حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

 

                                          

                                                                                                  

                                                                                                               هرمز طيرو 

                                                          (الجزء الرابع )

 

                                                 المعرفة العملية ومكوناتها الأساسية

 

 

          ذكرنا في الأجزاء السابقة من سلسلة مقالتنا هذه أن للمعرفة العملية مكونين أساسيين وهما :

الأول : المكون العلمي ( التطبيقي والنظري ) .

الثاني : المكون المعياري .

 

وقد تبين لنا بأن المكون المعياري هو في حقيقته مكون أخلاقي ( 1 ) ، وبما أن المعرفة المعيارية من حيث هي معرفة للغايات التي يفترض أن تحققها من خلال تنظيم أو تعديل المجتمع من النواحي السياسية – الأجتماعية – الاقتصادية ، عليه فإن ما يشكل الموضوع الأخير للمعرفة المعيارية بصفتها مكوناً أساسياً للمعرفة العملية ، هو الجواب على السؤال : أي غايات في هذه الحالة لها الأسبقية على الغايات الأخرى ؟ ، وهنا يعني أن ما مطلوب منا هو أن نعرف في النهاية أي من هذه الغايات هي غاية خلقية ، فالغايات التي نعتقد على إنها غايات خلقية أو مسوغة من المنظور الخلقي ، هي في الحقيقة الغايات التي نعتبرها وبالضرورة على أن لها أسبقية معيارية على كل الغايات الأخرى . ومن تحليلنا هذا يتضح أن المعرفة المعيارية هي مكون أساسي من مكونات المعرفة العملية ، بالإضافة إلى كونها معرفة خلقية في المقام الأول .

 

إذن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما هي طبيعة المعرفة العملية ؟ من الواضح عندما نطرح هكذا سؤال فأننا في الحقيقة نتصدى لسؤالين وليس لسؤال واحد ، فالمعرفة المعيارية أو الأخلاقية لا يمكن أن تكون نوعاً من أنواع المعرفة العلمية ، أو حتى ذات طبيعة شبيهة بطبيعة المعرفة العلمية ، لأن المعرفة العلمية كما سنطرحها بعد حين ، تتخذ من التفسير والتنبؤ والوصف اغراضاً أساسية لها ، لذلك فإن من الموضوعات التي تشكل منها المعرفة العلمية هي بالضرورة موضوعات ذات مدلول تجريبي ، وعملية التحقق من صدقها أو عدمها هي عملية تجريبية خالصة ، أما المعرفة الأخلاقية فإنها لا تتخذ من التفسير والتنبؤ والوصف اغراضاً أساسياً لها ،لذا فإن القضايا التي تشكل موضوعات ممكنة للمعرفة الأخلاقية لسيت ذات مدلول تجريبي أو واقعي ، لأن المعرفة العلمية هي معرفة لعالم الوقائع التجريبية وللعلائق القائمة بين هذه الوقائع وبين القوانين التي تفسر هذه الوقائع ، وتفسر العلاقات القائمة بينها ، وتسمح بالتنبؤ بما سيمون عليه عالم الوقائع ، وبأختصار ، إنها معرفة لما هو موجود ولما سيكون . أما المعرفة الأخلاقية فهي معرفة معيارية ، أي معرفة لما ينبغي أن يمون ، ومعرفتنا لما هو موجود لا يمكن ردها إلى ما ينبغي أن يكون ، عليه فإن المعرفة الأخلاقية هي ذات طبيعة مغايرة لطبيعة المعرفة العلمية .

 

                                 (  طبيعة المعرفة العلمية )

 

سنحاول الأن في معالجة طبيعة المعرفة العلمية وسوف نكشف عن العناصر التي تعطي القضايا التي تشكل موضوعاتها .

إن العلم كما قلنا سابقاً يتخذ من القضايا مثل ( الوصف والتفسير والتنبؤ ) أغراضاً أساسياً له ، عليه فإن طبيعة المعرفة العلمية تفرض أن تكون القضايا التي تشكل موضوعات لهذه المعرفة ، أما هي هي قضايا وصفية أو تفسيرية أو تنبؤية ، والقضايا من هذا النوع غير ممكنة بوصفها قضايا علمية بدون امتلاكنا للمعرفة التفسيرية المناسبة . إلا أذا كان التفسير يتخذ نمطاً استنباطياً ( 2 ) وأن التنبؤ علمياً هو الأخر غير ممكن إلا اذا كان هذا التنبؤ هو ايضاً موضوعاً لتفسير علمي من النوع الاستنباطي . عليه فإن للتفسير العلمي له أسبقية منطقية وكذلك أسبقية إبيستمولوجية على التنبؤ ، لذا وفي سياق معالجتنا لطبيعة المعرفة العلمية سنجد إن القضايا الوصفية بأعتبارها قضايا علمية هي في أساس التفسير في العلم ، وتشكل مرجعنا الأخير فيما يخص كل قضية علمية أخرى وبدونها لا يمكن من الوصول إلى احد أهم مكونات التفسير في العلم ، ونعني بها النظريات العلمية والقوانين . إذن أن القضايا الوصفية هي الأساس للتفسير وبالتالي للتنبؤ ، ولهذا السبب فهي أساس العلم .

