ولا يمكنه من التحول إلى معرفة حقة . وهذا يعني بأن للعقل استقلالية تامة على كل ما يقع خارجه ، فلا يمكن اخضاع العقل لأي رقابة سواء كانت دينية أو غير دينية ، ولا يمكن لأية معايير من خارجه أن تكون ذات اسبقية على معاييره مهما كانت نوعها أو مضمونها .

 

إذن ، إن الذي يعنينا هنا من استقلالية العقل ، هي إن استقلاليته ليست فقط بأعتباره عقلاً نظرياً ، بل واستقلاليته باعتباره ايضاً عقلاً عملياً ، لأن وظائف العقل كما صار واضحاً من تحليلنا السابق لا تنحصر في تزويدنا بمعرفة ( علمية للواقع – ومعرفة رياضية للواقع – ومعرفة منطقية للواقع ) وما شابه ذلك ، بل إن للعقل وظيفة معيارية – جوهرية ، أي بتعبير أخر فإنه ايضاً مصدر معرفتنا لما ينبغي أن يكون وكذلك للغايات التي ينبغي أن نختارها وللمثل العليا السياسية والثقافية والأجتماعية التي ينبغي أن نتبناها وللقيم والمعايير التي ينبغي أن نجعلها الأساس لتقييم افعالنا وقراراتنا ، فليست المعرفة النظرية وحدها ( المعرفة العلمية والرياضية والمنطقية ) هي من اختصاص العقل . بل والمعرفة المعيارية ايضاً .

 

قد يتساءل بعض القراء هنا ، لماذا هذا الإصرار على إخضاع الوحي للعقل وليس العكس ، بكلام أخر لماذا لا يكون الوحي هو مرجعنا الأخير في كل الأمور ، بحيث يكون المعيار الأساسي للصدق وهو الذي يتطابق مع الوحي او عدم التعارض مع هذه المعطيات وما شابه ذلك ؟ إن الجواب يتلخص في النقطتين الأتيتين :

 

الاول : حتى لو افترضنا أن العودة إلى معطيات الوحي تعني بالضرورة العودة إلى كلام الكتب المقدسة ، وأنها تتمكن من حيث المبدأ ان تزودنا بكل ما يلزمنا للحسم في كل المسائل ، فإنه لا يمكننا أن نعرف كما بينا في الأجزاء السابقة ، أن هذه النصوص الدينية أو تلك متضمنة في معطيات الوحي إلا إذا اخضعناها لمعايير عقلية مستقلة عنها ، ولكن المشكلة كما هي واضحة من خلال الحجج ، أن البداية المطلقة لنا لا يمكن أن تكون في معطيات الوحي الفعلية ، بل ما يقدم لنا على أنه معطيات الوحي الفعلية ، بكلام أخر إننا لا نبدأ بما نعرف أنه معطى للوحي ، بل في افضل حال بما يبدو أنه معطى للوحي . وللانتقال مما يبدو على أنه معطى للوحي ، إلى معرفة ما هو معطى فعلياً للوحي ، فإننا نحتاج إلى الخروج من هذه المعادلة أي ( الخروج من دائرة الوحي واللجوء إلى أدلة عقلية مستقلة عن الوحي ) .

 

الثاني :  إن المعرفة كما بينا سابقاً هي شأن كلي في الصميم ، ومعاييرها لهذا السبب بالذات هي معايير عامة ، أما الوحي فهو شأن خاص ، مما يعني أنه لا يمكننا أن نقول عن أي اعتقاد يدعي صاحبه على أنه قائم على الوحي إنه يشكل معرفة ، إلا بعد أن يجتاز هذا الاعتقاد امتحان التحقق الكلي . ولكن التحقق الكلي من صدق اعتقاد ما هو بمثابة إخضاع لهذا الاعتقاد لمعايير العقل ، لأن الأخيرة وحدها هي معايير كلية للمعرفة ، فإن هذا يكون اشتراطنا عدم اعتبار اعتقاد ما من اعتقاداتنا على أنه يشكل معرفة ، إلا أذا تبين لنا على أنه لا يتعارض مع ما يدعي شخص ما أنه أوحي له به . لأحظ هنا أن ما نشترطه لا يمكن أن يكون أن الاعتقاد المعني لا يتعارض مع ما أوحي به فعلاً . فكما أوضحنا اعلاه ، هو أننا لا نبدأ بمعطيات الوحي الفعلي ، بل نبدأ بما يبدو لنا أنه معطى للوحي ، إذن فإن ما نشترطه هو عدم إخضاع ما هو عام لما هو خاص ، ولا ما هو كلي لما هو ذاتي ، وأقل ما يمكن أن نقوله في النتيجة الأخيرة ن هو أنها مخالفة لطبيعة المعرفة وبالتالي للعقل . ولن ينفعنا هنا في شيء أن نعدل في الشرط السابق بحيث يصير شرطاً ينص على عدم تعارض الاعتقاد مع ما يدعي شخص نثق به أنه أوحي له ، يمكن لنا أن نمنح شخصاً ما ثقتنا الكبيرة به ، لا بل وحتى ثقتنا المطلقة ، لكن هذا وكما اوضحنا سابقاً لا يحل المشكلة المعرفية ، لأنه قد نجد بيننا مجموعة من الاشخاص تمنح هذه الثقة المطلقة لشخص أخر يدعي غير ما يدعيه السابق ، وهنا تظهر وبشكل واضح وبدون شك ، الحاجة إلى وضع معايير عامة نستطيع على أساسها أن نكشف من يعول على كلامه ومن لا يعول ، وكذلك من يستحق ثقتنا المطلقة ومن لا يستحقها اطلاقاً .

