الامراويين وتذكار مار سوريشوع

 

                                                                                                                

                     

                                                              

                                                                بدران امرايا

               

             في مطلع تشرين الأول من كل عام تحتفل عشيرة امراويي مارسوريشوع في كل مكان من العالم حيثما وجدوا وبطريقتهم الخاصة وحسبما تتاح لهم الظروف بتذكار شفيعهم القديس مار سوريشوع الذي معناه بلغتنا السريانية (امل المسيح) وشقيقته بارسيا ( الدليلة ) , ومار سوريشوع عاش بين  550 – 620 م ولد في مدينة نينوى مطلع النصف الثاني  من القرن السادس الميلادي كما هو مُبين , وتربى ورعا منزهاً ومعتكفاً نفسه عن كل أمر دنيوي إلا العلم منذ نعومة إظفاره وعلى خبز التقوى والحكمة والنعمة الإلهية الفائضة  ومخافة الربِ على الدوام والعيش باستقامة على هدى الهالة النورانية المشعشعة لحكمة رَبْ الكون عبر كتابه القدير (كتاب الحياة ) بعد أن كبر وتصلب عوده , دعتهُ القدرة الإلهية لان يكون من جندها الأفذاذ مُتزهداَ ومُتنسكاَ وعَالماَ دينيا مُهيباِ على طريقة البر والتقوى والإيمان ,نَذَرَ ذاته البسيطة وداس بقدماه على المال والجاه والسلطة وملذات حياة الدنيا  وبهرجتها الفضفاضة والفانية في نفس الوقت .

 

مفضلاً ومرجحاً كفة العفة والتزهد والتسلح بتلك الفضائل , وَنَشر نور الكلمة الإلهية هنا وهناك ,حيث كانت نفسه وديعة كالحمام وروحه لطيفه كالنسيم العليل المنعش القادم من الوِهاد , وفي مناطق نائية خاض هذا العامل الطوعي في الحقل الإلهي وجاب مناطق عديدة سعياً لحيثما توجد الكتب والمخطوطات ومجالس الملافنة الأبرار ليتتلمذ على ما تجيد به قريحتهم الواسعة ,لإرواء ضماه اللا محدود والتشبع من سطور الكتب المتلألئة بالروحانية والالق الإلهي المشع ,ويتفقه من هديها ويستشف حكمتها المستنيرة وعبقها الفواح المنعش الذي كانت يمد أوصاله بالقوة والحيوية وينشط خلايا روحه المتأججة وتثبت خطاه بالرصانة على هذا السبيل ألخلاصي .

 

 ومنها توجه لمنطقة نوهدرا- دهوك وليُشيدَ فيها ديراً تنعش وتستأنس فيه روح المؤمنين هناك من هذا الينبوع الصافي الذي لا ينضب منطلقا من اربائلو ( اربيل ) حيث أمضى سنيناً من شجرة عمره هناك ليس لشيء سوى التعمق الروحي والفكري والاستظلال بفي تعاليم ملافنة أديرتها العظام, ومن ثم لدير ايزلا الكبير الواقع قرب مدينة نصيبين جنوب تركيا الذي لعب دورا رياديا في مسيرة كنيسة المشرق العظيمة وليسترشد بتعاليم مؤسسه العظيم ابراهيم الكشكري ,وغدَ شلالاً هادرا يتدفق بالروح والحكمة الراجحة ,صال وجال هذا القديس فساحة السهول ولحاف الجبال وبطون الوهاد حتى استرشدهُ وقاده النور الإلهي إلى منطقة نوهدرا ليبني ديراً هناك باسم ( عاوا شبيرا) أي الغابة الجميلة , الواقع في المنطقة الحدودية العراقية التركية ,والتي تمتازُ بكونها مناطق أو لوحة فنية طبيعية ذو جمال آخاذ تستأسر الأفئدة والألباب بخلفية سماءها المرصعة ببياض الغيوم والمتدرجة بزرقتها الداكنة من الأعالي  وبتلاشي تلك الزرقة لبياض ناصع تنيره خلفية سلاسل جبالها الشاهقة والمكتظة بنِعم الطبيعة من الخضار والفاكهة والاحراش وتليها التلال بتعرجاتها صعودا  وهبوطا  ومن ثم مسطحات أرضية خضراء بهية تشرح القلوب  وتشحن النفوس اليائسة بدفق الآمال والتطلعات الزاهرة  من السهول والمروج الزاهية بطيفها اللوني ,تتخللها مجاري لجداول وساقيات المياه الرقراقة العذبة والمنحدرة جنوبا والمتدفقة بالأحياء لتكون هذه البقعة اسما يطابق المسمى بالحرف الواحد ,ويظهر الذوق الفني الرفيع لهذا الطوباوي الجليل , فاتخذ هذا القديس من مروج هذه المنطقة مقرا ومستقرا لرأسه مع أخته القديسة بارسيا والتي تعني ( الدليلة ) حيث استقرا في صومعة حقيرة بكهف محفور في لحف جبل الشامخ هناك , ذلك الجبل الذي استمد اسمه من اسم مار سوريشوع ,ظل هذا القديس يحاكي رب الطبيعة الساحرة وقوته العظيمة واعتكف على العزلة والصمت والتأمل والصلاة والخلوة والسباحة الروحية في تلك الآفاق الرحبة مع آيات الله بخشوع وعفة وتزهد ,وبفضل خصاله المحمودة وتأويلاته السديدة أصبح قبلة المساكين والمرضى   والمعدومين وممن جارت وقست عليهم الحياة والزمن.

