المفارقة عند القاص هيثم بهنام بردى

 

 

 

 

                 

                   مثنى كاظم صادق

 

             المفارقة لغة : هي التمييز أو التباعد بين موقفين متباينين ، أما في الاصطلاح فهي عدول على مستوى المألوف ؛ لكي يلتذ المتلقي بكسر أفق التوقع ، وتضرب جذور المفارقة عند القدماء بدائرة التقابل والتضاد ، ويشير الجاحظ في حكاية مشهورة له في البيان والتبيين إلى أنه لو تحدث رجلان بنفس القدر من البلاغة والفصاحة والبيان ، وكان أحدهما سيدا جليلا ذا ثياب نبيلة وحسب ونسب ,

 

 وكان الآخر وضيعا مغمورا رث الثياب لحكم الناس للوضيع المغمور على السيد المشهور لوقوع الاحتقار له في نفوسهم ؛ ولأنه بحسب الجاحظ ( ظهر منه خلاف ما قدروه له ؛ لأن الشيء من غير معدنه أغرب وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم ، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف ، وكلما كان أطرف كان أعجب وكلما كان أعجب كان أبدع ) . وبعد فهذه قراءة تنفيذية للمفارقة لمجموعة من القصص القصيرة جدا أبدعها هيثم بهنام بردى  ووسمها بـ ( حب مع وقف التنفيذ ) إذ يسلط القاص الضوء في مجموعته هذه على المفارقات بتقنية فنية مدهشة ، حيث يماهي القاص ما بينه وبين شخوص قصصه ففي قصة ( حب مع وقف التنفيذ ) يشعرنا القاص الذي اختار هذه القصة عنوانا لمجموعته ، يشعرنا بأن الأرض لا ترحب بالحب مثلما ترحب به السماء !! من خلال تعكير صفو اللحظات الحميمية بين حمامة وذكرها من قبل قطة بيضاء مشاكسة مما حدا بالطائرين إلى الطيران بعيدا في السماء وأغلب الظن أن هذه القصة هي ( مهماز ) هذه المجموعة وإذ نتوقف عندها نكون قد استجبنا لما أضمره القاص باختيارها عنوانا لمجموعته ، فهي جوهرة تاج المجموعة التي كانت أحدى أهم لبناتها المفارقة إذ إن ( حب مع وقف التنفيذ ) هو عنوان موزع على ثنايا قصص هذه المجموعة أو هو إطار عام يؤطرها بجدلية ثنائية فعلى سبيل المثال لا الحصر بطل قصة ( الثلج ) أحب الوصول إلى القرية / مع وقف تنفيذ الوصول !! وبطلة قصة ( صدى ) أحبت في لحظة محمومة أن يأتي زوجها / مع وقف تنفيذ المجيء !! وبطل قصة ( ذكريات ) أحب رجوع شباب زوجته / مع وقف تنفيذ الرجوع !! وهكذا دواليك موظفا منغصات الحياة وشوائبها بمنع تنفيذ الرغبات المكبوتة في النفس الإنسانية .  وإذا كانت المفارقة ترتبط بالحيز الفكري المثار عند المتلقي عند قراءة النص فحسبنا من القاص أنه يخترق ( المتعارف عليه ) لاستثارة المتلقي وتحفيز ذهنه ففي قصة ( الثلج ) رجل يحمل صاحبه المريض على كتفيه في أرض ثلجية ممتدة يحلم بالدفء والوصول إلى القرية ( لا بأس يا صاحبي ، لم يبق سوى تسلق هذا الجبل ونصل القرية ) ص 16 إلا إنهما بعد الخطوة الأخيرة لم يجدا سوى الثلج !! وجبل ثانٍ باسق ثم قال مهوناً عليه ( لا بأس لم يبق سوى تسلق هذا الجبل ثم ننحدر نحو القرية ) ص 17 فالمفارقة هنا أوحت بغياب الأمل ( القرية ) لتعدد رمز الهداية ( الجبل ) من خلال مفارقة الموقف واللفظ فالحوار قد أخذ بعدا مختلفا على الرغم من تشابهه في اللغة المستعملة لكنه أحدث المفارقة لاختلاف الموقف ، حيث ينفتح القاص هيثم بهنام بردى في قصصه على لغة تدفع النص إلى توليد صور مشهدية مصغرة ولعل قصة ( الهاجس ) مثالا على ذلك فبطل القصة يشعر بارتطام شيء ما بسيارته برؤيته نقطة دم على زجاج السيارة الأمامي فيدفعه الفضول للنزول ليكتشف أنه اصطدم بحمامة ثم تتولد المفارقة عندما رأى ( الشارع والزرع المحصود الذي يحاذي الشارع من الطرفين والسماء الزرقاء .... حمائم مقتولة ) ص 30 فيمزج القاص هنا معقولية الحدث من جهة بلا معقولية الوقوع من جهة أخرى . أما مفارقة الحياة والموت فمعادلة صعبة نجدها في قصة ( الرقصة ) التي يخيل إلى  بطلها بأنه يرقص مع زوجته الميتة داخل سرداب البيت ثم يصحو فجأة فيروي ويقول : ( فتحت عيني وحملقت مذهولا ، كنت نائما على أرضية السرداب عارٍ حتى من جلدي ، والماء الآسن يحتويني ، وأحمر الشفاه يصبغ جسدي ) ص 53 باحثا بما وراء الوعي نحو السعادة فيعمد القاص هنا إلى وضع أحمر الشفاه على جسده موحيا بـ ( مقلب ) ما من أجل إكمال استيفاء الصورة الدرامية بتصويره تعاطف الإنسان وشوقه إلى من يحب أما القصتان ( طرزان ) و ( الساحر ) فهما تمثلان الإحاطة بنوازع النفس الإنسانية التواقة إلى التجربة والمحاكاة بحرص القاص على اقتناص الأحداث مهتما بأدق التفاصيل بتصويره لقطات قلما تحظى باهتمامنا ولاسيما عند أطفال هذه القصص الذين قضى أحدهم وجرح الآخر بتسلية مؤلمة . إن المفارقة في هذه المجموعة ـ كما أظن ـ هي إعادة هيكلة لما هو مألوف لتكوين صورة غرائبية وحسبنا في الختام قول جوته ( إن المفارقة هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق ) .