الحلقه الخامسه عشر

 

الشيوعي البصراوي  الذي كان يتغنى  بألقوش  باق ٍ في الذاكره  

 

 

 

 

 

 

 

                               

                                                

                            

                                                  شوكت توسا

 

  إستكمالا لحلقاتنا التي نعتذرعن  تعثر تواصلها بشكل منتظم  لاسباب  خارجه عن ارادتنا , نعود لنكمل ما تبقى .

   من جملة النعم التي  منت  بها الطبيعة علينا لتميزنا عن بقية الكائنات, هبة الدماغ  بحجمه الصغير وقدرته على خزن احداث ومشاهد نستذكرها كلما استدعتنا الحاجه , فيها من المهم الذي  يصلح نموذجا  لمن ينشد مواصلة حياته كما يستوجب , ليس القصد بان المهم  هو حصريا الموقف المشرف والرزين  , فالاهمية تكمن أيضا في إستذكار  شطحات  وهفوات  لا تـُـوَد ْ ولا يحبب استذكارها  لكن  التذكير  بها  ضروري  لإنذار مسبق  أوتحذير لمن لا يرى في عالم محيطه الا نفسه , فالحياة بمجملها هي أشبه  برحله  طالت ام قصرت , يحل  فيها الانسان طفلا محبوبا  في اولى محطاتها ,  يكبر  ويشب عوده لياخذ دوره  باستقبال ضيوف جدد ومشاركة جوقة المودعين لكل من يغادر  مثلما سيودعه الأخرون عند مغادرته , هكذا كلٌ منا يبدأ مشواره ضيفا  خفيف الظل ثم يغادر تاركا  بصمة  يستذكرها الخلف من بعده,لا غرابة لو تناسى أحدنا إستذكار مآثر مبدعينا وأبطالنا, لكن المعيب ان ننادي أبا رغال الخائن  بإسم الليث أو أن نصف إبن آوى بالحمل الوديع .

     في العام الدراسي 1970 _1971 , بعد أن نُـقلنامن بناية القسم الداخلي رقم 6 الكائن في الفيصليه, تم توزيعنا على بنايات  جديده بجوار الجامعه , فتفرق شمل مجموعتنا وضاعت معها  تلك الاماسي الجميله  التي كانت  تلمنا ( كطلبه من برطله والقوش وبغديده وزاخو وعينكاوه وكرمليش)  في غرفة أحد الأصدقاء بمجرد سماعنا صفارة  الصديق صليوه  إيذانا لنا بالتجمع لقضاء وقتا نتبادل فيه مختلف الاحاديث .

شاء نصيبي في بناية القسم الجديد ان أعيش في غرفة مع  طالبين غاية  في الطيب ,أحدهما  بصراوي أسمر إسمه عبد الزهره الزبيدي( ابو يسار) , شاب شيوعي من الطرازالثوري العنيد يعمل ضمن التنظيم  الموصوف آنئذ بالمنشق (قياده مركزيه) ,متزوج وله بنت إسمها يسار ,في البدء  لم أكن اعرف عنه أكثر من معرفتي  العابره لأي طالب آخر في الكليه  , غير ان علاقاتنا توطدت بعد السكن سوية  وعرفنا بعضنا عن كثب , مع مرور الايام وتبادل الثقه فيما بيننا عرف باني منتمي الى اتحاد الطلبه  التابع للحزب للشيوعي (اللجنه المركزيه) , الجميل الذي جذبني فيه هو انني لم اشعر يوما بان إختلافه الفكري  أعاق  إنسجامنا  وعيشنا مع بعضنا , بل زادنا قربا من خلال نقاشاتنا  وزاد من إنشراحه المفعم بالمحبة  لكل ما له علاقه بأسم ألقوش التي كان يتغنى بإسمها وبناسها وكانه واحد ٌ من أبنائها ومواليدها,  شخصيا لم أستغرب  من إعجابه هذا لانه كثيرا ما كان يشيد ايضا بأهالي مدن وبلدات اخرى كالشطره وعينكاوه وكويسنجق ومدينة الثوره  قاصدا ثقافتهم اليساريه  ,  اللطيف في هذا الشاب  انه كان يتعمد نطق كلمة القوشي  بدون الالف واللام فيلفظها  قوشي.

 نتيجة إعجابه  بمناطقنا التاريخيه العريقه وبسكانها الطيبين, نمت عنده رغبة زيارة هذه المناطق,فإصطحبته في أحد الجمع معي الى بلدة تلكيف  تلبية لدعوة  زيارة  عائلة  احدى الزميلات المحترمات  التي توفاها الاجل  قبل عامين في ديترويت , رافقني  في زيارتي بعد  طلب الأذن من الزميله المرحومه خيريه طوبيا  التي وافقت  بكل ممنونيه , إندهش الاخ عبد الزهره من طريقة صناعة الراشي التي كانت تمارسها عائلة المرحومه خيريه , كما انبهر بطيب اهل المدينه وبإنفتاحهم الاجتماعي و هكذا ببنايات البلده  العتيقه  الجذابه , من شدة إعجابه بأخلاق المرحومه خيريه وبطيب عائلتها ,حاول الاخ عبد الزهره ان يعبر عن محبته  وحرصه على مصلحتي  حينما سألني بعفويه وببراءته المعهوده عن سبب عدم طلبي يدها من اهلها ,لكني اوضحت له بان تقاليدنا الاجتماعيه  المتبعه تفرض علينا إيلاء الأهميه لمسالة العمر واكمال الدراسه  وتدبير المعيشه قبل التفكير او الاقدام  على هكذا مشروع  .

