"هكذا كنا نعمل"

 

                     

                                                                                  

                                                                                         

                                                                                    روند بولص

         ساتطرق في مقالي هذا وبشكل مختصر قدر الامكان لفترة الثمانينات من القرن الماضي كي اسجل فيها شهادة تاريخية حية بخصوص الوعي والعمل القومي الهادف الى الحفاظ على الهوية الثقافية والقومية والديموغرافية في عنكاوا. من المعروف لدى الجميع ان النظام البائد حاول وبشتى الوسائل والطرق تحريف تاريخ العراق القديم وخاصة التاريخ البابلي الاشوري، من خلال قيامه بحملة تم تسميتها بحملة "اعادة كتاب التاريخ " الهادفة الى تشويه هذا التاريخ العريق وتحريفه وتلتها حملات التعريب الهادفة الى تعريب وطمس الهوية القومية والثقافية لهذا الشعب الرافدين الاصيل والعريق، وتعرضت بلدتنا الجميلة عنكاوا الى هذه الحملات الجائرة حيث بدأ يلفظ اسم عنكاوا ذات المدلول التاريخي الحضاري ب "عينكاوة " ذات مدلول لغوي عربي، وتم تسجيل اهلها في الاحصاء الاخير كعرب في حين هم سجلوا انفسهم في حقل القومية في استمارة الاحصاء كلدان، ناهيك عن اثار تعريب في التعليم والتدريس ، ان مثل هذه الممارسات الشوفينية وغيرها التي انتهجها النظام البائد حركت مشاعر نخبة من شبيبة عنكاوا جلهم من طلبة الكليات والمعاهد ومن خلفيات فكرية متنوعة الذين ادركوا تماما بان هويتهم الثقافية والتاريخية والقومية مهددة ومستهدفة وكاتب المقال واحد منهم، والذين اطلق عليهم لاحقا اسم (جماعة  شلاما ألوخن ) كونهم استبدلوا جملة سلام عليكم العربية الشائعة للسلام والتحية في البلدة بجملة بديلة اصيلة بالسريانية الدارجة ( السورث )  في عنكاوا وهي    ( شلاما الوخن شلًمًا اِلوُكِن ) تيمنا وتمسكا بلغة الام والاهتمام بها.

 عندها بدأنا نلتقي في البيوت والازقة لأيجاد الية عمل للمحافظة على تراثنا وهويتنا الثقافية والقومية امام هذا الظلم الجائر، حينها كانت بلدة عنكاوا تفتقر الى مؤسسات اوجمعيات ام منظمات مجتمع مدني كل ما كان موجود هو بناية لمركز شباب عنكاوا وكان عبارة عن ثكنة حزبية وتحت الرقابة، لذلك ارتأينا العمل تحت مظلة الكنيسة التي والحق يقال احتضت نشاطاتنا الثقافية والدينية باخلاص، وبدأنا نعمل بكل جد وكد واخلاص ونكران الذات، وكانت البداية تنظيم عدة ندوات ومحاضرات دينية وايمانية ثم تلتها دورات لتعليم اللغة السريانية في اروقة الكنيسة على يد اباء الكهنة وتخللتها ضمنا محاضرات عن تاريخ وتراث شعبنا العريق، ومن ثم بدأنا بترميم المخطوطات الثمينة التي كانت شبه مهملة في اقبية كنيسة ماركوركيس ومحاولة تجلديها و ترتيبها في رفوف جديدة واعادة نسخ بعضها وخاصة التاريخية منها، وكان للصديقين طلعت سولاقا وعبدالاحد بطرس دور كبير في هذا المجال كون لهما خط جميل وانيق في اللغتين السريانية والعربية، ومن ثم خطونا خطوات اخرى الى الامام بدأنا باعادة كتابة بعض المراجع التاريخية الشهيرة  والمحظورة انذاك منها ( كلدو و اثور) للمطران الشهيد ( ادي شير ) وفلحنا في ذلك حيث جهزنا عدد من  النسخ مكتوبة بخط اليد وقمنا سرا بتوزيعها على الاخرين لقرائتها والاستفادة منها، ومن ثم تلتها كتب تاريخية اخرى تخص حضارة وتاريخ شعبنا، كذلك عملنا على تشجيع شبابنا على كتابة الشعر والنصوص المسرحية باللغة السريانية، وكان الرائد في هذا المجال الصديق المرحوم الشهيد نصير بويا، الذي يعتبر بحق وخلال هذه الفترة رائدا في الكتابة باللغة السريانية و تعليمها في عنكاوا، وكان هو اول من كتب القصيدة السريانية في عنكاوا في هذه الفترة المظلمة وشاطره في ذلك لاحقا الشماس جرجيس نباتي، بعدها اقمنا اكثر من امسية شعرية في باحة الكنيسة فالقيت فيها قصائد باللغة السريانية والعربية، ثم قمنا بتوسيع نشاطنا من حيث الاهتمام بالتراث العنكاوي وتدوين الموروث الشعبي، ونجحنا في تاسيس متحفا لابأس به في قاعة مار يوحنا  في كنيسة ماركوركيس،  وجمعنا من خلال زياراتنا المكثفة للبيوت والشخصيات، وكانت الاستجابة رائعة جدا من قبل الاهالي لهذه المبادرة حيث جمعنا عددا كبيرا من الصور القديمة للبلدة وشخصياتها والات الصناعات الشعبية والادوات المنزلية الفخارية و الملابس الشعبية الفولوكلورية ومخطوطات واحجار واختام قديمة ..الخ ) 

