الحلقة الحادية عشر والثانية عشر

 

القوش التي صــعـُبَت على انياب الفاشست لا تخدشها مخالب شراذمها

 

                                                               

                                       

                                   

                                           

                                               

                                              شوكت توسا 

                                             

                 ((  إن الذي يصدع رؤوسنا  تارة بقوانة انتسابه الى القوش مدعيا الدفاع عن هويتها و تارة في تسفيه نضالات أبنائها  , و تارة أخرى يستميت دفاعا عن مدرسة بعثه العروبيه تحت يافطة إدعائه بالكلدانيه, نمونة متناقضه  كهذه يجب ان  تعلم بانها في هذيانها  إنما تمجد بقتلة  ابناء شعبنا  و تطعن القوش ونضالات ابناءها  في الخاصره))  

إن ما نبتغيه من سرد ما منــّت ْ علينا به الذاكره, ليس سوى محاوله تذكير متواضعه بشواهد جرائم الطغاة  وهي رساله لكل من يقع اسيرا  لنزواته او صريعا امام حجم الكعكعة , رساله تؤكد  بان مصير من يتمادى بحق أهله  وشعبه  لن يكون افضل من الذين سبقوه ولن يسكت عنه  المظلومون  بل ستلاحقه اللعنات  حتى بعد مماته .

جدير بنا هنا التأكيد  بانه ليس بمقدور أسطر مقاله مقتضبه تغطية تفاصيل مسلسل معاناة لشعب هُجولت أحواله أربعة عقود عجاف بقوة الحديد ونيرانه الحارقه ,لو شاء أحد ان يتفحص  حاضر بلد  مر زهاء العقد على الإطاحة بنظامه الديكتاتوري ,  يستنتج بان طعم علقم النظام القمعي وحنضله  الذي تجرعه العراقيون مازالت أحشاءهم تتلوى من شدةمرارته , ففسيفاء نسيج العراق مستباح , ولوائح متاحفه مبعثرة هنا وهناك  وثرواته الخياليه تفرهدت  و طاقات شعبه عُطلت  وعقوله هُجرت أو صُفيت او سُممت  وما زال إفتعال الازمات والنزاعات  قائم على قدم وساق من اجل تحقيق المزيد من اللغف السحت , كل هذا يتم  تحت شماعة إنقاذ  شعب من نظام طاغوتٍ ,ليس إنصافا منا مقارنة سوء أحوال اليوم بسيئات مضت  حتى نبرر جرائم الإثنين , فالقاصي والداني بات يدرك  بان ما تم تنفيذه بالامس وهكذا اليوم  انما حصل بمباركة القوى التي جاءتنا  متحالفة باسم قوات التحرير .

إن الطوفان الحاصل اليوم  في العراق هو خراج تلك الغيمة السوداء  التي لبدت سماء بلاد بيث نهرين عقودا عجاف فرخــّت لنا ليال عاصفه وقراقيع مدويه وهزات مدمره  إستكملت جرائما لم يتسنى للنظام السابق تنفيذها,  أما الإدعاء بان سر بقاء البعث  كذا عقود في الحكم  كان خارج إرادة الغرب(الديمقراطي) ومباركته فهو كلام باطل  ,انما الحقيقة هي ان المعسكر الغربي ذاته هو الذي غطى و بكل سفاهه على  جرائم إرتكبها النظام السابق بحق الشعب  ولم يرعوي هذا الغرب لازاحته بسبب معاناة العراقيين إنما مصالحه  وأجندته المستجده  إقتضت ذلك.

  في عام 1968 غادرت القوش ملتحقا بالدراسة في إحدى كليات جامعة الموصل  , غادرت بلدتي  قبل ان اكمل الثامنه عشر بذاكرة محمــلّة ٌ بعوامل الانكسارالتي زرعتها  في اذهاننا جرائم أكبر من أن يتحملها صبية من قطعي لابل كانت من الوحشيه  بدرجه تركت آثارها الواضحه على بلدة صغيره كألقوش ردها طويلا  بسبب مواقف أهلها الوطنيه , أقول كأي مغادر لأجواء الريف وحياتها التقليديه البريئه , بدت لي حياة الجامعه  بمثابة عالم جديد وجذاب ضمّ  طلبه وطالبات من مختلف المدن العراقيه  و من قرى محافظة نينوى.