  في صباح يوم أغبر رغم شمسه المشرقه ,غادرت القسم الداخلي كعادتي متوجها الى الدوام  تاركا عبد الزهرة  في الغرفه نائما  لوحده , وانا في طريقي  بين الاشجار التي تفصل القسم عن بناية الكليه  , أوقفني شخص طويل القامه  تجاوز الثلاثين من عمره ,  وجهه مائل للسواد ملئ بالحفر والتجاعيد, واضح من شكله بانه ليس من موظفي او طلبة الجامعه ,سألني إن كنت أعرف طالبا بصراويا اسمه عبدالزهره الزبيدي , اجبته بنعم رغم عدم إرتياحي من هيئته وهو يرتدي الجاكيت  في يوم مشمس , بلطف مصطنع اخبرني بانه ابن عمه قدم من البصرة لرؤيته , بين ان أصدق كلامه وأكذ ّب شكوكي ,  كذبت عليه و أخبرته بان عبد الزهره  في مثل هذا الوقت معتاد على  تناول وجبة فطوره في مطعم نادي الجامعه و بامكانه رؤيته هناك , طلب مني مرافقته الى النادي متعذرا بعدم معرفته الطريق الى النادي , لكني غلبته  بحجة  تأخري عن  المحاضره  لو رافقته , لذا أرشدته الى طريق النادي  وتركني لحالي .

مباشرة عدت أدراجي وأبلغت عبد الزهره بالأمر بعد أن أيقظته من نومه , بينما كنت اصف له شكل وملامح ابن عمه المزعوم  , كان كعادته  يبتسم  بوجهي وكأني أصف له شكل ممثل في أحد الافلام,  قبل ان اكمل كلامي قاطعني قائلا  :"هذا مو ابن عمي !! هذا واحد من چْلابْ الامن جاي يريد يصيدني ", ثم نهض مسرعا لتغيير ملابسه , بينما إنشغلت انا بلملمة الاوراق والكتب التي لا علاقة لها بمناهج دراستنا والقيتها  بين الحشائش عبر الشرفه.

 حين سألته عن ماذا سيفعل, اجابني ليس له افضل من الذهاب الى وادي حجر حيث  وكرهم السري قرب معمل النسيج حسب علمي , لم يكن معه ما يكفيه لتاجير تاكسي لذا ناولته بضعة دراهم ثم خرج  من الجانب الشمالي للبنايه متسللا الى الشارع العام, بعد توديعه عدت ثانية مسرعا الى الكلية لألحق بالمحاضره وفكري قلق و مشتت في اكثر من مكان وانا اتساءل مع نفسي يا ترى ماذا سيكون مصيرهذا الشيوعي العنيد  لو وقع بايدي اجهزة الامن, وهل وانا الصديق المقرب له ساكون في مأمن , أسئله كثيره  تبادلتها مع نفسي دون ان القى لها اجابه.

 في قاعة المحاضره,كنت من خلال نوافذها أرى وجوها غريبة  تجوب اروقة وممرات  الكليه ,  لا يختلف شكلها المخيف عن شكل ابن عم عبدالزهره المزعوم , مهما يكن , إنقضت المحاضره دون ان أفهم شيئا من حديث الأستاذ المحاضر ,ثم توجهت بعدها الى مسؤولنا الطلابي  (كريم سعيد/ كردي اربيللي) لأعلمه بما  جرى ومنه عرفت  بان رجال الامن قد باغتوا طالبا شيوعيا(قياده مركزيه) في كلية العلوم وإعتقلوه  وما زالوا يفتشون الكليات و الاقسام الداخليه  بحثا عن طلبه آخرين من نفس التنظيم , بعد انتهاء المحاضره  الثانيه التي لم يكن حالي  فيها افضل  من المحاضره الاولى , إستدعاني طالب بعثي  يدعى فندي (من اهالي حمام العليل)لا اتذكر اسم والده ,  في غرفة اتحادهم  سئلت عن  سبب غياب عبد الزهره  عن الدوام , كذبت كذبة أخرى  كنت قد هيأتها  من باب الاحتياط  حيث أجبتهم باني نمت ليلة امس مبكرا ولم يكن في الغرفة و عندما استيقظت هذا الصباح لم أجده  ربما يكون قد بات في مكان اخر او غادر غرفتنا في الصباح قبلي .

