أشرعية الصندوق أم شرعية النهضة؟

 

 

              

       

                                         

                                          يوسف زرا

   إن ظاهرة التغيير والتجدد، هي فرضية في مسار حياة الانسان. وذلك لتميزه عن باقي الكائنات الحية بخاصية الوعي والإدراك أولاً. وثانياً، لأنها من المتطلبات الآنية والمستقبلية لتجدد مفردات حياته اليومية وفق منطوق (المادية التاريخية) (كحركة ديناميكية). ولا يمكن أن تتوقف هذه الحركة لأنها بمثابة انعكاسات واقعية لأي تجمع بشري، وهي ناتج خصائصه الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. وان أي خمول أو كسل يصيب أي تجمع، قد يؤدي إلى مردودات سلبية في مجرى الحياة، ويؤدي إلى فقدان التوازن وخسارة لا تعوض لجميع المكتسبات للخصائص المذكورة، والتي تعتبر حاصل التراكم الزمني الكمي لأجيال وأجيال. وان تقدم أي شعب بمعنى حصول تجدد وتغيير في آليات الحياة. وتعتبر أيضاً إفرازات من عمق شعوره بنهضة شاملة لجميع تلك الآليات ومقوماتها الأساسية الحية وفق ما ورد أعلاه.

وإن أي شعور بأهمية النهضة يجب أن يصاحبها أداة التنفيذ (انتفاضة جماعية) متواصلة بغية تحريك البنية الاجتماعية العريضة ذات الشأن المباشر والمصلحة العليا سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية. وأية أسباب قد تؤدي إلى التلكؤ أو التباطؤ في عملية التغيير والتجدد، يكون لصالح الشرائح الفوقية المتوارثة والمترسبة في أرضية المجتمع ومتحكمة به ولا تقبل أي مسٍّ في مركزيتها وامتيازاتها الخاصة، وتحاول استخدام شتى السبل لإيقاف عملية التغيير والتجدد.

وان ما جرى ويجري منذ عدة أعوام بعيدة وقريبة في كل من مصر وتونس وليبيا والعراق وسوريا واليمن وتركيا وغيرها من دول منطقة الشرق أوسطية بصورة خاصة، ليس وليد أيام وأسابيع، بل وليد التناقض المستفحل والصارخ بين القديم المستبد والجديد الطموح للانعتاق والتحرر منه، ونحو مستقبل أفضل.

وان ظهور بعض الدول ذات الأنظمة الجمهورية في عدد من الدول العربية من أكثر من نصف قرن مضى، فهذا لا يعني انه حصل تبدل جوهري في مواقع وعقلية تلك الشرائح الفوقية والمستبدة، وذات النفوذ الاجتماعي القبلي أو الديني -مذهبياً وطائفياً- ولها أسبابها المتراكمة أيضاً ومعلومة لدى كل متابع لمجرى الأحداث، السياسية والاجتماعية والفكرية. وهي فعلاً الوريث التاريخي للنظام الاقطاعي والمرجعيات الدينية المتطرفة بدون استثناء. رغم انها متعايشة تحت خيمة المجتمع المدني ظاهرياً. إلا أنها متمسكة بزمام الأمور، حجتها تقديس الموروث الاجتماعي والديني بصيغته المنغلقة والمتطرفة، تحيطها فئات منتفعة وموالية لها. رغم تظاهر الكثير منها بتأسيس أحزاب وحركات سياسية ذات أيديولوجية معاصرة اسمياً، تستخدمها كأداة لشرعية عملها، متبجلة الديمقراطية اللبرالية كأبسط ضمان لديمومة بقائها شرعياً. وغالبية البنية التحتية العريضة لمجتمعاتها مقهورة ومسلوبة الارادة، إما لكون جميع الحكام في الأنظمة المذكورة تلتقي مصالحها ومصيرها معها، وإلا لا مكان لها مستقبلاً. وإذا كان الشعب المصري منذ مدة قد أصابه الخمول والكسل بنتيجة الارهاق المتواصل لعقود من السنين ومن جرّاء دخوله عدّة حروب قاسية وفاشلة مع اسرائيل المدعومة مباشرة وبشكل مكشوف ولا زالت. إلا أن الحكام المتعاقبين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، قد أصبحوا أكثر ضياعاً ونفوراً. لا بل فقد الشعب الثقة بهم ولم يعد لهم أية مصداقية، ولا الأحزاب السائرة في فلكها.

أما الكتل والحركات السياسية المعارضة فهي مهمشة أو أو منقسمة على نفسها ولا نفوذ لها. عدى التيارات الدينية التي استغلت هذه الفترة ونظمت نفسها وتمكنت من كسب ود البسطاء وتحريكهم في أجوائهم كما يشاؤون. وخير دليل على ذلك. فإن حركة الاخوان المسلمين المصرية بالذات، كانت قد نشطت منذ أيام مؤسسها حسن البنا في الخمسينيات من القرن الماضي وظلت تعمل في جميع الأوساط الاجتماعية المقهورة سواء اقتصادياً أو فكرياً. وحتى عملت في الوسط الأكادمي وكسبت الكثير منهم. علّهم ستحقق لهم ما لم تتمكن الأحزاب المدنية على اختلاف مناهجها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الموالية للسلطة التي لم تحقق لهم أي مكسب مادي ومعنوي. فكان ما كان في العملية الديمقراطية المشوهة في انتخابات أول مجلس برلمان غير شرعي قانونياً وتم الغائه من قبل المحكمة الاتحادية الدستورية. وثم انتخاب رئيس الجمهورية وحصوله نسبة ضئيلة أكثر من النصف في المئة. واستلامهم (الاخوان) السلطة، وبدء من الأيام الأولى الاستئثار بها ومنذ اللحظات الأولى لحكمهم.