مع حلاوة ايام الحياة الجامعيه  وتعدد فرص لقاءاتنا الطلابيه وتنوعها عبر حفلات التعارف والندوات والسفرات وتكرار جلسات تبادل الاحاديث في أماسي القسم الداخلي, شكلت هذه الفعاليات فرصا وحوافزا  تعلمت فيها القدر الذي تسنى لعمري العقلي إستيعابه  في تلك الأجواء , خاصة  لقاءات ندوة الإيمان الأسبوعيه  لطلبة الجامعه الكلدواشوريين السريان في مدرسة أم المعونه بالدواسه, ندوة ٌ يوحي ظاهر إسمها وإدارتها  بأنها دينيه , فقد  أشرف عليها المرحوم الدكتور الاب يوسف حبي والاب بطرس متي  ثم انظم اليهماالاب جاك اسحق كتو (مطران حاليا) , اقول ظاهرها كان دينيا لان حقيقتها كانت مثابة تجمع  طلابي خليط من الجنسين بين مستقلين ويساريين  وقوميين جمعتهم مظلة دينيه مفترضه لم يتجرأ أحد إعلان خلافها , كان للجانب الثقافي كما السياسي و الإجتماعي النصيب الاوفرمن أحاديث ونقاشات معظم اللقاءات, كان لهذا التنوع في الحوارات تأثيره  الإيجابي الواضح  في تحفيز عقولنا للتفكير الجاد بما يدور من حولنا ,اما  الجانب الديني فكان مقتصرا على قراءة من الانجيل في بداية كل ندوه  , ولكن ما أكثر ما تساءلت مع نفسي عن لغز إقتصار عضوية هذه الندوه على الطلبه الألقوشيين والإخوة الاشوريين دون غيرهم  اللهم عدا طالبين او ثلاثه  من  كرملش وبغديده , في حين كانت جامعة الموصل تضم المئات من الطلبة المسيحيين من مدن وقرى أخرى .

  من مجمل تلك  اللقاءات والعلاقات الشبابيه الجديده بدأت أدرك بأن ألقوش لم تكن البلده الوحيده التي طال أهلها  ظلم أجهزة السلطه , انما ظلم وقهر الفاشست شمل مناطق عديده من مدن وقرى العراق  لكن بفارق محسوس  وضع القوش في مقدمة البلدات المبتلاة بقمع تلك الأنظمه  ,بالتالي كان لابد لتلاقح أشجان تلك اللقاءات أن تنسج أرضية مشتركه من الأفكار والتطلعات علاوة على ما إعتمر في الخلجات من حسرات في بلداتنا التي قدمنا منها , فقد أضافت هذه الأجواء الجديده عواملا  هيأت العديد من الطلبة نفسيا وفكريا  ومن ضمنهم  كاتب السطور للإنضمام والعمل في مجال تنظيم اتحاد الطلبه العام الذي كان يقوده الشهيد الشيوعي المعروف حبيب المالح  على مستوى الجامعه.

حلاوة أسم ألقوش حنضل  في ألسن السفاحين :

 في ظهر خميس ٍ من ت 2  1969,  بينما كان الدكتور يوئيل عزيز يلقي علينا محاضره, طرق فراش القسم  باب قاعة المحاضره وسلم الاستاذ المحاضر قصاصة ورق صغيره, بعد أن قرأ مضمونها  أبلغني بان معاون العميد لشؤون الطلبه( تم تعيينه بهذا المنصب كونه بعثيا وحرس قومي ) يطلب حضوري  أمامه , غادرت  المحاضره برفقة الفراش  وقلبي ينبئني بان أمري قد إنكشف , حال مثولي امامه سلمت عليه بحسب الاصول , لكن كما يقال طبع المتعجرف لا يغيره الا الكفن, حيث رد علي بانه سيريني نجوم الليل في الضحى ان لم أعترف  بالحقيقه, ثم سألني منين أنت؟   وقع جوابي كالصاعقه على جمجمته  عندما سمع باني من القوش ,ومن شدةغضبه بدأ يضحك بهستيريا وتهكم قائلا باللهجه الموصليه :

)) يعني هَمْ نصغاني وهَمْ القوشي وتغيد تناضل بغاسنا!!  نحن نعرف القوشكم جيدا ونعرف اوكار المخربين الشيوعيين , وقد جئناها اكثر من مره لتاديبكم , واضاف بكل صلافه : في 1963 ارديت احدكم برشاشتي  قتيلا عندما حاول ان يقاومني من داخل السرداب , ولا أعتقد بان دمك اغلى علينا من دمه  _مؤشرا بيده الى مسدس موضوع أمامه_ هل ستعترف  بتمزيق مناشيرالاتحاد الوطني وإلصاق مناشير الشيوعيين )) ام لا ؟دارت  الدنيا  برأسي عندما سمعته يتباهى بحادثة  قتل ذلك المسن الاعزل التي يعرفها الالقوشييون جيدا .

