الاثار الاشورية في خنس وموقعها الاثري على نهر الگومل

 

                                            

 

 

                                                       منذر كله

        

                 تعتز الشعوب بتاريخها وحضارتها لانها القلب النابض لها والضياء الوحيد المنبعث من  بين الظلام الدامس حيث التاريخ القديم العريق الموغل في القدم ، ذلك النور الذي يعكس مدى اصرار الانسان على صناعة التاريخ بالتضحيات والعمل المتواصل الدؤوب ، وهكذا وثب الملك الآشوري سنحاريب قبل 2700سنة تقريبا وثبة الاسد عندما عرف ان بلده يتعرض الى جفاف وقلة سقوط الامطار وشحة  مياه نهر دجلة ، فأنطلق شمالاً الى خنس وبافيان  شمال خورسباد العاصمة حيث نهر الگومل ينساب كالافعى وسط الجبال والوهاد القفراء ، فوضع مخططه الهندسي في حفر ساقيته الشهيرة في قلب الجبل القائم (عموديا ) على النهر ، وتم رفع الماء الى المنسوب المطلوب ليسيل  في الساقية المؤدية الى سد او عبارة جروانة والاراضي الزراعية القريبة العطشى لتخضر الربوع وترجع لها الحياة، والماء الزائد يرسل الى نهر الخوصر ليصب اخيرا في نهر دجلة

 

ان الآثار مجال البحث كانت قبل عدة سنوات والسنين الكثيرة السابقة متروكة ومباحة امام الناس ذهابا وايابا لارقيب عليها من قبل احد ولهذا شهدت تخريبا من قبل  الذين لايفهمون التاريخ ولايعطون معنى للآثار وتم تلف الكثير من معالمها سواءا بقصد او غير قصد وخاصة قبل عام 2003 م فأن جميع الاراضي والقرى كانت عرضة للانتهاك والاستغلال من قبل الجيش وقطعاته الاخرة ، وبهذا خسر العراق معلومات ثمينة لاهم معلم اثري اشوري ، بالاضافة الى عبارة جروانة التي كانت موقعا للرعيان ومحلا للماشية العائدة لسكان القرى القريبة لابل كانت الاحجار المكتوب عليها عرضة للسرقة من قبل هذا وذلك ولأن عملي يتعلق بمسح الاراضي الزراعية والمقاطعات في الشيخان لذلك كنت ارصد الموقع من قريب واقف في موقع العبارة متأسفا لما يجري للآثار من تخريب وتدمير  وليس باليد حيلة وعندما نبلغ الجهات المسؤولة عن مايجري كان الجواب سلبيا وغير مبالي بما يحدث

 

وقبل الحديث عن الآثار الآشورية في خنس لابد الى الاشارة الى نهر الگومل الذي يعتبر القلب النابض للآثار في خنس

نهر الگومل :

 

هو مسيل ماء جبلي واسع نوعا ما ، يقع شمال شرق قضاء الشيخان (عين سفني ) مسافة 9 كم . وينبع النهر من الجبال والاراضي الواقعة شمالا  وعلى امتداد القرى ( دزي واساس وبرتون ومكيرس وديرخطره وشهيا وهارونة وكوخي وبافيان وخنس ) التابعة لناحية اتروش ، يبلغ طول النهر 60 كم تقريبا ، يجري باتجاه الجنوب فيخترق العديد من القرى (منها قرى بارشة بافيان دربستة بيران بيربوب زيناوات تل جومل بيران مقلوب) الى ان يلتقي بنهر الخازر بالقرب من قرية پيران مقلوب وقيماوة  ، ينحدر النهر في وادي متعرج ذي سطح مستو تقوم على جانبيه جدران من الكتل الصخرية العمودية وعلى السفوح الغربية مباشرة الى الاعلى ، وعند موقع خنس تقوم مقصورة رائعة لصورة معروفة جدا عند المختصين بالاثار الآشورية ، المنحوتة البارزة الرئيسية هي لوح هائل الحجم مربع الشكل منقور ومصقول في وجه كتلة صخرية تعلو المجرى مباشرة وتتضمن اربعة رسوم بشرية جبارة الحجم هي الان مهشمة مشوهة بفعل الزمن ومؤثرات الطبيعة .