 

 فقصدته جموع الناس مسلمين ومسيحيين للتلمس من فيض بركات خالقه وعلى يداه الطاهرتين , وظهرت قوة الله على يداه فشفى المرضى وطرد الأرواح الشريرة  ونسبت إليه الكثير من المعجزات والتبصر بعواقب الأمور, وبذلك ذاع صيت حسناته  وعفته الكبيرة في المنطقة , فاستقطب حوله عدد من التلاميذ العطاش والعشاق للنعمة الإلهية الفياضة بالبركات الروحية , وبذلك كان نواة حسنة لجمع واقتداء المؤمنين بفضائله وتكوين جماعة صغيرة والبدا بتأسيس ديراً يؤويهم ويسد حاجاتهم الروحية والمادية , ولدى انتقال مار سوريشوع لجوار ربه ,وري جثمانه الطاهر في ذلك الدير الذي حمل اسمه المبارك , وكذلك القديسة بارسيا لدى وفاتها دفن جثمانها النوراني في مزار جبلي إلى الجانب الغربي لدير شقيقها سمى المزار باسمها الخالد و وبدأت الناس تستظل وتتلمس الحماية بجوار هذا الدير وبالأخص عائلتان نزحتا من منطقة تياري العليا بهكاري ( جولمرك ) وهما عائلتي  ساكو ابن مرخائيل ابن يونان ابن الشماس شمسو  ومنه نشا وامتد جذع بيت آل ساكو والثاني هو القس إسرائيل الذي كان له ثلاثة صبيان وهم بازو والذي امتدت منه عائلة آل بازو والقس يوسف والقس اسطيفان والد يوسف زوج كهاري والذي منه امتدت عائلة آل كهاري .

 

وشيدت البيوت وتفرعت العوائل آخذة من الدير شفيعا لها إلى أن وصلت لعشرة بيوت فسميت بقرية ( امرا دمارسوريشوع) والناس سموا بالامراويين  نسبة إلى امرا – عمرا – الكنيسة أو أحيانا سميت القرية ب (أسرا ) أي العشرة نسبة لعدد بيوتها العشرة آنذاك عاش أهالي القرية من كلتا العشيرتين واختلطت الدماء عبر التزاوج وتشابكت الوشائج بينهما امتازت حياتهم بالهدوء وسكينة الطبيعة وبساطة الروح والألفة الحميمة وقاسموا الرغيف والملبس والمأوى والمصير المشترك في السراء والذراء , معتمدين على الزراعة بشكل عام وتربية الحيوانات المختلفة , وماتدرُ عليهم الطبيعة من خيرات وأعمال متفرقة أخرى .