تمالكت نفسي وأجبته  أن لا علم لي عن ماذا يتكلم  ولا علاقة  لي لا بلصق مناشيرولا بتمزيق أخرى ,  حينهاإنقلب شكله الى وحش  كاسر مكشرا أنيابه بوجهي وكأني قزما او عبدا جيئ بي امامه بتهمة هتك  شرف الوالي  , ثم  إنتفض من كرسيه متظاهرا بانه ينوي ضربي مثلما إعتاد رجال الامن ,  فجأة رن تلفونه ,لم اسمع منه سوى  جملة اي نعم , وبعدها مباشرة دخل مسؤول الاتحاد الوطني  المدعو عماد , لست متأكدا إن كان دخوله صدفة ام بقصد, كل ما كنت أعرفه عن عماد هو تظاهره بالطيب  والمجاملات , و اعرف ايضا  ان والده عبدالرحمن كان كثير التردد الى القوش بحكم عمله في الاشراف  التربوي , سألني عماد  ان كنت فعلا  انا الذي كسر قفل  باب غرفة الرياضه, اجبته بنعم وأوضحت له سبب كسره , فجأة توجه المعاون بكلامه الى عماد قائلا:  يا عماد  عليكم انتم في الاتحاد فتح محضر للتحقيق وتثبيت افادات الشهود  كي نتخذ الإجراءات اللازمه ,و بأسلوبه الغير المؤدب  أمرني بترك الغرفة ومراجعة عماد في غرفة إتحادهم .

ما الذي حصل قبل يوم  :

كالمعتاد  , كان مدرب فريق كرة القدم  في كليتنا  الاستاذ المرحوم كامل مشاط  (خريج المانيا  انتحر لاحقا لاسباب خاصه)  قد ابلغنا  بموعد تدريبي للفريق في عصر يوم الأربعاء, والكليه  في مثل هذا الوقت تخلو من الطلبه و منتسبيها  ,وجدها مسؤول تنظيمنا الطلابي فرصة مناسبه يمكن إستغلالها , الفكره كانت انني اثناء التدريب سوف اتظاهر باوجاع والام في بطني تستوجب مغادرتي  الملعب  والذهاب الى غرفة الرياضه (المنزع)  لتبديل ملابسي  حيث  المناشيرمخفيه  في ملابسي, وفعلا اثناء التدريب تظاهرت بأوجاع في معدتي  فأوعز المدرب لي بالذهاب للراحه في القسم الداخلي  او مراجعة المستشفى.

عند وصولي  المنزع  الذي يبعد عن ساحة التدريب قرابة المئتين متر, وجدت بابه مقفولا  ,ولكي أنفذ واجبي بسرعه  فضلت كسرالقفل  دون العودة للساحه وطلب المفتاح ثم إعادته مره ثانيه لكنني لم أتحسب لتبعة كسر القفل ,بعد تغيير ملابسي اخذت المناشير ومادة الصمغ بسرعه  وألصقتها فوق مناشير البعثيين ثم  أنصرفت خارجا من الكليه.

عند انتهاء فترة التدريب , عاد اللاعبون الى المنزع  دون ان يعر اي منهم اهمية للقفل المكسورعدا احدهم  ( بعثي وعضو في الاتحاد الوطني ) الذي استغرب كيف دخل البقية  قبله الى المنزع و مفتاح القفل كان في حوزته , وعندما استفسر من اللاعبين اجابوه بان الباب لم يكن مقفولا, في المساء أتاني هذا البعثي الى القسم الداخلي بحجة السؤال عن صحتي , سالني ان كنت انا الذي كسر القفل قلت له نعم  لاني لم استطع العودة لأخذ المفتاح من شدة الام بطني , بدا له الامر طبيعيا لا يتطلب سوى شراء قفل جديد , لكن  المشكله كانت في اليوم التالي عندما وجدوا مناشير اتحاد الطلبه  قد غطت مناشيرهم في الكليه , حيث أثناء تحقيقهم عن الأمر, اعتمدوا المعلومه التي قدمها لهم اللاعب البعثي في تحقيقهم فقادتهم الى اتهامي  بتمزيق بياناتهم والصاق بياناتنا على اعتبار اني إنفردت لوحدي في بناية الكليه في ذلك الوقت . هذا ما حصل معي قبل يوم .

