في ذِكرى استِشْهادِ المَلاكِ المَذْبوح

 

                                            

 

 

 

 

 

 

                                                                     

                                                           مارتن بني

                حينما تغرق في الأحلام، تكون في دنيا ثانية حلَّقت بك بعيداً عن الأرضيّات واتّجَهَتْ نحو السماويّات؛ ولكن عندما تصحو تكتشف حقائقَ تُنسيك ما كنت تحلم به. كانت تلك الدقائق مرعبة ومخيفة، صوتها كصوت البومة، وعويلها كعواء الذئب.

نُحِرَ العصفور والنسور يتفرَّجون، وذُبِحَ الحمام والبومة تَسْخر؛ كان نهار يوم الأحد 3/6/2007 من أبشع الأيّام في حياة مسيحيي العراق، بل في حياة العراقيين جميعاً؛ فقد قُتل فيه أربعة شبّان بعمر الورود، لأنهم تفتحوا صباحاً عند شروق الشمس وليس عند غروبها. وها هو اليوم الذي فيه تُصادف الذكرى الخامسة لاستشهاد ذلك الطفل الوديع مع رفاقه، ذلك الطفل الصغير الذي اشتاق إلى أحضان أبيه السماوي، فعاد إليه مُسرعاً.

قُتل الأب رغيد عزيز كَنِّي في مدينة الموصل، دون أن يرتكب أي ذنب أو أي فعل غير لائق تجاه إخوته البشر، ولا حتى تجاه نحلة او نملة، قُتل وسط الشوارع المظلمة وكأنها شوارع وادي هنُّوم، تمشي فيها خائفاً مرعَباً، فلا تعلم هل تُقتل أم تُذبح، أم تُقطَّع أوصالاً، وبعدها ترى أشلائك مباعة في السوق السوداء.

كانت الشمسُ سوداء، والريح تبعث نسائم هواء محمَّلة بغبار، يخترق أجوافَ معدة الأطفال. لم يكن الأب رغيد سوى رسولاً يحمل بجعبته رسالة من تؤمنون به، ولم يبغِ أكثر من أن نفهمها، وكيف يجب علينا أن نعيشها كبشر محبين لبعضنا، كما أوصاه معلِّمه، وأن نفهم أحدنا الآخر كأناس خُلقوا لأجل أن يعيشوا لا لأجل أن يموتوا، أن يتآلفوا لا أن يتقاتلوا، أن يحبّوا لا أن يبغضوا.

إن حياتنا في كثير من الآونات تتطلَّبُ الشجاعة، فما كان من الأب رغيد في تلك اللحظة إلّا أن يُبرزَ شجاعته وعزمه على الاستشهاد، لكن هذا لم يكن كافياً! فلولا محبَّته لربِّه التي دفعته إلى الاستشهاد –كما قدّم استاذه نفسه ذبيحة على الصليب- لما كان له أن يكون مثل معلِّمه. إن بذار الشهادة نتيجتها هو الحب، الحب الأعظم الذي لا مثيل له على وجه الأرض، الحب الذي يجعل الإنسان يعطي نفسه من أجل أحبائه.

ربّما قُتل الأب رغيد، لأن في النفس البشرية لا بد من وجود حب وبغض، ففي لحظات يتغلَّب البغض على الحب فينجم عنه تدمير كل شيء أمامنا، وهذا هو الكره الأعظم الذي، يقابل الحبَّ الأعظم؛ يعطي فيه الإنسان حياته لأجل أنانيته، ولأجل ذاته وكبريائه، ورغبته في الطمع والجشع والسلطة، واللبن والعسل والخمر، وقيادة الغزوات السماويّة.

وإن فقدنا شخصاً عزيزاً وكاهناً غيوراً غَفَرَ لقاتليه وصلَّى لأجلهم، فالله يحيينا بدم هؤلاء الشهداء، فشهادتهم لن تضعفنا وإيماننا، بل على العكس فهي تزيد من إصرارنا على خدمتنا ومحبَّتنا لبعضنا ولربِّنا.

يبقى علينا أن نسأل العميان، ما هو مصيرنا في المستقبل، هل لا زلتم تسعون وراءنا؟! لا زلتم تفتّشون عنّ الّذين أحبّوا الحياة، ورغبوا في أن يكونوا مع أبناء جلدتهم في كل وقت، وفي السرّاء والضرّاء، قلوبكم غير مبصرة، وآذانكم صمّاء؟! فنحن بكلِّ أطيافنا وألواننا نقف أمامكم ونواجهكم، ولن تخيفنا بعض قطع الحديد من أيديكم المشلولة، ولن تفزعنا أصوات رصاصاتكم، وإنّما تذكّروا أننا أقوى من الأسلحة والقنابل، ولنا رجاءنا وأملنا ومحبّتنا.