كَــوذا, مَشكا

 

   

 

                                              

                                                   بدران امرايا

من موروثنا الشعبي   

    كان شعبنا الكلدو آشوري السرياني ولا يزال يعتبر إن الحليب مادة أساسية خامة لصناعة مواد ومشتقات أخرى, لتوسيع مديات الاستفادة منها في جوانب أخرى من الحياة اليومية .من اللبن ,القشطة , الدهن الحر, الخريوع الخلوة ,الشنينة , لوركي وغيرها ,وتسمى كل هذه المشتقات بـالسريانية  ( خوَروثا ). أي البيضاء وكانوا يستعينون بأدوات مصنوعة محليا لتصنيع الحليب إلى تلك المشتقات العديدة المهمة, وهنا سأتناول كيفية صناعة (الكوذا او مَشكا )عند شعبنا .

      كَوذا  اسم سرياني معناه البدانه , القلافة الجسمية. او مَشكا كذلك اسم سرياني معناه البدن , وهو إناء جلدي يصنع من جلد حيواني الجدي ( كَذيا ) أو الخروف ( بارا ). وعند ذبح احد هذين الحيوانين كان يقال للقصاب بان يفرغ الجلد من اللحم والعظام ( نشاطا ) دون أن يمزق الجلد , وكان عندنا أصحاب أيادي ماهرة بهذه المهمة, وكانت العملية تتم بإحضار الحيوان ورسم علامة الصليب ثم نحره ( نخرتا )وبعد إسالة الدم من الجسم ,وكان منفذ العمل من خلال عنق الجثة (شلَدا ) فيقوم القصاب بإمرار يده عبر العنق لفصل الجلد عن اللحم قدر المستطاع , ثم يحاول تنظيف العنق من الدم وحصر العنق بين كفيه مثل عنق البالون ويبدأ بنفخ العنق بكل قوة كي يفصل الجلد عن اللحم , وكانت الجثة تكبر ويمتلأ الجسم ينتفخ, بعدها يبدأ بقطع الأطراف عند الركبة , وأحيانا كان النفخ يتم من خلال احد الأطراف , عند قطع الأطراف,كان يرفع الجلد عن اللحم ويقطع اللحم وهكذا مع كل الأطراف , بعد هذا كله كان الرجل يدخل يداه عبر العنق حاملا بإحداها سكينا صغيرا ( جَقوكي ) ويبدأ بقطع اللحم وإخراجه , المهم إفراغ الجلد من محتواه دون ترك أية ثقوب فيه.أو كان الشخص يمرر حبلا ( خَولا ) بين لحم العنق وعظمه ويعلق الجثة على شجرة ويبدأ بسحب (وشَلح ) الجلد من اللحم وإنزاله, كما يخلع الشخص ملابسه , ويبقى اللحم معلقا عند الفصل .   

    عند الانتهاء كان الجلد يوضع تحل أشعة الشمس بعد إضافة كمية من الملح عليه كي يتراخى لنتف الشعر منه ( نجَلتا دسَعرا) وعندها كان يطلق رائحة قاتلة و مقرفه ونتنه ,وكانت هذه رائحة تجذب القطط والكلاب والذباب إليه من كل صوب وحدب, وكانت سيدة البيت تجيء بالجلد وتضعه على الأرض لتشرع بنتف الشعر منه وتنظيفه , بعد انتهاء الشعر.

    كانت تأتي مرحلة الدباغة ( كَمرّا ) وكانت مواد الدباغة موجودة في كل البيوت تقريبا , وهي دقيق قشور الرمان ودقيق( كَوليري ) وهي كرات صفراء او بنية اللون تجنى من شجرة السنديان ,تجف وتطحن إلى الدقيق ,وكان الجلد يفرك بهذا الدقيق لمرات عديدة لكي يكون مرنا سهلا للاستخدام ,بعد تنظيف الجلد جيدا , وإزالة الروائح  الكريهة منه .

