عروتا دميتي

 

   

 

                                              

                                                   بدران امرايا

من موروثنا الشعبي

  الموت آه من هذه الكلمة المريرة  !! وما أدراك بالموت وفقدان الأحبة ! الموت هو المصير المحتوم لكل الكائنات الحية من الإنسان والحيوان والنبات, كل ما تدب فيه نسمة الحياة , ولكل منها فترة محدودة في الحياة ثم تموت فتنتهي دورة حياتها , إذا هو مفارقة نسمة الحياة من البدن, وهو مر كالعلقم , إلا انه في نفس الوقت راحة ونياحا للنفس والجسد معا لمن يعاني من الآلام الميئوسة من الشفاء,وتسليم الروح ليد واهبها العظيم . وللموت أسبابه وان تعددت تلك الأسباب إلا إن النتيجة واحدة هي الموت .وفي موروثنا الكلدواشوري السرياني فللموت معاني ومدلولات كثيرة وان للميت مكانة اعتبارية سامية عند شعبنا منذ قديم الزمان.وهنا سأتطرق إلى احد طقوس الميت عند شعبنا.

    (عروتا دميتي , عروتا دعَنيدي )اسم سرياني بمعنى جمعة الموتى ,وهو طقس  كلدواشوري ديني و يوم خاص بالموتى, وهي مناسبة تذكارية تقديرية تمجيدية لأرواح الغائبين عنا بالأجسام فقط .والموجودين بيننا بالروح والضمير والوجدان, وذكراهم لا تبارح مخيلتنا وهم الأعزاء وفلذات الأكباد .وهذا الذكرى مستمدة  من حادثة إقامة لعازر شقيق مريم ومرتا من الموت من قبل السيد المسيح جل شانه .

    هو أدنى حق تجاه هؤلاء الأعزاء الذين رقدوا إلى حيث يوم الانبعاث ,مع الملائكة والصديقين والأبرار من خلال البوق الملائكي الذي يوقظهم ليوم الدينونة . وللموتى مكانة عالية وسامية  عند أبناء شعبنا  منذ القديم ولحد الآن, وجمعة الموتى محطة تذكارية سنوية لهؤلاء الراقدين  ففي تلك الجمعة تقام القداديس على راحتهم وتذكارهم بوقار وخشوع  والترحم عليهم  وبعد القداس ,الناس يقصدون الناس المقابر لزيارة المراقد والصلاة على أرواحهم وإيقاد الشموع عليها ووضع أكاليل الغار والزهور عليهم ,وتبخيرها بالبخور العطرة ( البسما ) ,والبكاء عليها حتى أشفاء الغليل, وإطفاء لهيب القلوب بالدموع الغالية ,على أحبة وأعزاء رحلوا عنا  وحفروا ذكراهم العطرة والأليمة في صميم ضمائرنا وصلب وجداننا . ومن ثم كانت الناس توزع الخيرات وخاصة الخبز الحار على أبناء الحي .ويتركون الباقي مكشوفا ظنا منهم  بان هذا الخبز مقدم للموتى يا لا هذه البساطة والإيمان الكبير بهذه الذكرى !!. فهذا إن دل على شيء إنما يدل على أولاء شعبنا الوقار الكبير للموتى , إلى جانب تقديم وجبات الغذاء الثلاثة للميت على الفقراء والمحتاجين بدلا عنه , وبقاء ذكراهم حية وعزيزة وحميمة في وجداننا .وهذا ابسط شيء تجاه أحبة غادرونا بالدم والدموع .