خرجت من غرفة معاون العميد  قلقا حائرا ,أسرعت لأخذ كتبي من القاعه متجاهلا امر مراجعة عماد في غرفة اتحادهم  ,وبعد ان ابلغت  احد أصدقائي  بما جرى خرجت متوجها الى باب الجامعه ثم ركبت الباص رقم 9 الى باب الطوب(مركز المدينه) حيث  الباص الى حمام العليل لاني كنت قد قررت قضاء عطلة الخميس والجمعه مع شقيقي الاكبر في كلية الزراعه بحمام العليل, لم تكن لشقيقي اية علاقة بشئ اسمه سياسه , وبعد ان حكيت له الجزء المتعلق بالم بطني وكسر القفل  تشجع على مساعدتي , من حسن الحظ كان يسكن معه في القسم الداخلي طالبان بعثيان تربطه بهما علاقة صداقه , احدهما  كان سكرتير الاتحاد الوطني في كلية الزراعه , في تلك الليله شرح شقيقي الموقف  لهما فوعداه بالتدخل وفض مشكلة القفل المكسور , نتيجة  لإصراري على عدم الصاقي او تمزيقي لاي منشور وعدم ورود اي شهاده ضدي عداإفادة المرحوم المدرب كامل المشاط الذي أيد  بقية اعضاء الفريق قوله بان آلام بطني كانت سبب مغادرتي الملعب , سارت الامور لصالحي  وإكتفوا بتغريمي  درهمين  ثمن قفل جديد.

الشمره الالقوشيه  في الجامعه :

 أثناء كل حملة إنتخابيه ,كنا نشهد تصعيد الإعتداءات على الطلبه الغير البعثيين داخل حرم الجامعه , من جملة تلك الاعتداءات قيام مجموعه  من البعثيين بالاعتداء بالضرب المبرح على إثنين من طلبة كليتنا ( الصديقان عبد الخالق رشيد  من دهوك , وحميد الجاف من السليمانيه) , سبق ذلك  ضرب الطالب الشيوعي سعدون السعدون  الذي نقل على أثرها للمستشفى .

 نتيجة حادثة ضرب الطالبين  الكرديين, و هكذا الصديق الشطراوي سعدون وحوادث اخرى مماثله , ساد الكليه  والجامعه جوا مشحونا بالترقب والحذر من البعثيين ورجال الأمن, كنت وقتها مكلفا بمسؤولية خلية مكونه من أربعه طلاب أعتذر عن ذكر أسمائهم , المهم اثنان منهم القوشيان,  يعيش  أحدهما حاليا  في لندن والآخر في كندا  ,و آخران  احدهما من عينكاوه يعيش حاليا في السويد  وزميل آخر من كركوك يعيش  في شيكاغو, كانت التعليمات الصادره للتنظيم  تؤكد على التقليل من التحرك واللقاءات العلنيه بسبب تلك الاوضاع .

 في أحد تلك الايام  المضطربه, صادفني صديقان ألقوشيان أحدهما يعيش حاليا في اميركا والاخر في استراليا(اترك لهما حرية الاعلان عن اسمائهما ) رايتهما  قادمان من  طرف كلية العلوم متوجهان نحو بناية ثانوية الزراعه , سألتهما: الى اين انتما ذاهبان ؟ اجاباني بكل عفويه : نحن ذاهبان لتأديب  الشخص الذي دبر الإعتداء على الطالبين الكرديين. بصراحه أصبت بحرج وحيره امامهما ,  لا أدري هل ارافقهما واسمي مسجل في قائمة معاون العميد السوداء علاوة على التعليمات التي تفرض علينا التحفظ ,  ام أمنعهما من الذهاب , أم أتركهما لحالهما  للقيام بعمل لا احد يعرف عواقبه , في النهاية تمكنت من إقناعهما بالعدول  تفاديا من وقوع الأسوء.

هذا سرد يسير من فيض مواقف لا استطيع وصفها بالبطوليه او تقييمها باكثر من كونها متواضعه  لو قورنت بمواقف أؤلئك الابطال الذين وضعوا أرواحهم في راحات اكفهم وحملوا السلاح ودخلوا السجون وإستشهدوامن اجل الحرية والكرامه ,وبسبب  تلك المواقف وتطلعات أصحابها طالت معانات القوش مع طول حكم الفاشست للعراق.