 

قد يتسأل البعض ، لماذا يتخذ التفسير في العلم نمطاً استنباطياً كما ذكرنا سابقاً ، أو ما هي الأسباب الموجبة لذلك ؟ وللأجابة على هذا السؤال لا بد اولاً أن نوضح نقطة مهمة تتعلق بالتفسير العلمي ، فالتفسير في العلم يرتبط بشكل مباشر بربط الوقائع بعضها ببعض ويشكل منهجي ، بحيث ننظر إلى كل واقعة على إنها تشكل نسق محدد من الوقائع ، ولكن الحديث عن وجود ارتباطات منهجية بين الوقائع ،وكذلك الحديث كون هذه الوقائع تشكل نسقاً معيناً ، عليه يفترض مسبقاً من وجود قواعد أو قوانين أو مبادىء عامة تخضع لها العلاقات القائمة بين هذه الوقائع .

 

وفي ضوء هذا الكلام العام لغرض التفسير في العلم ، بإمكاننا الأن أن نبين ما يلي :

1 – لماذا يجب أن يعتمد التفسير العلمي على وجود قوانين ونظريات علمية .

2 – لماذا يجب أن يتخذ التفسير العلمي طابعاً استنباطياً .

 

من الواضح إذن من تحليلينا السابق ، إن ما يراد تفسيره في العلم هو واقعة معينة أو بكلام أخر مجموعة من الوقائع ، وعندما نقوم بتفسير واقعة ما تفسيراً علمياً ، هذا يعني بأن هذه الواقعة هي جزء من نظام معين من الوقائع ، وعندما نقول كلاماً عن وجود نظام معين من الوقائع ، فإنما يفترض وجود مبادىء وقوانين تقر بوجود علاقة كل واقعة بالوقائع الأخرى ضمن إطار هذا النظام .

 

ومن نتائج المترتبة على هذا التحليل يتضح بأن التفسير العلمي الصائب بالمعنى المطلق لهذه الكلمة ، لا يوصلنا فقط إلى درجة التي نقول فيها بأننا نفهم الأن لماذا حدث ما حدث ، أو صار معلوماً لدينا لماذا حدث ما حدث ، بل يوصلنا إلى وضع معرفي معين يسمح لنا أن نقول : اصبحنا الأن نعرف لماذا حدث ما حدث ، وهذا الوضع المعرفي الأخير في الواقع هو الذي يشكل الهدف الأبعد للعلم . فما نريد أن نصل اليه في العلم هو نوع من ( المعرفة المنهجية ) للحوادث أو للوقائع ، لأن الإنسان في هذا العالم لا يهمه أن يعرف أن الوقائع المفردة هي كذا وكذا ، لأن المسألة الأساسية للعلم لسيت مسألة وصف الوقائع وتعدادها ، بل أن المسألة الأساسية للعلم هي في تفسير هذه الوقائع ، وأذا كان هدفنا من تفسير واقعة معينة هو أن نصل إلى معرفة كيفية ارتباط هذه الواقعة بوقائع أخرى وضمن إطار نظام معين من الوقائع كما قلنا سابقاً ، يوصلنا إلى هذا النوع من المعرفة ، فهذا يعني بأننا نصل إلى وضع يسوغ تسويغاً تاماً ادعاءنا بأننا نعرف لماذا حدث ما حدث . وأذا كنا فعلاً قد وصلنا إلى هذا الوضع المعرفي ، فهذا يعني بأننا قد وصلنا إلى وضع يتشكل من خلاله أمران هامان وهما :

 

الأول : الأمر الذي يتعلق بأكتشافنا لعلاقة منهجية منتظمة بين ما يراد تفسيره وأشياء أخرى خاضعة لقانون معين ,

الثاني : الأمر الذي يتعلق بمعرفتنا أن ما هو حاصل فعلياً في الوضع المعطى ، هو من نوع الأشياء التي يرتبط بها ما يراد تفسيره وفق القانون المشار اليه .