     وفي القرى قديما لدى موت أي شخص كان ( قَرايا ) القارئ والمنادى وتطرقنا إلى هذا الموضوع مسبقا, يصعد إلى مكانه المخصص العالي والمسيطر على القرية ,ويصيح بأعلى صوته وبنبرة يشوبها الحزن العميق ( هي راخماثا لبابو وليموا داسق لبث قورا فلان متلي) أي هي الرحمة لوالديه مَنْ يصد إلى المقبرة فا فلان شخص مات , ويعيد التلاوة مرتين لتأكيد المسالة, وأحيانا لا يستطيع التكملة فينفجر بالبكاء المُر احتسارا على الفقيد ,و كانت الناس صغارا كبارا تتجمد في مكانها للانتباه للخبر. وان كان في القرية كنيسة فان ناقوسها ( ناقوشا, زَكَا ) يدق بدقات غير معتادة فيعرف الناس بان هناك حادث ,فيذهبون إلى الكنيسة لتحقق من الخبر,فكانت الناس في أي مكان الحقول والمزارع يتركون كل شيء على حاله ويسرعون الخطى الشبان ذوي الزنود المفتولة يأخذون عدة الحفر وبوجههم إلى المقبرة مباشرة ,بعد معرفة الشخص الميت ,كانوا يعرفون أن يختاروا مكان القبر ضمن عائلة الميت أو مكان العائلة . أو حسب وصية الميت ( مَقوَيتا دميتا ) والبعض كانوا يقصدون بيت الميت لتجهيزه من حلاقته و غسله وأحيانا يلبس ملابس زفافه أو زفافها ويجعل كالعريس الطاهر بدنيا ويعطر وتوضعان يداه الواحدة على الأخرى كالصليب, ومن ثم يكفن ( كوراخا ) بالقماش الأبيض إن كان ذكرا ,أما الإناث فتتولى النسوة هذه المهمة , وتترك الإبرة في النعش عند الانتهاء من الخياطة, ويوضع وسط الحضور وبالأحرى النسوة وتترك منطقة الرأس مكشوفة لتوديعه من قبل ذويه وأحبائه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه, وتبدأ مراسيم البكاء والندب والاستشهاد بخصال المتوفى ( جنانا, ندابا, رنايا, ومعَدودي كما يصطلح عليها أبناء السهل من شعبنا) وهو لون غنائي سرياني يمتاز بنبرة وإيقاع حزينين وكلمات الغناء كانت تستمد من خصال المتوفى أو المقتول, من قيافته البدنية, شواربه ورجولته وبطولاته وصولاته وجولاته ومغامراته, وخصاله من الكرم  واللطف والمروءة والشهامة ودرجته العلمية , ومن شدة التفاعل مع هذا اللون الغنائي فان الكل يبكي ويغرورق في الدموع , وأحيانا اللطم ونبش الشعر, وقص الجدائل النساء ورميها على نعش الميت من كثرة الوقار له , أو در الرماد على  الرأس ( درايا قوطما بريشا ) وخاصة أذا كان الميت معيل العائلة ( دريلي قوطما بريشن ) أي درَ الرماد على رأسنا أصبحنا بلا معيل., وكان ولازال عند شعبنا مغنين ذو امتياز خاص ( مَبخي كيبا) أي يبكون الحجر, من أمثال المرحوم اوشانا انويا  الكَرموسي ( ابو اريا ) والمرحومتين  جيني كورو والشقيقتان انيسة ووردي خيجا من بيرسفي , وبعد الانتهاء من البكاء كان الرجال يأتون ليأخذوا النعش فيرفعونه ثلاثة مرات ( الأب والابن وروح القدس )عندها يخرج من البيت فان بعض النسوة ترش الماء وراء النعش اي تلحقك مياه حياة الآخرة وليس شخصا آخرا. وفي الكنيسة يقام قداس الموتى . ثم يخذونه إلى المقبرة وراء القس وجوقة الشمامسة وهم يرتلون الصلوات والترانيم الكنسية لحد الوصول إلى المقبرة أما النساء فلا يصعدن للمقبرة , والناس تترجل وراء النعش وتتزاحم على حمله لما له من خير وثواب.

    وعند المقبرة كان الشبان مسبقا يحفرون القبر بروح جماعية ويهيئون يبنون القبر من الداخل ويحضرون الحجارة المسطحة ( فَرشي ) لتغطيتها عند وضع النعش فيها , ورأس الميت نحو الشرق , فكان القس يؤدي الصلاة ويقرا تلاوة من الإنجيل المقدس , بعدها يرفع النعش لثلاثة مرات أخرى, ثم يوضع في القبر ويغطى بالحجارة  والطين وعند انتهاء القس من الصلاة فيأخذ حفنة من التراب ويرميها على القبر ( من اوبرا بريلوخ وعَل اوبرا بد دعرت ) أي من التراب خُلقت واليه تَعود, ثم يتزاحم الناس على وضع التراب عليه, بعد تسوية القبر بمستوى سطح الأرض يوضع حجرين ( كيلاثا ) واحد عند رأس الميت والآخر عند قدميه , عند الانتهاء كان ذوي الميت يقفون صفا واحدا ليأتي المعزين ويصافحونهم بتقديم التعازي بعد رسم علامة الصليب على الحجر الموضوع عند رأس الميت,ثم ينصرف الناس إلى بيوتهم , أما الضيوف الغرباء القادمين من مناطق أخرى فيقصدون بيت الميت, وكانت النساء لا تدع أهل الميت  يطبخون لأكثر من أسبوعين فتجلبن الأكل لهم ولضيوفهم لثلاثة وجبات يوميا , علاوة عن لبس الأسود أو الأزرق الغامق تضامنا مع أهل الميت , وعدم الاستحمام وحلاقة الذقن لفترة طويلة , إلا بأذن من أهل الميت أو مجيء قريب عائلة الميت ( قَريوا روشمايا ) القريب الرسمي ليحلق لحية قريب الميت بدلا عنه , فيا له من احترام وتقدير عاليين.