 

يقول الرحالة ( ويكرام ) من اسكتلندا في كتابه مهد البشرية الصادر عام1921:

(ان المنحوتة الاشورية في خنس على نهر الكومل مذهلة بعزلتها هنا في هذا الوادي القفر وتوجد فوق هذه اللوحة حوالي عشر منحوتات على صف واحد في اعلى طبقة من الجرف وتحت المنحوتات يوجد في قاع البحر لوحتان عظيمتان غمرهما الماء الى النصف تحتوي الصورة في اللوح الاكبر على شكلين مكررين كل نصف من الصورة اشبه بالمراة العاكسة للنصف الاخر .)

 

هذه الصدفة ساعدت كثيراً على فهم تفاصيل اللوح اذ بعد حوال الف سنة من نحت هذه الصورة قدمت هذه الانحاء جماعة من الرهبان التائهين ليتخذوا الوادي مستقر لهم ، ونقروا في وجه السفح مجموعة من الصوامع وفتحوا شبابيكها وسط اللوح دون الاهتمام بالمنحوتات المنقوشة على سطحها . يعرض المنظر الملك سنحاريب وهو يقدم القرابين الى الالهة عشتار وقد دون فيها اخبار تدميره بابل التي كانت قد ثارت عليه في بداية حكمه فاستولى عليها عنوةً ودكها دكاً .

 

اما الالواح العليا في الجرف يشبه احدهما الاخر فرؤوسهما نصف دائرية منقوشة عليها صورة الملك اما اللوحان الكبيرا الغاطسان في الماء فالاول منهما قد نقش على وجهه ثلاث صور بشرية هي الاله بعل وشخصان يتقدمان اليه بالدعاء وقد نقش على احد اركانه صورة صغيرة لثور مجنح برأس انسان ، على ان اللوح الثاني مشوه المعالم بحيث يتعذر تحديد شكل الصور فيه . ان جرف الكومل الصخري كان مقلعاً من المقالع الحجرية الكبرى التي كانت تمد نينوى بالمواد الرخامية اللازمة لانشاء قصورها واغلب هذه الكتل الضخمة كانت تقطع في مقالع المرمر العليا ويؤتى بها الى ضفة النهر قرب المنحوتة الكبيرة في الاسفل وهم يسلكون بها طريقاً واسعاً ممهداً وما زالت اثاره واضحة حتى اليوم وبعد ذلك يضعون الكتل فوق اسطوانات خشبية كانت بمثابة عجلة بسيطة معدة تحت الضفة قريباً من ماء النهر ويدحرجونها حتى تستقر بسلام على كومة من الرمل والحصى . وهذا العمل يجري في الصيف عندما تكون مياه النهر (ضحضاحة ) ثم يحفر الرمل والحصى تحت الكتل ويزال جزء منها ويوضع في الفراغ طوف من الاطواف المعروفة ( بالكلك ) مصنوع من جذوع الخشب المشدود بعضها الى البعض وتحتها جراب منفوخة وعندما يرتفع منسوب الماء تؤخذ القطع الحجرية بطريق النهر الى دجلة حيث تنزل مباشرة تحت اسوار نينوى . واللوحان الغائصان الان في الماء كان المقصود ان ينقلا بهذه الطريقة على ما يبدو ولسبب لا نتستطيع تخمينه بالضبط تركا ولم يحملا الى الطوف .

