المسيحي عبودي الطنبورجي وقصة ترميم منارة الحدباء

 

                     

  

 

 

 

                                                                  

                                                                          د. غازي ابراهيم رحو 

    انقل لكم قصة رائعة صاحبها عراقي اصيل من الطائفة المسيحية تم تكليفه قبل عشرات السنين لترميم اعلى منارة في مدينة الكنائس والجوامع مدينة الحدباء الموصل ام الربيعين هذه القصة بطلها المرحوم عبودي الطنبورجي البناء الذي قام بترميم اجمل منارة واعلى منارة في الموصل وعندما تم الاستفسار منه من سيقوم بدفع تكاليف الترميم لهذه البناية اجاب ان صاحب البناية هو من سيقوم بدفع مبلغ الترميم ؟؟؟والذي يعنيه المرحوم ان الرب سوف يمنحه اتعابه في الاخرة لان تلك المنارة تعود لبيت الرب هكذا كان وسيبقى مسيحيوا العراق حبهم لاخوتهم ولارضهم ولوطنهم وانا اذ انقل لكم هذه القصة بتجرد بدون اي اضافات من السيد مؤيد ناصر اتمنى على الجميع الطلاع على ما نقله لنا شاهد عيان لهذه القصة الرائعة لابناء الموصل العراقيين المسيحيين الذين يهجرون اليوم من وطنهم وارضهم بعد ان بذلوا كل ما يستطيعون في بناء العراق فالى متى تبقى تلك النظرة الغير انسانية من البعض لهذا المكون الاصيل واليوم تاتينا الاخبار بأن الاف من العراقيين المسيحيين يتهيئون للهجرة من وطنهم وارضهم وهم من بنى هذه البلاد عل من يقرأ هذه القصة يعيد النظر بهؤلاء الاصلاء .

    هذه ليست قصة من قصص الخيال العلمي أو أفلام الكومبيوتر الحديثة وليست خرافة يحكيها الأجداد إلى الأبناء للتسلية، وليست قصة محبوكة عن بطولات وهمية...!
    إنها قصة حقيقية عن بطولة الأجداد، قصة تحكي إبداعهم لنا، رغم أن الكثيرين منهم لم ينهلوا العلم، ولم يشاهدوا أفلام السيرك أو الألعاب البهلوانية. قصة حكاها لنا أحد الأجداد الذين رحلوا تاركين أثراً لا يُنسى، قصة عن بطولة وإبداع بنـَّّاء ماهر قديم، هو واحد من جملة بنائين أمثال: نوري غزالة وفتوحي قاقو، وخضر ويوسف العبيدي وعبّو السمّعان، ونعوم حنا الأسود، ويوسف فندقلي، واسطيفان عيسى وبهنام جردق. إنه البناء المبدع عبّودي الطنبورجي، الذي رمم منارة الحدباء في العقد الثالث من القرن العشرين...!

يتحدث عامل البناء والخلفة والهداد والجبّال فتحي الشيخ مالو العبيدي، رحمه الله عن عملية الترميم هذه، وعلى لسان ابنه عبد المنعم: كنتُ في عمر الشباب عندما جمعنا البنّاء عبّودي الطنبورجي أنا ومصطفى العجوز، ونوري المشعول، وصالح الرحّاوي، وستة عمال آخرين من باب العراق والحويرة وشهر سوق، وأخبرنا أنه كلّف بمهمة ترميم فجوة في بدن منارة الجامع الكبير (الحدباء)، وهذه العملية تتطلب معدات خاصة وأشخاصاً أقوياء مختارين. وإننا اخترنا للقيام بهذه المهمة الصعبة...!

    وكان أول عمل قام به هو زيارة مكان العمل من داخل المنارة، فوجد أنّ التصليح يجب أن يتم من الخارج وليس من الداخل، ونظر إلى المنارة من الخارج، وارتقى أسطح عدد من البيوت المجاورة لها عدة مرّات، ومن أعلى المنارة درس حالة الرياح واتجاه الشمس والحالة الجوية، وذرع المسافة بين حوض المنارة والفجوة فوجدها حوالي (20) عشرين ذراعا...!
    وبدأنا معه في إعداد المستلزمات والمعدات المطلوبة للعملية، ومنها صندوق خشبي كبير بطول (6) أفوات (قدم) وعرض (3) أفوات وارتفاع (2) فوت، أحد جوانبه مقعّر، وصنع هذا الوعاء لدى النجار من خشب قوي ومسامير حدادي (ذات رأس كروي حديد). وربط الصندوق بثمانية حبال غليظة من زواياه الأربع، طول الحبل أكثر من (25) ذراعاً، وجعلنا في كلّ ذراع واحد عقدة. واشترى البناء عبّودي مذراة (مذري الحصاد) وعدداً من الجرار (الشربات) وجص سريع الجفاف (جص شداد)، وحجارة خرشانة (حجارة من الجص المبني قديماً وتسمى زكّورة أيضاً...)!
    وكان مثار استغرابنا عندما ذهب البناء إلى ميزان كبير في علوة الميدان ووزن نفسه، وطلب منّا جلب حجارة  صمّان بقدر وزنه ووضعه في الصندوق الخشبي، ثم الصعود إلى حوض المنارة مع هذه المستلزمات وصفائح ملساء (تنك). وكان يقول لنا أنّ الذي يخاف لا يأتي معي. فصعدنا معه إلى أعلى المنارة ونحن نخفي خوفنا الشديد من الارتفاع الكبير ومن أن يأخذنا الهواء الشديد معه، أو تميل المنارة أكثر وقد تسقط من ثقلنا على البيوت المجاورة...ا