وبقي هذا المتحف فاعلا لعدة سنوات يقصدونها الزوار،  وفي خلال هذه الفترة قمنا بتقديم مجموعة من المسرحيات المتواضعة في باحة الكنيسة من على المسرح المصنوع من الصناديق البلاستيك الحاوية للمشروبات الغازية والواح خشببية، معظمها كانت مسرحيات ذات طابع ديني واجتماعي ناقد باللغتين السريانية والعربية وكلها لاقت استحسان الجمهور وعرضت لعدة ايام، ساهم في هذه الاعمال عدد من كوادر وخريجي الاكاديمية ومعاهد الفنون الجميلة منهم الاخوة ( خليل لوقا، سامي صليوا ، رفيق نوري ، سيروان بطرس، مهند بطرس ، سلام شعيا واخرون)،  وكنا نقوم بهذه النشاطات والاجواء من حولنا كانت مشحونة بالرعب والملاحقة البوليسية والرقابة الشديدة من قبل اجهزة الامنية وازلام النظام في الفترة التي كان يشهد العراق حربا ضروسا ضد الجارة ايران وحملات تصفية ضد احزاب المعارضة من قبل النظام كانت على اشدها واقساها، وعنكاوا كانت في دائرة الخطر، الا اننا كنا نتحرك بحكمة وروية قدر المستطاع، وحاولنا الانطلاق الى دائرة اوسع والخروج من دائرة الكنيسة الى دائرة المؤسسات الثقافية والمجتمع، حيث تعاون معنا المرحوم الاستاذ ناصر يوسف، كونه كان يعمل انذاك في مؤسسة ثقافية حكومية ( دور الثقافة الجماهيرية) في تنظيم مهرجان " الاسبوع الثقافي لشباب عنكاوا " تقدم فيه مسرحيات ومعرض للكتاب والخط السرياني  ولوحات فنية ومسرحيات وبعض القصائد، وساعدنا في الحصول على الموافقة الرسمية من قبل الجهات المختصة، وتم الحصول على الموافقة المبدئية وقمنا بصياغة عنوان و شعار المهرجان وقام الزميل امير اوراهاد من بغداد بتصميم شعار المهرجان، الا انه بعد عرضه على اللجنة المشرفة في البداية لم توافق على الشعار ولكن بعد ذلك نجحنا في اقناع الجهة المختصة وحصلنا على الموافقة، ولكن قبل اطلاق المهرجان باسبوع تقريبا تأزم الوضع السياسي والامني  حيث وصلتنا اخبار ونصيحة من قبل البعض بأنه قد نقع ضحية هذا الوضع المتأزم حيث تم كشف خلية تنظيمية سرية لتنظيم اشوري محظور في كركوك اضافة الى ورود انباء عن نشوء حزب قومي وهو فصيل مسلح اشوري ضمن الحركة التحررية الكوردستانية، وان النظام يبحث عن كبش فداء لترهيب و كسر ارادة كل توجه قومي ناشئ بين شعبنا، تبادلنا هذه الاراء فيما بيننا وأرتاينا ان نؤجل اونلغي اقامة هذا المهرجان تجنبا لملابسات هذه الامور الخطيرة، وكانت حجتنا امام الجهات الرسمية لتاجيل المهرجان بان معظم القائمين عليه قد سيقوا الى الجبهات القتال.