 

وكان الامروايين يحيون في مطلع تشرين الأول من كل عام ذكرى انتقال شفيعهم إلى الاخذار السماوية ( شيرا  دمارسوريشوع) بنحر الذبائح وتوزيع الخيرات على الفقراء والمحتاجين  ومن إلى ذلك من الصدقات , تيمنا بتلك الذكرى الميمونة والمحفورة في صفحات قلوبهم المتلهفة له, والتي ستظل منارا هاديا لهم حيثما حطوا الرحال , وفي الثامن أيلول ذكرى ميلاد الأم الحنونة مريم العذراء من عام 1925 نجا أهالي هذه القرية الوديعة من الموت المحتم ضمن المسلسل العدواني المحاك والمعد سلفا من قبل الجيش التركي ومرتزقته من عشائر المنطقة لإبادة شعبنا الكلدواشوري السرياني واستئصال شانه من مناطقه التاريخية.

 

لكن بفضل الرب وشفاعة قديسهم وحنكة وفطنة الكاهنان المرحومان عوديشو موشي  وهرمز كورو استطاعا تهريب الامراويين من كماشة ذلك الموت المحقق باتجاه الحدود العراقية , حيث وصلوا لقرية برخ ولم يمكثوا طويلا فيها ليواصلوا الترحال إلى زاخو ضاحية  (كيستا ) ومن ثم استقر بعضهم من آل كورو في  قرية ( هفشن ) و ( بهنونة) المطلتان على نهر خزلا- هيزل إلا أنهم لم يسلموا من النهب والسلب والقتل هناك ليشدوا الرحال وليشيدوا قريتان متجاورتان الأولى باسم اسطبلاني اسم سرياني بمعنى ( اسطبلا الخشب ) لتستقر فيها عائلة بي ساكو والثانية بهيري اسم سرياني من مبهرتا أي البهية والجميلة لعائلة بي كوهاري عاش أبناء القريتين المطعمتين والمتشابكتين بين أبناء العمومة والأخوال ما يقارب نصف قرن , وبينما عائلة بي بازو بقيت في قرية هفشن إلى عام 1976 حيث مسحت هذه القرى من الوجود وسويت بالأرض بعد أن رحل أبنائهما قسرا ضمن حملة إخلاء الشريط الحدودي العراقي التركي , وبذلك انفرط عقد امراويي مار سوريشوع أكثر من ذي قبل وتشتت شملهم بين دهوك ونينوى وكركوك وبغداد  ومن ثم المهجر ,إلا أن ما يجمع  شذى والق روحهم هو الرباط والالتفاف الأزلي بشفاعة قديسهم مار سوريشوع وأخته باريسيا حيث لا يحدهم شيء عن إحياء مراسيم وطقس ذكراه العطرة وحسبما تقتضيه الظروف , إلى جانب إطلاق اسمي مار سوريشوع وباريسيا على المواليد الجدد من أبنائهم ,ولهذا القديس مذبح يضم صورته وقيوده وسلسة نحاسية في كنيسة مار كوركيس الشهيد بمدينة زاخو تقصد الناس للتشفع ونيل البركات والاستشفاء.

 

وتضم عشيرة الامراويين عددا من الاكادميين بمختلف المجالات والاختصاصات ورجال الدين وشمامسة وغيرهم , إلا أن ما يدمي القلوب ويحزن الأفئدة هو هجرة غالبية العشيرة وطن الأم العراق الحبيب باتجاه المهجر بعد تردي الوضع الأمني وما ترتب على ذلك من دمار وكارثة إنسانية للشعب العراقي ككل وخاصة شعبنا الكلدواشوري السرياني بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003  واستقر غالبيتهم في استراليا مدينة ملبورن  ويحيون تذكار شفيعهم  سنويا بروح مفعمة بالود والفرح وعقدوا العزم إن شاء الله على أحياء تذكار هذه السنة  2012 في  يوم الأحد  الموافق 7 تشرين الأول الجاري  وفي قاعة سان ماثيو الكائنة بمنطقة فوكنر ..فتحية عطرة لأبناء هذه العشيرة العتيدة والتي تعد برعما باسقا من شجرة امتنا الكلدواشورية السريانية , وشيرا بريخا تودي .

 

·المصدر كتيب مار سوريشوع للاب البير ابونا1985