 

لا بد من الاشارة الى سد جروانة الاثري او مايسمى بعبارة جروانة الذي بناه الملك سنحاريب ليمد نينوى بالماء ، ان هذا السد يقع شرق عين سفني مسافة 10 كيلومتر تقريباً ولا تزال اثاره شاهدة للعيان والسد يتكون من سواق خمسة رئيسية وبوابة مهمة لتنظيم تدفق الماء في السواقي المذكورة كلها عبارة عن مكعبات من الحجر مشيدة بشكل هندسي علمي رائع ، كان السد يجمع مياه الامطار لفصلي الشتاء والربيع من خلال عشرات الينابيع المتدفقة في وادي جروانة شمال السد والوديان العميقة في حوض باصفنى وتلال مام رشان وعين سفني بالاضافة الى المياه الواردة اليه من الساقية الشرقية من خنس ونهر الگومل وان المياه كانت تخترق السهل جنوب السد وتحوله الى اراضي مروية والمياه الزائدة تصرف الى نهر الخوصر بواسطة مبازل حيث تعزز مياه نهر دجلة .

 

الاشوريون كالرومان كانوا يستثمرون طاقات بشرية هائلة بابخس الاثمان ، واستخدموا افواج الاسرى من الرجال الذين وقعوا في ايديهم خلال حروبهم كما استخدموا الثيران وهم اكثر حذقاً ونشاطاً وبالامكان تدريبهم على العمل وجعل اساليب السحر والسحل منتظمة مجدية وتقع على نهر الگومل الساقية الشرقي لمشروع سنحاريب وهي احدى قنوات الري المهمة التي كانت تستخدم لتسقي الاراضي التي لم يصلها الماء . وبالامكان تتبع سير القناة على امتداد ضفاف نهلر الكومل حيث تم نقر المجرى العريض متراً بعد متراً في الصخر الاصم.

 

ان المنحوتات الاشورية الصخرية في  خنس تبقى تخلد  الموقع الذي اختاره لها صانعها رغم انه شبه معتم وقليل الاضاءة لكنها تبدو على وضعها الحالي اكثر مهابةً واهمية مما لو رممت او عرضت في اطار جديد وان المنحوتة في جلالها وسط القفر فوق جبالها الجرداء القاحلة تبدو وكانها الالهة نفسها .

الخاتمة"

يحز بالنفس ان الانسان العراقي العظيم استطاع قبل 2700سنة ان يروي الاراضي العطشى  وان يجلب الماء الى نينوى ونهر دجلة ، وان يسقي الزروع ويعيد الحياة اليها ، وبالامكانيات البسيطة المعروفة في القلم والمطرقة ونحن اليوم نعاني الامرين من شحة سقوط الامطار وقلة انسياب المياه في النهرين التاريخيين دجلة والفرات ، ونمتلك المكائن الجبارة والفكر النير والهندسة الحديثة والتكنولوجيا المعاصرة  ونقف مكتوفي الايدي امام الأزمات وعلى راسها ازمة صناعة الغذاء بواسطة الارض والفلاح ، وانزوينا الى السياسة والاقتتال والتناحر والدكتاتورية والاستبداد فيما بيننا ، ولم نعط  للوطن  الجريح حقه ولم نرجع للشعب المظلوم هيبته ، ولم نقدر شموخه واصله وحضارته ، بل لم نفهم لحد الآن معنى البناء والارواء وصنع الغذاء واحترام الانسان وحقوقه المطلوبة المفروضة ، واذا مانصب احدهم مسؤولا ! ذهب بعيدا الى تحقيق ذاته ومصلحته ، وجمع المال الوفير له ولأبناءه وحاشيته وعموميته متناسيا ان الكراسي مهما دامت الا وقعت والظلم مهما دام الا فأنتصرت الشعوب عليه

 

فهلموا ايها السادة الى فتح المشاريع وبناء المدن وارضاء الشعب واسعاد المجتمع وتوفير الخدمات الضرورية والرقي بالبلد الى مصافي الامم التي كانت تستمد من بابل وسومر واكد واشور التجارب والعبر ، واعلم ايها القاريء الكريم ان امبراطوريات كبيرة سقطت لانها لم تستطيع توفير الغذاء اللازم لشعوبها  فأنتفضت عليها واسقطتها او استفحل الجهل والظلم وسقطت مرغمة ، اواحتلت من قبل الغير،  

 

المصادر /

مهد ابشرية ، المؤلفان الاخوان ويكرام 1921م

بلاد اشور/ للكاتب اندريه بارو

زيارات ميدانية لكاتب المقال