وهنا دق ناقوس الخطر ووصل رنينه إلى أبعد طبفات المجتمع، وتحسس الجميع بأنهم كانوا في غفوة زمنية لا بل في سبات عميق. فلابد أن ينهظوا ويقطعوا الطريق على هذه الكتلة التي باشرت بإصرار شديد بقلب كل الموازين لصالحها وتغيير هيكلية الدولة ومؤسساتها وما يناسب أفكارهم السياسية الدينية والمذهبية مستندين على شرعية الصندوق. وكائن الصندوق هو الحاسم الحقيقي لجميع مشاكل المجتمع. وهو القانون والدستور الأساسي لها. وزادت ثقتهم بنفسهم حد التقوقع وتهميش غيرهم حينما علموا أو تأكدوا أن مهما نهض المجتمع المصري، فانهم قد حسبوا ألف حساب للمستقبل القريب والبعيد. حيث الكل يعلم أن الحدود المصرية الليبية بعد سقوط نظام القذافي فتحت لجميع المهربين وتجار الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وحتى الثقيلة، وتمكنت الأحزاب الاسلامية وفي مقدمتها (اخوان المسلمين) من خزن القسط الأكثر منها. وانهم شرعاً سيتمكنون من استخدامها باسم استحواذهم للسلطة التنفيذية مباشرة أو عن طريق تسليح انصارهم بها في حالات الطوارئ. وضرب أية معارضة مجردة من أي دعم رسمي أو شعبي حسب ظنهم.. وفعلاً تناقلت الكثير من القنوات بأنهم بدؤا يوزعون الأسلحة بعد اقالة رئيسهم على انصارهم.

وقد وعت القوى السياسية العلمانية، بأنها أصبحت بين قوسين أو أندى من محاصرة القوى السياسية الدينية لها، وبقيادة الإخوان مباشرة. وان هذه القوى مهما حاولت التظاهر ورص الصفوف سوف لن تتمكن من ازاحتها. وان شعار اسقاط رئيس الجمهورية سلمياً لا يمكن تحقيقه لأنها متمسكة بالشرعية الانتخابية وانها متربصة بها، وفي حالة أي احتكاك سلبي بها، قد تبيدها باسم الشرعية المذكورة والسلطة الرسمية. وان الحرب الأهلية لا مفر منها بين الطرفين إذا لم تخضع الأحزاب العلمانية لذلك وتعترف بالشرعية وتحترمها.

إلا أن المثل يقول... تهب الريح بما لا تشتهيه السفن.

فما كان بالقوى الوطنية العلمانية إلا أن تصر على رحيل رئيس الجمهورية باعتباره رأس حربة لهم. واستنجدت بالقوات المسلحة في الوقت المناسب وطلبت تآزرها واسنادها في معركتها السلمية مع القوى الدينية وفي مقدمتهم الاخوان. فان التاريخ السياسي لكثير من الشعوب المسلوبة الإرادة، قد تضطر إلى اللجوء إما إلى حمل السلاح والدفاع عن نفسها، أو إلى القوات المسلحة، رغم علمها بأنها قد تقع في مأزق مستقبلاً، خشية تشبث العسكر بالسلطة واقامة دكتاتورية جديدة صعوبة ازاحتها أيضاً. ولكن هناك مثل شعبي ولو عند الحاجة القصوى وبنظرة ضعيفة (حمة شديدة ولا موت محقق).

وإذا عدنا إلى تاريخ شعوب المنطقة، فنرى بأنه قد مرَّت بمثل هذه الظروف الصعبة وشهدت عدّة انقلابات عسكرية، وكان أبرزها والذي وقع في مصر في 23 يوليو 1952 وسقوط النظام الملكي فيها، وتأسست الجمهورية المصرية الحالية. وكان لهذه الحركة تأثيراً كبيراً على شعوب المنطقة برمتها وفي مقدمتها العراق وسقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958 وقيام النظام الجمهوري الحالي. وغيرها من الدول العربية كالسودان واليمن وليبيا.

سنعود ونقول. هل ستتمكن قيادة الجيش المصري انجاز المرحلة المحددة لإجراء الانتخابات الجديدة لرئيس الجمهورية والبرلمان دون حدوث مواجهات دامية مع القوى الاسلامية المدججة بالسلاح داخلياً والمدعومة خارجياً من التيار الاسلامي المتشدد أيضاً. وثم يبدأ عصر الديمقراطية الحقيقية والاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي، ويعبر الشعب المصري هذه المحنة الكبيرة بسلام. أم تصر حركة الاخوان وأنصارها على التحدي لقرار العسكر بعزل الرئيس محمد مرسي، وتحاول استمالة بعض أجنحة أو وحدات عسكرية وتقوم بعصيان مسلّح قد تؤدي إلى الفوضى العارمة والاضطرابات الدامية بين الطرفين، ودون أن يعلم أحد بالمجهول المنتظر للشعب المصري ويفقد ثقته حتى بجميع الأطراف السياسية والعسكرية، إلى جانب التدخلات الأجنبية من جيران المنطقة والدول الكبرى. كما حدث ويحدث في سوريا حالياً.

أيصعب وضع النقاط على الحروف وما سيُقرأ بعد ذلك في اللوحة السياسية والعسكرية حالياً ومستقبلاً، وتخرج مصر من مخاضها العسير؟