غاب الصديق أبو يسار عن الأنظار ولم يك بوسعي فعل شيئ سوى الإستفسار من أصدقائه الذين إعتدت اللقاء بهم  في محل الحلاق الاشوري  يوخنا برواري  في شارع حلب , علمت من اصدقائه ( سالم العماري, عذاب الركابي, جمال الكربلائي,علي النجار) بانه في مأمن وهذا ما طمأنني  ,لكني أسعدت كثيرا حين علمت منهم بان هناك من  يحاول مساعدته في تسهيل أمر عودته , بعد قرابة اسبوع  عاد ابو يسارثانية الى الدوام دون أن اعرف تفاصيل طريقة عودته , لكنني اكتشفت لاحقا بان عودته كانت ردة فعل المتحدي والعنيد مما دفعني الى الطلب منه بتهدئة حماسه  والتخفيف قليلا من نشاطاته كي يتجاوز هذه الأزمه , بدأ ابو يسار يغير مكان مبيته واحيانا يغيب يوما او يومين عن الانظار ثم يعود ويظهرمن جديد  الى ان تجاوزت غياباته الحد المسموح به  فتم فصله لما تبقى من السنه ,لم يفلح أحد  في اقناع موظف التسجيل في تسهيل امر عبد الزهره مما إضطره على أثر فصله الى السفر الى البصره كما روج عنه وقتها , لكن  احد اصدقائه المقربين أكد  بانه  ذهب الى منطقة برزان ( احدى قواعدهم المسلحه) .

تخرجي من الجامعه

 هواية  الرياضة( القدم و المنضده)  وصحبة الاصدقاء و النشاطات الطلابيه  أخذت هذه الهوايات  والمشاغل  من وقتي الكثيرمما كان يفترض تخصيص قسما منه للدراسه , لذا كنت مدى السنوات الثلاث الاولى  أحرم ُ من متعة العطله الصيفيه في القوش بسبب إنشغالي بدراسة الماده التي أكمل فيها وأحيانا مادتين  ثم انجح في الدور الثاني( درجة النجاح في وقتنا كانت 60%).

 في  السنه الرابعه  نتيجة انتقاد وعتاب  والدي ّ رحمهما الله  وكثرة إلحاح إخواني الذين طالبوني بضرورة النجاح من الدور الاول , بدأت في البحث والتفكير بطريقه  أبتعد فيها عن النمط الذي إعتدته في تمضية اوقاتي كي أستطيع  توفير الوقت الكافي للدراسة والتهيئه للامتحان النهائي, من اجل ذلك فاتحت شقيقي الاصغر نشأت  الذي كان يسكن في غرفة  مؤجره قرب كلية الطب,طلبت منه مساعدتي في العيش معه فترة التهيؤ للامتحانات رغم بعد الغرفه عن كليتي,لكنه كان كريما معي عندما  ترك الغرفة لي بعد تنسيق سكنه مع صديقه (شوقي يوسف) , وهكذا قضيت قرابة شهر من العزله متفرغا لبرنامج لم أعتاده سابقا في التحضير للإمتحانات النهائيه التي أديتها  بشكل جيد  خلاف السنوات الماضيه , ثم غادرت  الى القوش بانتظار النتيجه, كانت بحق فرحتي وفرحة العائله كبيرة  عندما جاء تسلسلي السابع ضمن  قائمة الثلاث عشر الناجحين في الدور الأول ( كان مجموعنا في السنه الرابعه بحدود ال 30 طالب وطالبه) .

  كل هذه الفتره ظلت أخبار عبد الزهره منقطعه عني خاصة بعد ان تخرجت  حيث لم اسمع عنه اي شيئ  الا بعد عامين من تسريحي من الخدمه الالزاميه عندما صدمت بنبأ إعتقاله  في البصره  وصدور حكم الإعدام  بحقه  ثم خفف الى المؤبدبعد شموله بقانون معين حسب ما قيل , علما  اني كنت قبل ذلك قد إستفسرت عنه من أحد الطلبه الشيوعيين (من جنوب العراق)  رايته في القوش اثناء اندلاع الصدامات المسلحه بين تنظيمات الحزب الشيوعي  والحزب الديمقراطي الكردستاني  في عام1974 ولم يكن لديه اي خبر يقين عنه .

 منذ ذلك اليوم  وأخبار أبو يسارغائبه عني  تماما , حاولت مرات عديده  قبل و بعد سقوط النظام  معرفة  أي خبر او معلومه عنه  لكني لم أفلح, ولشدة رغبتي في معرفة اين صفا به الدهر , كتبت اكثر من ايميل للشاعر عذاب الركابي المقيم حاليا في مصر عساه يعرف عن اخباره شيئا , كما كتبت  للصديق الشاعر علي النجار الذي كان من ضمن الطلبه المسفرين الى ايران  مع عوائلهم في بداية السبعينات  بتهمة التبعيه , وهو  يعيش حاليا في اميركا , لكني لم اتلقى اي معلومه مفيده ,وقد  فاتني ان أستفسر عنه  من الصديق العزيز عبدالله منصور خزمي (أودا)  الذي إلتقيته مؤخرا  في ويندزر /كندا  , كونه احد أصدقائه وزملاء مرحلته .   سأكون سعيدا وممتنا لكل من  يزودني  باي معلومات  او اخبار عن الصديق عبدالزهره الزبيدي ...

الى الحلقه السادسه عشر لطفا.......................... في معسكر الغزلاني