(( هل الفساد المالي إرث تاريخي ))

 

 

              

       

                                         

                                          يوسف زرا

   قبل أكثر من نصف قرن مضى، كان قد عرض فلم في سينما السندباد في بغداد – منطقة الاورفلي – وأعتقد كان عنوان الفلم إما ( سعيد أفندي أو أبو هيلة ) وكان من أبطاله الفنان القدير يوسف العاني ونخبة من الفنانين والفنانات أيام زمان. 
وسرت الإشاعة عنة بسرعة البرق، بأن المغزى لهذا الفلم يدور حول الفساد الإداري والمالي المستشري في جميع مرافق الدولة للنظام الملكي. ويظهر الفنان يوسف العاني في شارع أبي نواس يشتري سمكة كبيرة من أحد السماكين المتواجدين في الشارع المذكور. فبادر الفنان بفحص السمكة بشمها من ذيلها. فسأله أحدهم لماذا تشم الذيل. فأجاب يوسف العاني لأن الخيسة قد بدأت من الرأس فهل وصلت إلى الذيل؟ . وفي اليوم الثاني أُغلقت دار السينما المذكورة ومنع عرض الفلم فيها، واختفى الممثل المذكور وبعض زملائه المشاركين معه. ولا حاجة لمواصلة ما حل بعد ذلك. وكنت أحد من اللذين شاهد الفلم.
إن ما ورد أعلاه هي وثيقة تاريخية حقيقية ولم تستنسخ من أرشيف مزور ولا من مخزون في جهاز الكومبيوتر الذي شاع استعماله حاليا والذي يمكن أن يزور أية وثيقة تاريخية وحتى لو كانت من العمق الحضاري ويطرحها في ميدان الإعلام المزيف.
كان ذلك في عهد لنظام حكم ملكي رجعي في عرف كل القوى الوطنية والأفكار التقدمية آنذاك ولا زال. ولم يكن رائجاً في السوق السياسي مفاهيم ديمقراطية ولا عدالة اجتماعية، ولا حقوق إنسانية، أو حرية إبداء الرأي بشكل علني، وتسقط الحكومة بمجرد انتفاضة للقوى الوطنية لمدة عدة أيام وتقدم التضحيات . وثم تهدأ الحالة بمجرد تشكيل حكومة جديدة وكأن شيئاً لم يكن.
ولكن بعد أكثر من نصف قرن من السنين، ها هو التاريخ يعيد نفسه بصورة أبشع متقمصا ميزة عصرية –  نظام جمهوري –  دستور دائم برلمان منتخب – محكمة اتحادية دستورية – أحزاب سياسية وصحافة ناطقة باسمها ومستقلة لا تعد ولا تحصى، إلى جانب عشرات وكالات الأنباء وقنوات خاصة وعامة تنقل ما يحدث في كل ساعة ودقيقة لما يقع على أرض الواقع في غالبية مراكز المحافظات من التفجيرات والأعمال الإرهابية التي تؤدي إلى استشهاد العشرات ومئات من الجرحى وخاصة في مدينة بغداد العاصمة وفي محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى وبابل والبصرة وغيرها. دون أن تتمكن الجهات الأمنية وضع حد لها أو تقليلها. أو إلقاء القبض على رؤوس الإرهاب المنظم عدى ما يكشف عنه عبر وسائل الإعلام عن استشراء الفساد المالي وبشكل مكشوف في جميع مرافق الدولة وخاصة وزارة التجارة والدفاع والكهرباء وغيرها. وكأنه أصبح الأمر مستعصيا على المسؤولين ومستحيل تشخيص هذه الحالة المزرية إلى جانب تفشي البطالة في صفوف النسبة العالية من الشباب، والخريجين منهم. ولم يعد أحد يسمع إلى مطاليب الجماهير من فقدان الخدمات الأساسية أو تدينها ومنها الكهرباء والماء والبطاقة التموينية إلى جانب فقدان الأمن كما جاء أعلاه .                                                                 
وقد وصلت الحالة بأن مجلس النواب أصبح ميدان وساحة الصراع والمنازعة بين الكتل السياسية المتنفذة والمتصارعة على السلطة، ولم يعد بإمكان دعوة أي شخصية رسمية من الحكومة – كرئيس الوزراء – أو وزير التجارة أو وزير الكهرباء أو من قادة الأمن والتحقيق معهم وتحديد المسؤولية القانونية بدون تأخير أو مماطلة بمعنى انه ( مجلس النواب ) فقد شرعيته كسلطة شرعية منتخبة من قبل الشعب ومن حقها محاسبة أية شخصية سواء كانت في السلطة التنفيذية أو قضائية. والكل يدعي بسيادة القانون تبجحاً ورياءً .
فما أشبه اليوم بالبارحة وبعد مضي أكثر من خمسة عقود والفساد قد طال جسم الدولة وفي ظل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي وحقوق الإنسان .
هل يحتاج أي كان أن يفحص سمكة ولو صغيرة ويشمها من رأسها لا من ذيلها ولا يعرف إلى أين وصلت خيستها حقاً ؟ 
وهل الفساد المالي إرث تاريخي ؟  
أم الكل لا يرى ولا يسمع وبريء من كل شيء ؟