 

إذن في هذه الحالة وفي غياب معايير كهذه ، تصبح مسألة من يعول على كلامه ومن لا يعول ، ومن هو جدير بثقتنا ومن هو غير جدير بها مسألة منوطة بالاعتقادات الخاصة لكل مجموعة من هاتين المجموعتين ، وما دامت المسألة مسألة خاصة بهذا المعنى ، إذن فلا معرفة بعد لمن يوثق بكلامه وادعاءاته ، ولمن لا يوثق بكلامه وادعاءاته ، ولا يمكن من الحصول على المعرفة المطلوبة بهذا الخصوص ، إلا بعد أن نطبق معايير تتجاوز الفروقات بين المجموعتين .

 

يبدو من تحليلنا اعلاه ، هو أن الطبيعة الخاصة للوحي من جهة والطبيعة العامة للمعرفة من جهة ثانية ، هما الأساس اللذان من خلالهما حصلنا على الأولوية للعقل على الوحي ، لأن العقل على المستوى المعرفي هو حلقة الوصل الأساسية بين ( الاعتقاد أن كذا وكذا أوحي به لشخص ما ) وبين المعرفة الفعلية ( أن كذا وكذا أوحي به لهذا الشخص ) وإذا أخذنا في التصور الأن أن كل ما يتخذه أي واحد منا من دون العقل مصدراً لمعرفته ( كالحدس مثلاً ) ينطبق عليه ما ينطبق على الوحي لجهة كونه ذات طابع ذاتي خاص ، عليه فلا بد لنا أن نستخلص من أن للعقل أولوية على الحدس مثلما له أولوية على الوحي ، وهكذا نستنتج أنه لا معرفة يدعي صاحبها أنه استمدها من مصدر غير العقل يمكن اعتبارها على أنها معرفة بالمعنى الحق ما لم نخضع موضوعها لمعايير العقل ، أي ما لم نتحقق من صدق هذا الموضوع بشكل عام . وما دام الرجوع إلى العقل هو الفيصل الأخير في كل الشؤون المعرفية ، إذن ، فإن استقلالية العقل على المستوى الأبستمولوجي تامة ومطلقة .

 

ويجب أن يكون واضحاً أن الاستقلالية التي نعزوها للإنسان ليست هي فقط استقلالية العقل ، بل هي ايضاً استقلالية الإنسان بوصفه فاعلاً اخلاقياً ويتحمل بالتالي مسؤولية أفعاله . وإذا كانت أعتبارات أبستمولوجية معينة ( أي اعتبارات تتعلق بطبيعة المعرفة الإنسانية ) هي التي تفسر استقلالية العقل الإنساني ، فأن ما يفسر استقلاليته كفاعل أخلاقي لا يمت بصلة لأية اعتبارات أبستمولوجية ، لأن استقلالية العقل على المستوى الأخلاقي تنبع من طبيعة قراراته الأخلاقية من جهة ، ومن طبيعته الأخلاقية والعقلانية من جهة أخرى .

