حديث الذكريات عن أقدم شارع بالموصل:

شارع نينوى.. مسيرة قرن من الزمان بين الخانات والدكاكين الأسواق 1913-2013

 

   

                                         

 

الجزء الثالث

                                          

                                                   

                                                                                              بهنام سليم حبابة 

 

أشرت لصاحبي إلى صيدلية (سليمان رمو) على الجانب الآخر ثم إلى دار سعيد عبوش التي أصبحت فيما بعد مقرا لغرفة تجارة الموصل. وبعد خطوات فهذه دار الصيدلي (عبو الحكيم)، ها هو جالس وأمامه زجاجات ملونه ملأى بالأدوية فهذا الشراب للسعال وذاك للإسهال وآخر للامساك.. وتراه متربعا على كرسيه وعلى رأسه الطربوش الكبير والنظارات على جبينه وعند القراءة ينزلها على عينيه. كان يباهي بداره ذات الطوابق الخمسة وقد باعها ابنه جميل نحو سنة 1958 بمبلغ 13الف دينار وكان يوم ذاك مبلغا ضخما جدا وهدمت الدار فيما بعد وأنشأت في المكان محلات تجارية. 

أمامنا محل باتا للأحذية وفوقه عيادة الدكتور (ناظم النكدي) طبيب المعارف ثم الدكتور عبدالهادي القاعاتي طبيب العيون وكلاهما من سوريا ومحل سنجر لمكائن الخياطة، اما العمارة فعائدة للصيدلي عبو الحكيم. سرنا قليلا فإذا نحن قبالة عيادة الدكتور (داؤد الجلبي) وذكرت لصاحبي أن هذا الطبيب هو من أعلام الموصل يتقن لغات عديدة وله مؤلفات كثيرة(ت1960)، وبعد قليل كنا أمام مدخل السراجخانة حيث تباع الأقمشة المختلفة للنساء، وفي المدخل ذاك (بيت شكر) وهم تجار مسيحيون كانوا من أغنياء ذلك الزمان. أما دكاكين الأقمشة فمنها لليهود وللمسيحيين والمسلمين .. والكل رزقهم على الله....

ولما تجاوزنا السرجخانة فهذا أمامنا بيت (خاتون خوقة) القديم يسكنه بعض القادمين من القرى إلى الموصل للارتزاق بعمل الخبز والبقلاوة...بجانبه بيت (مجيد دبدوب).. ..والطريق بعده الى مدخل الجامع الكبير وها هي منارة الحدباء الشهيرة، نحن الآن في محلة جامع الكبير، تلك عيادة الدكتور (عبد الستار الحبال) وتقابلها دار الدكتور (رؤوف عبو اليونان) وهي جميلة الطراز بشرفاتها الخشبية الهرمية وبجانبها كانت بائعة الأقمشة المدعوة (مريم امرأة بولس) كان ذلك نحو سنة1940.

ومالبثنا ان سمعنا دقات ساعة (البواتر) وهم الآباء الدومنكان الذين فتحوا المدارس والمستوصف والميتم وقاموا بخدمات عديدة لأبناء البلد وقد تعلم في مدارسهم الكثير من أبناء البلد مثل امجد وخير الدين العمري و روؤف العطار وعلي حسين الجميل وداؤد الجلبي وأيوب برصوم و د.حنا خياط وغيرهم كثيرون. وهذه (الساعة) كانت حسب التوقيت الغروبي (الغروب من الساعة12) لتنبيه أبناء البلد إلى أوقات الصلاة لان معظم الناس ليس لديهم ساعات ويجهلون المواعيد والأوقات.

وها هي منصة شرطي المرور في وسط الشارع وهنا يقف بعض العمال البطالين يطلبون عملا وهناك بعض الدكاكين لبيع خضراوات وغير ذلك  وانتهت مرحلتنا الثالثة لنستريح قليلا ثم نكمل المسيرة إلى رأس الجادة.

هنا سألني رفيقي عن الطرقات العتيقة التي نشاهدها هنا وهناك، فأخبرته أن بعضها شمالا يصل إلى حظيرة السادة وتكية النقشبندية ثم إلى حي (محلة اليهود) الخاص بسكناهم وعددهم أكثر من 500 بيت. أما جنوبا فهذه القنطرة وهذا باب الميتم للآباء الدومنكان، وتودي هذه الطرق إلى محلة اسمها المياسة فنرى أولا (مسجد المتعافي) ومقهى قديما وكثيرا من البيوت العريقة بأسمائها. ولنعد إلى أمام القنطرة... إن هذا الطريق يؤدي إلى محلة الرابعية والمنصورية ثم إلى منطقة باب الجديد (وقد فتحوه شارعا واسعا باسم شارع الفاروق سنة 1946).