    وعند المرور بالقرب من المراقد كانت الناس ترسم الصلبان عليها والصلاة عليها ,وعند ذكراهم يقولون ( الاها منخلي,منخلا ) الله يرحمه , يرحمها,أو عند المرور أمام نعش يقال ( نورا لعنيدوخون ) النور لميتكم, رحمة الله عليه أو عليها  وجعله الله حي , أو عند الميت أو المقبرة يقال ( رخقا مَخا ) ( رقا من دوكاني )أي بعيدا من هنا .

وعلى ذكر الميت فلدى شعبنا أمثلة وحكم وأقوال مواقف وطرائف منها .

(ميتا وشرمي خليثا ) أي ميت ومؤخرته حلوة , يقال للشخص المنبوذ عندما كان حيا , ولدى موته بكته الناس بمرارة .

( موتا ليلي دزوري يان درابي ) الميت لا يعرف الكبير أو الصغير.

( مَوتا مَريرا ايلي ) الموت مُر.

(مَوتا كليلا ددهوا ايلي ) الموت هو إكليل من الذهب, يقال للميئوس من الشفاء وعليل جدا .

( من بار مَوتا ليت مريتا دعَيني ) أي من بعد الموت لا تتوجع العيون.

( اوب ميتا كي مَرط )أي حتى الميت يضرط ( يطلق هواء من شرجه) يقال للشخص الكسلان الذي لا يترجى منه شيئا وفجأة يعمل شيئا مؤثرا يجلب الانتباه .

(ان تيلي مَوتا ان هاوي خايي كاو قوطيا بد ازي ) أي إذا جاء الموت لو كانت الحياة محمية في علبة فإنها ستزول , أي لا مَفَر من الموت.

( بهيوي دناشي ميتا ايلي من برَ ماشي ) أي الذي يتكل على الناس فهو ميت من البارحة .

( كتَيتا لمَوتا وايناه لسولياثا ) أي الدجاجة مشرفة على الموت وعَيناها على المزبلة .

( ميتا وعينو بتيخي ) أي ميت وعيناه مفتوحتان ,( ميتا وخالا لوخما دبي خايي ) أي ميت ويأكل خبز الأحياء.  يقال للميئوس من شفائه.

( هي متولي فَرشا رش صَدروخ ) أي  وضعت الحجر على صدرك , يقال للتمني بموت الآخر.

(هي مَتنوالي كيلاتوخ )أي ياليت أن ضع حجارتك !! الحجران اللذان يوضعان على القبر, يقال للتمني .

( قَوره نَواوا دبوري ) أي قبره تنبع بالدبابير. يقال للعنة الميت السيئ.

( لا دماخا لقَورا ولا خزايا خلمي لا بَسيمي ) اي لا النوم في القبور ولا رؤية أحلام مزعجة , وهو على غرار المثل ( لا تبوك , تسرق لا تخاف من السلطة ). 

وذات مرة قال احد الشيوخ لقس القرية ( رابي امن دمَيتن لا  قَوروتنلي كَا قَورا ) أي عندما أموت لا تقبروني في القبر!! فرد القس ولماذا ؟ لأنني أعاني من مرض الربو وسأختنق فيها !! يالا بساطة بعض الناس من أهلنا !! وقال القس وما الحل ؟ فقال الشخص ارموني في العراء, لتأكلني الطيور.

وخلال الحرب العراقية الإيرانية ,كانت مفارز الجيش الشعبي تلاحق الناس أينما كانوا , وحتى في الجحور, وذات مرة كانت مجموعة من الشباب على المقبرة يتناوبون في الحفر ورمي التراب خارجها , وأراد احد أن يمازح فقال ( هولا تيلا سيارا دجيش شعبي ) أي ها هي سيارة الجيش الشعبي قادمة !! والذي كان في القبر وعلى وجه السرعة تسطح على بطنه ,وقال ( دراو ابرا بريشي وقورنلي )هيا ارموا التراب عليّ اقبروني مخافة من مرتزقة الجيش الشعبي ليسوقوه إلى جبهات القتال مع إيران .

الرحمة وجنات الخلد لكل الموتى بمناسبة جمعتهم (جمعة الموتى ),والصحة والعمر المديد للأحياء. ( الاها منيخلي كَاو ملكوثا شمَيانيثا)

تَودي غلبا..