وبعد ان تنوع نشاطنا الثقافي والفكري و توسع قاعدتنا في عنكاوا وخاصة في وسط الشبيبة، اصبحنا مصدر الريبة والشك لدى السلطة ويبدو اننا اثرنا حفيظة الجهاز الامني و الحزبي في البلدة وهم يتسائلون ماذا يفعلون هذه التجمعات الشبابية في الكنيسة و ماهي اهدافهم ، ولكن الكنيسة كانت محصنة الى حد ما من التحرشات والتدخلات المباشرة لهذه الاجهزة، الا انه صباح نهار صيفي داهمنا، مسؤول منظمة عنكاوا ( عباس نون ) ومعه بعض الرفاق من اعضاء المنظمة الحزبية في عنكاوا ونحن في الكنيسة وتحديدا في الغرفة التي كانت تسمى القليثة هذه الغرفة كانت ورشة عمل لنا من حيث تنظيم المخطوطات القديمة واعادة كتابة بعض المصادر التاريخية ولكن كنا قد تحسبنا مسبقا لمثل هذه المفاجئات الغير السارة والخطرة، كنا قد كومنا فوقها العشرات من جرائد الثورة ومجلة الف باء واصدارات اخرى رسمية للحكومة، فتحوا علينا باب الغرفة ملقين تحية الصباح وبصراحة كانت تحية حارة، وبعد السلام قال لنا رئيس المنظمة الحزبية  اننا كنا في جولة وارتأينا ان نسلم ونتعرف عليكم، وخلال حديثة كان يركز بنظره على الجرائد والمجلات الملقاة والمبعثرة بكثرة على الطاولة، بعد حديث قصير قال نحن نتابع نشاطاتكم بارتياح و قبل المغادرة جال بنظره في جميع ارجاء الغرفة و ركز جيدا على الوجوه محاولا التعرف على الاسماء مؤكدا استعداده لدعمنا والتعاون معنا ومن ثم غادرنا بسلام. بعد فترة قصيرة اتصل بعدد منا من اجل تنظيم حفلة عائلية ترفيهية في نادي موظفين عنكاوا بمناسبة حول مناسبة وطنية معينة لا اتذكر بالضبط ماذا كانت المناسبة، اجتمعنا فيما بيننا للتشاور وتبادل الراي واتفقنا على تنظيم الحفل كي لا نثير المزيد من الشكوك حولنا، وطلبوا منا ان نقدم لهم  منهاج الحفل، قمنا بتقديم لهم منهاج الحفل المكتوب باللغة العربية، ولكن في القاعة كان المنهاج معظمة باللغة السريانية تضمن مقاطع شعرية حماسية باللغة السريانية ذات ذات مغزى قومي حماسي وتم عزف وغناء العديد من الاغاني التي تتغني بارض وتاريخ بلاد الرافدين، اضافة الى فقرات ترفيهية، علمان بان كلمة الافتتاح والترحيب كانت بالعربية وبقية برنامج الحفل تقريبا كان كله (بالسورث)،  ومر الحفل الساهر بسلام واتذكر ان رئيس الهيئة الادارية لنادي الموظفين ابدى بعض الملاحظات القصيرة بحسن النية والحرص، وفي عصرية اليوم التالي للحفل اتصل بي صديق اعتقد انه كان كامل عيسى كوندا، موكدا ان المنظمة الحزبية ارسلت في طلب  عدد من اصدقائنا منظمي الحفل، وهم اكيد سيرسلون بطلبك ايضا ،عندها قررت الذهاب بنفسي الى المنظمة الحزبية كي لا اثير القلق لدى عائلتي عندما تاخذني سيارة المنظمة ولكي لا اثير اكثر شكوك المنظمة الحزبية وذهبت الى هناك وجدت هناك بقية المجموعة، وجائنا مسؤول المنظمة ( عباس نون ) مستفسرا بشدة ما الذي فعلتموه البارحة لم نفهم ماذا كنتم تقولون، قلنا لهم بأن المنهاج عندكم وما قلنا هو نفس المنهاج ولكن بالسورث كون المنطقة مسيحية وتتكلم بالسورث، واستفسر من الاخرين حول ما كنا نقوله قالوا انهم لا يفهمون اللغة السريانية الفصحى جيدا، المهم بعد ساعة من الاستفسارات شديدة اللهجة تم خلاء سبيلنا وعدنا سالمين الى بيوتنا، عرفنا من هنا قد برزت علامة استفهام واضحة وكبيرة لدى السلطة على هذه المجموعة وخاصة قادتها لذلك قمنا بتخفيف نشاطاتنا لفترة.