 

ولكي تبدو المسألة على نحو أفضل ، فلا بد لنا أن نوضح بأن مفهوم الاستقلالية هنا يختلف عن مفهوم ( الكانطي ) ( 1 )  للاستقلالية ، فالاستقلالية الأخلاقية في نظر الفيلسوف إيمانوئيل كانط تقضي بالنظر إلى المملكة الأخلاقية على أنها تشرع القوانين الأخلاقية بصورة سابقة على أي تصور محدد للخير أو للشر الذي قد ينبع من القانون الأخلاقي ، إن فقدان الاستقلالية الأخلاقية ( حسب مفهوم كانط ) هو أمر يكمن في جعلنا تصوراً محدداً للخير أو الشر هو بداية تفكيرنا الأخلاقي ، كأن نبدأ بتصور الخير على أنه هو الذي يحقق السعادة ، وكذلك الشر بتصوره على أنه يحقق عكس ذلك ، وأذا ابتدأنا بداية كهذه ، فأننا سوف نصل إلى الاعتقاد بأن العقل هو فقط وسيلة لتحقيق السعادة وتجنب التعاسة ، إذن في هذه الحالة فأن فقدان الاستقلالية تعني اخضاع القرارات والاختبارات الأخلاقية لاعتبارات لا تنبع من العقل الأخلاقي ، لأن طبيعة الإنسان كما يعتقد كانط ذات وجهين وهما :

1 – طبيعة ذات وجه عقلاني .

2 – طبيعة ذات وجه تجريبي ( شهوي ) .

بالإضافة إلى الاعتقاد بأن عقلانية الإنسان ليست عقلانية أداتية ، بل هي ايضاً عقلانية معيارية أو أخلاقية .

 

من هنا يمييز الفيلسوف إيمانوئيل كانط  بين العقل النظري والعقل العملي ، إن العقل العملي باعتباره عقلاً أخلاقياً هو مصدر معرفتنا لما ينبغي أن نفعله ، وما ينبغي ان نفعله من منظور أخلاقي ، هو ما يمليه علينا القانون الأخلاقي فعله ، بغض النظر عن النتائج المترتبة على فعله . وبما أن للإنسان طبيعة تجريبية ( شهوية ) غير عقلانية ، فأن هناك في داخله ما يدفعه في اتجاه معاكس لما يقتضيه العقل الأخلاقي ، مما يجعله يختبر صراعاً داخلياً بين احساسه بالواجب وبين رغباته ، إن طبيعته التجريبية ( الشهوية ) تشكل مصدر أكراه له ، لذلك يستنتج إمانوئيل كانط أن العمل بمقتضى العقل العملي هو ما يشكل التعبير الأكمل عن استقلالية الإنسان ، وهذا ما يشدد عليه ايضاً الفيلسوف الفرنس جان بول سارتر ( 2 ) .

 

                             

                                  (  يتبع في الجزء السابع )

 

الهوامش :

 

( 1 )  الكانطية نسبة إلى الفيلسوف الالماني إيمانوئيل كانط ( 1724 – 1804 ) وهو فيلسوف ذا نزعة عقلية تامة القائمة على التجربة والملاحظة مثل ( الفيزياء والفلك ونشأة الكون ) لكنه اتخذ منها نقطة انطلاق لتكوين نظرة شاملة في الكون . وفي سبيل ذلك كان عليه أن يفحص عن حقيقة المعرفة الإنسانية ، ومن هنا اهتم أيما اهتمام بنظرية المعرفة ، أي : إلى أي مدى يستطيع عقلنا الوصول إلى إدراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان ؟ وما هي أدوات المعرفة الصحيحة ؟ وما قيمة هذه الادوات وأدوارها في تحصيل المعرفة الصحيحة ؟ وأذا تحدثنا عن الأخلاق عند كانط ، فله في الأخلاق ثلاثة كتب وهي :

1 – تأسيس ميتافيزيقا اتلأخلاق – سنة 1785

2 نقد العقل العملي – سنة 1788

3 – ميتافيزيقيا الأخلاق – سنة 1797 ( انظر الموسوعة الفلسفية ج 2 الصفحة 281 )

 

( 2 ) يصف جان بول سارتر ( فيلسوف فرنسي 1905 – 1980 ) الأشخاص الذين يحاولون التهرب من مسؤولية أفعالهم الأخلاقية ويضعون هذه المسؤولية في سواهم أو يلومون الظروف والشروط المحيطة بأفعاله لما فعلوه ( يصفهم بأنهم ذوو نية سيئة ) . أن سارتر ينطلق من افتراض ، ألا وهو أن الإنسان محكوم عليه بالحرية وأنه لهذا لسبب بالذات ، يتحمل مسؤولية ما يفعل في كل الحالات ، فهو حتى عندما يخضع لضغوط خارجية لكي يفعل شيء ما ويفعله ، فإنه حر لأنه هو الذي اختار أن يرضخ لهذه الضغوط . ( المؤلف ) .