حكومة التكنوقراط هل تشكل حلا للأزمة العراقية؟

 

                                                    

                                   

            

                           أ.د. تيسير عبد الجبار الالوسي*

              في عصرنا باتت العلوم والتكنولوجيا وآلياتها تدخل في مفردات الحياة وتفاصيلها كافة. ولا يمكن أن تمضي دورات البناء وعجلة الاقتصاد من دون كفاءات خبيرة، كما أن إدارة وحدات الإنتاج العامة والخاصة بكل تنويعاتها لا تتم من دون متخصصين لا يكتفى بمطالبتهم بحمل الشهادات العلمية حسب وإنما يشترط فيهم الخبرة والدراية...

ومن هنا فإنّ القيادات في الدول المتقدمة ما عادت مجرد زعامات سياسية بالمعنى التقليدي للمصطلح، ولكنها صارت قيادات إدارة المعرفة والحداثة التي تستند إلى تلك العقول العلمية الخبيرة لإدارة المسيرة وتوجيهها بالطريقة المثلى. وقدمت إدارات تلك النظم ((التكنوقراط)) ليكونوا في صدر الإدارة وقمتها من أجل تلبية مطالب العصر وتقانته في القيادة.. فهل تصلح حكومة تكنوقراط حلا للأوضاع في العراق الجديد؟ وفي حال الرد إيجابا: ما هي طبيعة حكومة التكنوقراط؟ وما خصوصيتها عراقيا؟

لابد من الإشارة إلى أنّ الأوضاع عراقيا، تتنامى وتستفحل فيها مفردات أزموية، الأمر الذي يتطلب النظر في خلفية تلك الأزمة! ومن ثمّ إمكان الانتقال إلى التساؤل عن طبيعة الحلول والبدائل ومنها فكرة حكومة تكنوقراط عراقية؟

فلقد احتاج العراق طوال السنوات المنصرمة لدراسات بحثية جادة تقرأ حجم الخراب في بنيته التحتية والدمار الذي شمل مختلف المناحي العامة والخاصة. وفي ضوء ذلك إيجاد الأولويات ونقطة الانطلاق لتفعيل الدورة الاقتصادية وإعادة الإعمار..

لكن هذا لم يحصل! إذ عاش العراق ظرفا من الصراعات السياسية بمرجعية (بعض) زعامات ضيّقت من إمكانات أيّ خطاب حزبي فوق ما هو عليه من ضيق أفق في الخلفية الفكرية السياسية.  وأنتجت تلك الصراعات وأسسها القائمة على سياسة المحاصصة الطائفية، الأثر السلبي الذي عانى منه العراق منذ العام 2003 حتى يومنا هذا، خلا وضعا إيجابيا نسبيا ينبغي الإشارة إليه في إقليم كوردستان.

فإذا استمرت تلك السجالات [لا الحوارات] على ذات الآلية القائمة على صراع [زعامات] تصادر الحركات السياسية وجمهورها وتفرض عليها طابع التقاطع والتناقض وتلغي الدستور بل تلغي حتى التوافقات السياسية التي حاولت التقدم بالوضع تدريجا نحو آفاق الحل، إذا استمرت بالصيغة تلك ذاتها فإنها ستُبقي على العراق محتجزا لمصلحة  جهات تجد فيه مغنما لخدمة مآربها لا بلدا وشعبا ينبغي أن تخدمه على وفق منطق التكليف لأية حكومة منتخبة!؟

وتوصيفا لمجريات الأمور فإن العصا التي أوقفت حركة الحياة برمتها في البلاد لم تقف عند حدود قمة هرم الحكومة بل نزلت في تقسيماتها الوظيفية إلى مستويات إدارة، وصلت إلى أدنى وظيفة عامة أو خاصة. ولتغطية مئات آلاف فرص العمل والمسؤوليات، دفعت القوى التي تدير الحكومة الاتحادية بعناصر نفعية  وأمية جاهلة وفي أفضل الأحوال دفعت بشخصيات تحمل شهادات متواضعة تنقصها الأهلية الفعلية للتصدي لمسؤوليات بناء دولة  بحجم العراق وبحجم ما أصابه من خراب ودمار شاملين..

من هنا فإنّ ((رأس الشليلة)) كما يقول العراقيون تبدأ من وقف احتكار الوظائف على أسس وخلفيات لا علاقة لها بالكفاءة والخبرة وبالأداء.. من منطق تفترضه منطلقات الوظيفة وإجراءاتها العملية.. إذ كيف يشتغل  حامل شهادة بتخصص في إدارة تخصص مغاير، على سبيل المثال لا الحصر، وطبعا السؤال الأسبق هو كيف يدير أمي جاهل أو نصف متعلم مؤسسة حديثة؟!!

وحتى نستطيع تشغيل كل كفاءة ومتخصص في عمله المناسب لابد من الشروع من رأس الهرم.. لأن ((السجال)) الكارثي يتعلق بمفهوم المحاصصة الخاص بالكنهوت السياسي الذي ما فتئ يحتمي بالغطاء  الديني وادعاء تمثيل (طائفة) وحمايتها والحقيقة، حتى في هذا الإطار، ليست كذلك. وبالتمعن بجملة ما ذكرنا ربما يكون الحل البديل متمثلا باعتماد حكومة من التكنوقراط...

أما من هم التكنوقراط ومن هم عراقيا اليوم.. وأين نجدهم؟ فنقول: إنّ التكنوقراط عادة ما يمثلون العقل العلمي في البلاد..وفي الأداء السياسي العام يدير حكومة التكنوقراط الفنيون أو المتخصصون من المهندسين والاقتصاديين ومن مجموع المشتغلين بمختلف العلوم والمعارف، فهم من يستطيع أن يضع الدراسات الشاملة لقراءة الوضع برمته ومن ثم وضع الخطط العامة والتفصيلية لمعالجة وسائل تسيير الحياة على وفق تعقيدات تفرضها مستويات التطور الحديثة من جهة وظروف البلاد من جهة ثانية، فضلا عن إشكالية تجاوز البيروقراطية التي تخلقها التوظيفات السياسية..