 ضمن احاديثنا بخصوص شؤون بلدتنا عنكاوا، كنا دائما نقول لماذا قام بعض المتنفذين في حزب السلطة الى تحويل البناية الجديدة الوحيدة المخصصة اصلا لتكون المركز الثقافي للشباب الى بار تحت اسم بار ( ميثاق ) ، علما هذا كان البار الوحيد الموجود في عنكاوا انذاك، حاولنا مع الجهات المسؤولة وبدعم الكنيسة ان يتم غلق هذا البار واستخدام البناية للنشاطات الثقافية والاجتماعية للشباب كما هو مخصص اصلا، لم نحصل الا على الوعود المعسولة دون جدوى، بعد ان يأسنا المحاولة، قررنا ان ننظم مظاهرة سلمية نطالب بغلق هذا البار الغير شرعي، وتجمعنا بحدود 20 الى 25 شاب وكانت نقطة الانطلاق من امام هذا البار، ولكن قبل ان يكتمل العدد والتوجه بالمظاهرة الى دار مدير الناحية قام عدد من الشباب الغاضبين والمتحمسين من بيننا برشق  البار والسيارات الراكنة امامه بالحجارة مما ادى الى تكسير زجاجات البار و الحاق الضرر بالسيارات، علما ان مكان البار لايبعد اكثر من 200 متر عن مركز شرطة ودائرة الامن في عنكاوا، لذلك لاحقتنا مفرزة من الشرطة والامن تصدينا لها بشجاعة ثم تم تعزيز القوة بمفارز امنية اخرى  ثم قررنا الهرب الا ان عددا من شبابنا وقعوا في ايدي رجال الامن بعد ملاحقتنا في شوارع وازقة عنكاوا ، وقادوهم الى غرفة التعذيب والاستجواب في دائرة الامن الكائنة في مركز شرطة عنكاوا،  بعد عدة ساعات من الحادث وهدوء الامر نسبيا تجمعنا مرة اخرى امام مركز شرطة عنكاوا مطالبين بالافراج عن اصدقائنا المعتقلين والا سنتقتحم المركز، وهنا زادت مخاوف السلطة في المنطقة وطالبوا بالمزيد من القوات لتطويقنا ولحماية المركز، الا انهم وعدونا بانهم سيفرجون بكفالة عن اصدقائنا بعد التحقيق معهم، وارسلوا لنا هذا الخبر عن طريق رجل دين الذي اوضح لنا بانه اتصل بالمحافظ الذي وعده خيرا وتاكد منه عن نبأ الافراج عن المجموعة المعتقلة، على شرط ان نتفرق ونذهب الى بيوتنا وقال ايضا ان الامن يتهم هؤلاء الشباب بالمتطرفين ويسعون ان يجعلوا من عنكاوا "لبنان وكتائب"، وافقنا على ذلك وتفرقنا من امام المركز ولكن بقينا حذرين ويقظين ومعظمنا لم يبيت في بيته وفعلا في اليوم التالي تم اطلاق سراح اصدقائنا بعد تعرضعم للتعذيب والضرب المبرح واخذ تعهدات بعدم قيامهم بمثل هكذا اعمال مستقبلا. رغم كل ذلك استمرينا في نشاطاتنا تحت ناقوس الكنيسة الى حين ولكن كما تعلمون اننا كنا طلاب جامعات وعلى ابواب التخرج والتحاق بالخدمة العسكرية لذلك ارتأينا ان نسلم راية العمل الى الرعيل القادم والذين هم من الطلبة الاصغر سنا ليكملوا المشوار وكانوا بحق مخلصين وغيارى وادو الرسالة بامانة.

اوجزت كل هذه الامور وبعض الوقائع والاحداث  التي واجهتنا كي اقول، كنا مجموعة من الشباب والشابات الغيارى الابرياء نعمل بشجاعة ونكرات الذات كاخوة ليس لنا غايات او طموحات شخصية مستعدين للتضحية في كل لحظة ولكن كنا نعمل بحكمة وحنكة دون اي تمييز او تفرقة بين هذا الاسم او ذاك محاولين اثبات وجودنا  والحفاظ على لغتنا وتراثنا وهويتنا الثقافية والتاريخية والقومية والدينية، ونحن محاصرون بالحديد والنار ولا نملك من الاموال الا ما كنا نصرفه من جيوبنا ونحن مازلنا طلاب. اني اتسائل اين نحن اليوم في عملنا من هذه الروحية والقيم التي كانت تسود الوسط الشبابي انذاك؟ اين نحن اليوم واين دورنا في التصدي لكل السلبيات والتحديات التي تجتاح شعبنا وبلداتنا، اين نحن اليوم والهجرة تنزف فينا والسعي وراء الكراسي والجاه والسلطة تشتتنا. اين نحن اليوم والمنافسة الغير الشريفة و الاستقواء بالاخرين تسود افعالنا، هل تعلمنا الدرس ام هل نريد ان نتعلم الدرس ونتعظ ام لا نريد؟ والاغرب في كل ذلك اننا نحاول ان برر كل هذه الافعال السوداء تحت شتى الذرائع والاعذار الواهية.