على أننا انصرفنا لاكمال مسيرتنا في شارع نينوى إلى منطقة خزرج ثم إلى رأس الجادة حسب منهاج سيرنا في شارع نينوى الجديد وقد بدأ يضيق عن السابق.

هذه دكاكين صغيرة مختلفة منها للقصابين ثم واجهات بعض البيوت القديمة على الشارع من هنا وهناك. هذا الممر يؤدي كنيسة مارتوما ثم ماركوركيس القديمتين وهنا منطقة خزرج العريقة وهي من المواقع القديمة في الموصل، والموقع مزدحم ببعض المارة رائحين إلى منطقة باب البيض حيث جامع الزيواني (والمنارة المقصوصة) وهو جامع باب البيض وحوله بيوت أغوات (باب البيض). لكننا من خزرج نشاهد الطريق الآخر وهو ذو منعطفات يؤدي إلى (المشاهده) ومنطقة بيت (سيد توحي) المشهورين بالتعزيم والقدرة على شفاء المصابين والممسوسين عقليا والعياذ بالله.

أخبرت صاحبي أن في منطقة خزرج هذه تنتشر بيوت المسيحيين وجيرانهم المسلمين جنبا إلى جنب ومن أسماء المسيحيين في هذه المنطقة (بيت اسوفي، بيت سرسم وبيت شعيا).

ثم أكملنا سيرنا إلى رأس الجادة فشاهدنا أمامنا مستوصف خزرج تقابله مدرسة باب البيض وهذه بيوت الأسر القديمة (عموري والقطان وددي) وذكرت لصاحبي إن هذا الشارع من خزرج إلى رأس الجادة كان قد تأخر فتحه وتبليطه الى سنة 1921.

ذاك جامع المحموديين وعلى اسمه سميت المحلة، والمدرسة وههم أولاد الطعان والنجماوي يتعلمون في المدرسة وهذا بيت جرجس ددي على الشارع العام، وهكذا نشاهد بعض الدكاكين المتفرقة في رأس الجادة حيث (البانزينخانة) التي تعمل باليد وسعر الكالون الواحد (104فلوس) مائة فلس السعر وأربعة فلوس الربح. وتلك بعض المقاعد الخشبية (المتهالكة) في مقهى رأس الجادة وبعض الشيوخ جالسين يتداولون في أمور الدنيا وفيهم من يتحزب لهتلر وغيرهم لموسوليني أو للمسقوفي... وهنا ينتهي شارع نينوى وقد انتهت المرحلة الأخيرة من تبليطه سنة 1921، ولا شي بعد ذلك إلى سكة القطار البعيدة والشارع ترابي، يمينا نرى موقع (تل كناس) حيث المشفى الوحيد في المدينة وأشرت لصاحبي حيث موقع قبر البنت والطريق المؤدي إلى تلعفر وتنتشر هناك مواقع مقبرة الأرمن والاثوريين في المكان المدعو (بستوطات = بصلوثات) القديمة ويقابل موقع رأس الجادة جنوبا الطريق المؤدي إلى باب البيض حيث تكية الأغوات أما منطقة موصل الجديدة فلم يكن لها اثر. انما بعد 1947 اشترى الآباء الدومنكان نحو 50 ألف متر من أولاد عبو اليسي وشرعوا بالبناء. أولا المدرسة (الثانوية الاهلية كلية الموصل) ثن ميتم ودير للراهبات وأخذت المنطقة تزدهر بشوارعها وأسواقها وجوامعها وكنائسها بحيث أصبحت مدينة حية. ثم قامت البلدية برصف الشوارع واصبحت الموصل الجديدة اليوم بلدة عامرة مكتظة بالناس والاسواق واتلمحلات التجارية والصناعية المختلفة..كل ذلك بعد عام 1950...

جلسنا للاستراحة في المقهى أمام (البانزينخانة) ثم تهيئنا للعودة أدراجنا بعد هذه المسيرة الاستكشافية والتاريخية الممتعة ورحم الله أيام زمان......