    الخطوة الأخرى كانت تقع على عاتق من له إلمام بسيط بأمور النجارة ( نَكَارا ). فيؤتى بخشبة بطول متر ويحدد طرفيها لتكون اقل سمكا وتسمى هذه الخشبة ( مَيوتا ), ويؤتى بخشبتين بطول نصف متر فيثقب الخشبتين من المنتصف بثقبين يسعان لدخول راسي خشبة ( مَيوتا ) , وتخرط رؤوس الخشبتين الأربعة بحفر شَرحَه بسيطة لكي يستقر الخيط فيها ( شلالا ) تسمى الخشبتين بـ ( لَولَبي ),ثم تدخل رأسي خشبة ( مَيوتا ) في ثقبي ( لَولَبي ) ويثبتان جيدا ,بحيث يأخذ شكل حرف ( اج ) الانكليزية , بعدها يؤتى بالجلد (كَلدا ) وبخيوط ( شلالي ) فأولا تشد كل طرف بشدة ويعقد جيدا بتلك الخيوط بحيث لا ينفذ السائل منها إطلاقا , ويترك طول شبرين من تلك الخيوط سائبة .

    وعند الانتهاء من شد الأطراف الأربعة بإحكام, أما فتحة مؤخرة الحيوان (شرما ) كان يجلب خشبة على شكل دائرة أو عجلة صغيرة  (خرخروكي ) مخروطة من الوسط بشرحة, فتدخل في المؤخرة, ثم يمرر خيطا على الجلد وفوق الشرحة وتشد بأحكام بحيث يستقر الخيط على الجلد في تلك الشرحة المحفورة في الخشبة وتشد بقوة بحيث لا تخرج السوائل من هناك ,عندها كان يصلب الجلد على تلك الخشبة بحيث يربط كل طرف من أطراف الجلد برأس من خشبتي ( لَولبي ) وعندئذ يسمى هذا التركيب بـ ( كَوذا , مَشكا ). وعند الاستعمال كان يعلق بإمرار احد رؤوس الحبل من على احد فروع الشجرة, وربط كلا طرفي الحبل بخشبتي ( لَولَبي).

    وكان يستخدم لغرض تحويل اللبن إلى الدهن الحر ( كرا , كرعا ). وما أدراك بهذا الدهن وطعمه اللذيذ !!.وهذا الدهن يؤكل مباشرة او يستخدم للطبخ وحسب الرغبة .

وعلى ذكر( الكوذا) فلدينا أمثلة وطرائف عنه :

-          ( لْبا رابا وكَودا كميخا ) أي قلبه كبير وبدنه نتن ,يقال للذي يتظاهر بالتكبر وحالته مزية ( لبا رابا وخايي مكَلبيجي ) أي قلبه كبير وحياته مزرية . (د كلي إلا بْد نَشطني كَلدوخ ). أي انتظر إلا سوف اسلخ جلدك !! يقال من باب التهديد والوعيد . -( خور كما ايلي مَشكو ) أي انظر كم هو بدنه ,يقال نكاية بالشخص البدين. وهناك أغنية سريانية فلكلورية مشهورة كانت تغنى عند تحريك (الكَوذا ) مطلعها ( هَي كَوذي كَوذي كَوذي , كَوذي مَيَني بكَاني) تصدحت بها حنجرة صوت الملائكة فيروز , وكذلك غنتها المطربة المحبوبة ليندا جورج , وهناك أغنية لمطربنا المتألق جنان ساوا مطلعها ( ازل هم اتي كرم اقلو ايداتو صّيري) أي يذهب فيحدث صوت هم ويأتي محدثا صوت كَرم , ويداه ورجلاه مربوطتان وهو كَوذا.

     وهناك أحجية سريانية قديمة تقول ( شكياتي طربي لباتهِ  , ويالد بعي دلا قَلبا ) أي خصيتاه ترتطمان بوجهه , ويَلدُ بيوضا بدون قشر,والمقصود بالأحجية هذا الإناء الجلدي ( كَوذا )عند الاستخدام فان منطقة خصيتاه تقع في منطقة الوجه , والمقصود بالبيض الدهن الحر عند جمعه وجعله كالبيضة.

    وفي وقتنا الراهن لم يعد لـ (كوذا او مَشكا )أي وجود , بل إن الناس تستعين بإناء مصنوع من الألمنيوم لهذا الغرض وهو نظيف وسهل الاستخدام .وقالوا مع ألف سلامة لهذا الإناء الجلدي التراثي والسلام..

الصوره ماخوذه من موقع بيرسفي