وضع عبّودي صفائح التنك على حوض المنارة ليسهل انزلاق الحبال عليها دون أن تتخدّش أو تتآكل، وطلب من كلّ اثنين منا الإمساك بحبلين مثبتين في زاوية من زوايا الصندوق ودليناه عقدة بعد عقدة ببطء إلى وسط المنارة، وسرعان ما وصل أمام الفجوة المنوي ترميمها ولكنه يبعد عنها أفقياً مسافة قليلة. فطلب إعادة الصندوق بسحبه إلى حوض المنارة ... ففعلنا، وأضاف إليه حبلين آخرين من خلف الحوض لغرض سحبه نحو بدن المنارة من الجهة الأخرى. وأعدنا العملية لعدة مرّات حتى تدربنا عليها على نحو جيد جداً. وعلمنا أنّ متصرّف الموصل قد كلّف البناء عبّودي بترميم هذه الفجوة في مقابل أي مبلغ يطلبه...!
    وفي اليوم الموعود حضر المتصرف مع موظفين من الآثار من بغداد ومن الأوقاف، وامتلأت أسطح المنازل وحديقة الجامع بالمشاهدين من النساء والرجال والأطفال. وصعدنا أعلى المنارة مع معدات البناء وركب عبّودي في الصندوق الخشبي مع مواد البناء غير خائف أو متردد. وتم إدلاؤه نحو مكان الفجوة بمهارة فائقة، وسحب عاملان آخران الحبلين الإضافيين فأصبح الصندوق مطابقاً للمكان. وأخذ البنّاء بتنظيف الفجوة بالمذراة من أعشاش الطيور والحجارة الهدمة ورشّها بالماء من الشربات، ثم بدأ البناء بمزج الجص الشداد بالماء واستعمال الحجارة الخرشانة...!
    وكنا ننظر من أعلى المنارة حابسين أنفاسنا وكلّ دقيقة تمرّ كأنها ساعة، والناس مشدوهون من المنظر الغريب المخيف، وفجأة لاحظنا أنّ البنّاء عبّودي توقف عن العمل وملامح الخوف تبدو على وجهه. فقلنا له: هل نسحبك ؟ فلم يجب وهو ينظر مشدوهاً إلى الفجوة. وإذا به يدخل المذراة داخل الفجوة بقوة وسرعة ويخرجها فإذا هي حيّة كبيرة طعنها وأسقطها إلى الأسفل في حديقة الجامع حيث قتلها المتفرجون. وكان جلب المذراة من بنات أفكار البنّاء الذكي الذي توقّع وجود مثل هذا الحيوان الذي يعيش على أكل الطيور التي تنام ليلاً في شقوق المنارة. وتصاعدت هلاهيل النساء من أسفل المنارة وصياح الجمهور مستحسناً العمل...!

   واستمر العمل مدة ساعة تقريباً أعاد فيها البنّاء ترميم الفجوة وإكمال النقوش كما كانت بكفاءة عالية، وعندما أردنا سحب الصندوق رفض البنّاء ذلك قبل أن يأكل لفّة الكباب التي كان قد أعدّها في عبّه (فتحة في الصدر) ليثبت للناس عدم خوفه وتحدّيه للأخطار والصعاب، واستمرّت النساء تزغرد والأطفال تهزج وتصفّق...!

   وانتهت عملية الترميم وسحبنا البناء الشجاع عبّودي الطنبورجي إلى الأعلى. ورفض أن يستلم أي مبلغ ثمناً لعمله  قائلاً: (أنا آخذ أجوري من صاحب البيت)، ولكون المنارة صاحبها الرب سبحانه تعالى فلن استلم أي مبلغ )، وأعطى للعمال أجوراً مضاعفة من جيبه...!

   هذا هو واحد من مسيحيي العراق الذين دائما، وأبدا، كانوا يضربون الأمثلة في الذكاء، والنقاء، والدقة، والشجاعة، والعفـّة، والنزاهة المقترنة بالإبداع.. رحم الله عبودي الطنبورجي، وجزاه الله أجره خير الجزاء، وكما أراد هو فرب البيت سيد الكرماء، وسيجد لديه الخير كله...!