 

يتضح من هذا الشرح وما بيناه لحد الأن ، هو أن العلم هو محاولة لربط الوقائع بعضها ببعض ربطاً نسقياً ، وهذا هو الجوهر الأساسي للتفسير العلمي على أفضله . من هنا نصل إلى الأجابة ( لماذا التفسير في العلم يتبع نموذج القانون الشامل ) وهذا الشيء نفسه ينطبق على التنبؤ العلمي ، لأن هناك تشابه تام بين التفسير والتنبؤ ، بمعنى أن ما نحتاج إليه لتفسير ظاهرة ما ، هو هو ما نحتاج للتنبؤ بها وبالعكس ايضاً .

 

إذن ، إن جميع الأمثلة التي لجأنا إليها في تناولنا لطبيعة المعرفة العلمية ، هي في الحقيقة مأخوذة كلها من العلوم الطبيعية ، ولكن ما ينطبق على طبيعة المعرفة الفيزيائية أو الكيماوية لجهة طابعها الجائز ، ينطبق بالتأكيد على طبيعة المعرفة السوسيولوجية أو التاريخية أو السيكولوجية ، فإذا كانت الوقائع الطبيعية جائزة وكذلك القوانين المفسرة لهذه الوقائع ، فهل يعقل أن يكون الأمر خلاف ذلك بالنسبة للوقائع ( الأجتماعية – التاريخية – السيكولوجية ) وللقوانين المفسرة لها ، وخاصة فأن الأخيرة تعتمد على الطبيعة الإنسانية الأقل ثباتاً من الطبيعة الفيزيائية . وبما أن القوانين الطبيعية لا يمكن إلا أن تكون جائزة من المنظور المادي ، فإن الشيء نفسه ينطبق على القوانين الأجتماعية والتاريخية والسيكولوجية ، لأنها جميعاً تعتمد على الطبيعة البشرية .

 

 

                              ( يتبع في الجزء الخامس )

 

الهوامش :

 

( 1 ) الأخلاق : علم فلسفي يتناول مسألة السلوكية الواجبة للإنسان عن طريق تحديد مفاهيم الخير والشر والالتزام والواجب والصدق والحقيقة ، وذلك لاستنباط القيم والمفاهيم الخيرة بحد ذاتها عند بعض المفكرين ، أو بما يعود إلى استنباط قوانين السلوكية البشرية التي تعزز الإتجاه نحو الخير وتغني الحياة الاإنسانية عند البعض الأخر . ويتصل هذا العلم بمباحث أخرى تتداخل معه مثل مبحث القيم ومبحث المعرفة ، وهناك اختلافات في النظرة لعلم الأخلاق ككل ، منها حيث انصب تفكير الفلاسفة القدامى على اعتبار المعرفة والأخلاق المفتاح للمجتمع الفاضل ، بينما فسر اللاهوتيون الأخلاق على أساس مثالي وسماوي ما ورائي ، أما فلاسفة التفكير العقلاني فقد طرحوا المشكلات عاى أساس جديد ، وذهب الماديون إلى التفتيش عن أسباب دنيوية وأرضية محضة للأخلاق ، في حين رأى منظرو الاشتراكية الأخلاقية ضرورة الربط بين المادية الجدلية أي ( الماركسية ) وبين الفلسفة الأخلاقية الكانطية التي نادت بفكرة التضامن وأعتبرت الإنسان غاية لا مجرد واسطة . ومهما يكن من خلاف بين النزعات العقلانية والنفعية والاشتراكية فقد ركزت جميعاً على علاقة الأخلاق بالنظام الاقتصادي والاجتماعي وعلى أهمية دراسة مفاهيم الفلسفة والأخلاق في التفاعل مع هذه الحقائق بما يؤمن ارتقاء أحوال المجتمع وتحقيق سعادة البشر عموماً ( انظر الموسوعة السياسية الجزء الأول ص 110 وص 111 .

 

( 2 ) إن معنى أن يتخذ التفسير نمطاً استنباطياً ، هو ان التفسير الذي يتخذ هذا النمط هو تفسير يستوجب اللجوء إلى قوانين سببية ، أن أفسر مثلاً : لماذا تمددت قطعة من الحديد هو أمر يستوجب مني أن ألجأ إلى القانون السببي ، المعادن تتمدد بالحرارة . فإذا كنت أعرف أن الحديد معدن وأن قطعة الحديد التي تمدت إنما بصورة لاحقة لازيادة حرارتها ، إذن فإن لجوئي إلى القانون السببي المعني يزودني في هذه الحالة بتفسير كافي لحدوث تمددها .