والتكنوقراط  هنا يمثلون النخبة الأكثر خبرة وثقافة وطبعا الأكثر علما وتخصصا في مجال المهام التي تنتظرهم، وغالبا ما يكونوا غير منتمين للأحزاب أو أقل انشغالا بها، إذا ما طبقنا الأمر عراقيا. إنهم يعبّرون عن حكم الفئة العلمية الفنية بعيدا عن المشاغلات السلبية للسجالات أو الصراعات الحزبية التي لا تغني ولا تسمن بل التي توقع البلدان في الأزمات لمصلحة هذه الزعامة أو ذاك الحزب أو التيار. ومن هنا تحديدا يمكن القول: إنهم بديل سلطة الأحزاب والزعامات السياسية أيا كانت خلفياتها ومرجعياتها تحديدا في لحظات الاختناقات والاحتقانات..

إنّ الحل عراقيا بهذه الطريقة ربما سيكون مقبولا من الأطراف المصطرعة خضوعا منها لإرادة الشعب ومصالحه في تحريك مسارات البناء والعمل بعد أن تعطلت الحياة لثماني سنوات بلا طائل للدواعي والنتائج المنتظرة الآتية:

1.  تأتي حكومة التكنوقراط، تلبية لآليات اشتغال الدورة الاقتصادية التي تتطلب كسرا للقرار السياسي البحت لصالح القرار التخصصي  الوظيفي الميداني على وفق طبيعة العمل في مختلف القطاعات.. حيث التكنوقراط أبعد عن الانشغال بالحزبي الضيق، وقد يكونوا مستقلين تماما لا علاقة لهم بأي اتجاه حزبي أو تيار أو حركة سياسية..

2.  وتأتي حكومة التكنوقراط، كسرا لمفهوم المحاصصة السلبي الذي عطل الأداء المنتظر من الحكومة، في حوارات تخص بنيتها المحاصصاتية لا برامجها ولا مسيرة الأداء والإنجاز فيها...

3.   وتمثل حكومة التكنوقراط، خروجا من سطوة بعض العناصر غير الكفء أمام مسؤوليات العمل وحجمها النوعي.. إذ التكنوقراط ليسوا أميين جهلة بل هم العقل العلمي وهم ليسوا مجرد حاملي شهادات بل خبراء ذوي دراية وقدرات إبداعية في تفاعلاتهم مع واقع الحال ببحوثهم العلمية وبممارساتهم وتجاريبهم العملية...

على أنّ هذه الحكومة في قمة تركيبها يمكن أن تكون بتفاعل بين زعامات سياسية محدودة العدد في الوزارات السيادية مع وكلاء ومعاونين  يرسمون الخطط والبرامج ولا تقف دون تنفيذهم لها أية عقبات حزبية.. فيما كل الوزارات الباقية يقف على رأسها التكنوقراط مثلما يشكلون تركيبتها الوظيفية بمختلف مستويات الإدارة والعمل..

وعليه فإنّ الحديث عن حكومة التكنوقراط ليس حديثا عن حصة وزارية بل عن طبيعة التركيبة التي ستتطلب أولا إعادة هيكلة من جهة وقراءة التخصصات التي ستنطلق الأعمال بها وتكافلها برامجيا أدائيا مع استقطاب الخبرات المتخصصة وتفعيل أدوارها بضمانات العمل الحر الذي لا يحكمه إلا برامج علمية ومحددات الواجب الوظيفي المنتظر..

إنّ مثل هذا الاتجاه سيكون عامل معالجة لأشكال الفساد والمحسوبية والمنسوبية بكل صيغها.. فيما سيكون خطوة فعلية لتشغيل العمالة العراقية من جهة والكفاءات والخبرات في ميادينها المناسبة لكل كفاءة.. وبالتأكيد سيكون هذا نقلا للوضع العراقي من حال التخلف والانشغال بترهات أرهقت الخزينة ببهرج الطقسيات المنعقدة على مدار العام فيما تعمل ليل نهار على كتمان حقيقة الفساد المالي والتغطية على جرائمه..

وستجري عملية استثمار فعلية صائبة لمئات مليارات الدولارات وترليونات الدنانير بما يعود على العراق بمشروعات ملموسة منها على سبيل المثال تشغيل الكهرباء الوطنية في سقف زمني أقصر وبقدرات كاملة تغطي الحاجة المحلية وتستعد للتطلعات التالية وطنيا.. ولدينا الكفاءات الوطنية أيضا في مجال إدارة آبار النفط وحقوله مثلما لدينا مخططين لمشروعات الغاز واستثماره وكذلك في قطاعات الزراعة والصناعة.. ويمكننا الإشارة مباشرة إلى أولوية تحديث التعليم الأساس والجامعي وتفعيل مراكز البحوث وإطلاق أنظمة التعليم الجديدة كالتعليم الألكتروني التي ما زال يعرقلها تخلف نظام المحاصصة وما يفرزه فعليا وتخلف النظرة للتعليم بعامة...

إذن هناك أسباب جوهرية ونتائج عميقة الغور تدعو لتوظيف التكنوقراط إذا ما أخلصت النيات باتجاه الحل العلمي الأسلم والأنضج للأزمة العراقية.. فهلا ناقشنا هذا الاتجاه وتفاصيله؟؟

* رئيس جامعة ابن رشد في هولندا، رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر