صورة الرجل الفنية في مجموعة الليلة الثانية بعد الألف

 

                     

         

                                                                                          مثنى كاظم صادق

قلما قُرأت موضوعة صورة الرجل الفنية في القصة القصيرة جداً، ولاسيما إن شخصية الرجل في السرد تعد مركز استقطاب الأحداث غالباً ، فهو الأول في الخليقة ، وله حضوره الواضح في الحياة ، وإذ نأخذ القاص المبدع هيثم بهنام بردى ، ومجموعته القصصية الموسومة بـ (( الليلة الثانية بعد الألف ))(1) بعده أحد القصاصين المهمين في العراق ، الذين يتواصلون مع القصة وينافحون من إجلها ، مع الإعتراف بالفضل لسواه من أدبائنا ، فضلا عما تنماز به لغته ، من تبسيط ، واختزال وعمق ، وبما تتسم به ، من اتزان وصفاء يخلو من الزيادة المجانية ، وبروز هذه الثيمة ( صورة الرجل الفنية ) في مجموعته هذه ، على أنني اعترف بأن عنوان هذه المدونة ، كبير جداً وواسع لا تسعه هذه الورقة النقدية ، فحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق .

 لمفهوم الصورة مسميات ، وتنظيرات كثيرة ؛ نظراً لأهميتها في النص الأدبي ، قديماً وحديثاً ، ولعل أفضل تعريف للصورة هي : (( تشكيل جمالي تستحضر فيه لغة الإبداع الهيأة الحسية أو الشعورية للأجسام أو المعاني ، بصياغة جديدة تمليها قدرة الشاعر وتجربته ))(2) ويؤدي تبادل الحواس ، والتجسيد والتشخيص ، دوراً مهماً في صنع الصورة ، ولاسيما الصياغة التي تخلع على الأفكار والمشاعر ظلالاً ، تأخذ سبلها لعرض أفكار الأديب ومشاعره ، عرضاً أدبياً مؤثراً فيه طرافة ومتعة وإثارة(3) .

 يرسم هيثم بردى صورة الرجل الفنية في قصصه ، مستعيناً بفنون البلاغة ولاسيما التشبيه ؛ فيحدث بذلك عملية تقشير ( غير تامة ) لشخصية ( الرجل ) وتقديمه للمتلقي ، الذي بدوره سيتمم ـ  بحسب فهمه وإدراكه ـ الباقي . وإذا كان التشبيه هو عقد موازنة بين شيئين مختلفين ؛ لوجود مشترك بينهما في صفة معينة بأداة تفيد التشبيه(4) فلا بد أن لا تقتصر أهمية التشبيه على الإيضاح والتزيين فحسب ، بل هو أبعد من هذا ؛ لإنه ينغرس في أعماق الوجدان الإنساني(5). ففي قصة ( الأعجوبة ) يستغل القاص التشبيه ؛ لإظهار صورة رجل مسن قد تهالكت دارته الطينية ، التي كانت في يوم ما عامرة ؛ فعصفتها الأيام ، واستحالت إلى كومة من الحجارة ، إلا حائطاً بقي واقفاً فـ (( تدور العينان الحجريتان ، يراه في تفرده متهالكاً كأرملةٍ في مقبرة مقفرة )) ص 13 حيث يحاول الرجل المسن ، احتضان الحائط عبثاً ، فيقع الحائط عليه فيموت . شبه القاص هنا الحائط بالأرملة في مقبرة مقفرة ؛ لإضفاء طعم الحزن على فقدان شيء عزيز وإظهار مدى تعلق الرجل بماضيه ، ببيته ، الذي ولد من أصابعه ، ويزيد ذلك حزناً وجه الشبه ( مقبرة مقفرة ) فهو لا يدع المقبرة تمر بسلام دون أن ينعتها بالمقفرة ؛ وكأنه أراد أن يسلبه كل شيء لوضعه في موضع النهاية ( الموت ) مندمجاً مع جدار بيته المتهالك . تنماز نصوص هيثم بهنام بردى بلغتها الشعرية العذبة ، المستقاة من ثقافته ومرجعياته المعروفة في الأدب شعراً ونثراً فـ (( اللغة الشعرية في مفاهيمها البسيطة تأتي  نتيجة التلازم الحاصل بين الشعر والنثر للدرجة التي لا يمكن معها تصور ماهية الشعر إلا من خلال ماهية النثر))(6) وفي ضوء الموهبة والرؤية التي حباها الله تعالى لهذا المبدع ؛ فإنه يتعامل تعاملا فعالا مع لغته ومحيطه ، ولاسيما عندما يريد أن يقدم شخصية الرجل فنراه يستعمل أفضل الألفاظ رقة وسهولة ، فضلا عن قدرته على الإيحاء ؛ لتكون ذات الرجل هي الكف التي تقبض على الإطار الروحي للصورة  .

 لم تنسلخ نصوص القاص عن تراثها الأصيل ، فأخذ على عاتقه توظيفه في قصصه ؛ ليرفد النص بألفاظ حية متجددة أدت إلى نمو لغته لخدمة الشكل والمضمون في تقديم صورة الرجل ، ومن ذلك قصة ( عشبة كلكامش ) التي يختتمها بالاستفهام التصوري (( لماذا لم يأكل العشبة حال خروجه من الماء ... ثم يهتفون بأسى :  آه ... ياكلكامش .)) ص 15  في أمنية مصحوبة بتنهيدة مؤلمة وحسرة تنسحب إلى المتلقي ليشارك بها وكيف لا ؟ وحب البقاء والخلود عالق في الذهن البشري ولاسيما أن تنازع الموت والحياة يمثلان اتجاهين باطنيين في ذات الإنسان / الرجل  كما في قصة ( نظرة قصيرة فقط ) عندما (( دخل الرجال غرفته وتناولوا جسده ثم وضعوه في جوف قماش أبيض وأنشأوا يخيطونه حتى غاب في ثنايا هذا البياض السرمدي حملوه ووضعوه في التابوت البارد ألقى عليهم نظرة قصيرة فقط ثم عاود الحراثة )) ص 16 ـ 17 فالرجل عنده يعمل ، يكد ، يتعب ، لكنه في ذات الوقت رجل غامض ، مبهم ، أسير كيانه ، وذاته الحيرى الباحثة عن أسئلة الوجود الخالدة التي تصطرع في داخله.

 أما الطبيعة فغالباً ما ينقاد القاص لها لتأصيل هوية الرجل وانتمائه إليها فقد عاش في كنفها أجداده وربما قد شارك فيها معهم ، حيث الجبال والمراعي ، وهذا ما حدا به أن يستعين بمعجم الطبيعة الثر ؛ لأن الطبيعة هي المعلم الأول الذي يلهمه فنرى نصوص القاص تزدهي فيها الطبيعة ويوظفها لدلالات رمزية كما في قصة ( محطات ) التي تمثل مراحل حياة الإنسان وجدليته مع الطبيعة عندما يقف طفلاً أمام لوحة (( تمثل شجيرة متسربلة بأوراق خضر )) ص 25 ثم شاباً أمام لوحة (( تمثل  شجرة باسقة )) ص 25 ثم كهلاً كي تكون الشجرة (( شجرة معمرة )) ص25  ثم الوصول إلى النهاية الحتمية المعروفة ، لبلورة تصور حول حياة الإنسان الذي هو صنو لهذه الشجرة ، ويميل القاص ميلاً صريحاً إلى ألفاظ الطبيعة لتأثره بها فنجد معجماً للطبيعة عند القاص على سبيل المثال لا الحصر ( جبل / شجرة البلوط / الغيوم الربابية / مطر مدرار / صقر / حمامة .. إلخ )

 إذ نسج منها صورة للرجل الذي تسمو نفسه الإنسانية بالمشاعر المرهفة العذبة اللامتناهية وقد غدت صورته أكثر رهافة في قصة ( دعموصة ) عندما أخذته الرحمة بهذه المخلوقة التي كادت أن تموت من شحة الماء  فـ (( تفتح فمها أكثر وتتوسل الحياة الراحلة بالبقاء فترة أخرى )) ص 34  فيتذكر (( صوراً شتى لبنىً أنسنية غضة محتضرة تنتظر من يمنحها فرصة لشهيق إضــافي )) ص 34  ليهب للإنقاذ فلم يجد سبيلاً للماء المناسب للحفرة الصغيرة فـ (( فتحت بنطالي وأفرغت مثانتي في الحفرة ثم .. رأيت الجسد المغزلي يسبح في الماء الرغوي بفرح طاغ بان في حركات ذيله اللولبي )) ص 34 فمنحها بذلك فردوسها المفقود ( الماء ) فاختزل بذلك صورة المنقذ من خلال جزء جغرافي صغير ( الحفرة ) ، أما السائل المبحوث عنه ( الماء ) فله قيمته الرمزية ، فهو مادة ضرورية للحياة والخصوبة . الرجل في هذه القصص القصيرة صوفي من سلالة الأرواح ، يتشارك مع الآخر في ثنائية الفرح / الحزن  كما في قصة ( الصمت الفـارغ ) حيث يقول : (( فأخذ الرجل يشارك الكراسي والستائر المعدنية واللوحات وتماثيل الأبواب الموصدة بكاءها المرير )) ص 37 إن المجموعة القصصية هذه قد أُنتجت كي يكون فيها النص ، نص صورة فنية ، نجح في تشييدها القاص للرجل ، حيث سار به إلى فضاء التشابك ، والذوبان ، والتماهي ، معبراً عن قلقه ، ولهاثه نحو الحلم ، الذي ينفتح على حرية اللاشعور . إنَّ مجموعة ( الليلة الثانية بعد الألف ) برزت فيها الصورة الحسية والذهنية والرمزية للرجل بشكل فني ، شيدتها لغة القاص التي انمازت بالشعرية العالية .