الغرب بين ترويج المطلوب ومصادرة المرفوض

 

                                                   

 

 

                                                             

                     

                                                              

                                      

                                                د. سعيد الشهابي
                                              ' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

 

     يخطىء من يعتقد ان الاعلام الغربي يتحرك ضمن مقولات 'الحياد' او 'الموضوعية' او 'المهنية' بشكل كامل، او انه لا يحمل رسالة، او ليست لديه اجندات سياسية او ثقافية. كما انه مجانب للحقيقة الاعتقاد بان منح جانب من التغطيات الاعلامية لبعض القضايا التي تبدو داعمة لمشاريع ثقافية او سياسية مغايرة للتوجهات الغربية دليل على 'الحياد' او 'الموضوعية'، وان كانت تنطوي في ابعاد محدودة على شيء من ذلك.

فالاعلام الغربي منسجم مع المشروع السياسي والثقافي الذي يسعى الغرب لترويجه في العالم. هذا الغرب مستعد لخوض الحروب لضمان قدرته على تحقيق ذلك، ولا يستطيع تحمل اية منافسة حقيقية لاطروحاته. وبالتالي فمن الضرورة بمكان ان يتم استيعاب حقيقة المنظومة الغربية ودور كل من مكوناتها في الترويج لها، ابتداء بالاعلام، مرورا بالمنظمات الحقوقية ومشاريع حقوق الانسان، ومؤسسات البحث والعصف الذهني والدراسات، وصولا الى المؤسسات العسكرية والجيوش والتحالفات الاقليمية. ويتم ترويج المشروع الغربي بشكل منفصل من قبل كل دولة او كيان او مؤسسة على حدة، وقد يتطلب الامر اجتماعات وقمما على اعلى المستويات.

ويمكن القول ان قطاعي الاعلام وحقوق الانسان من ابرز الجهود التي تروج لذلك للمشروع لسبب مهم وهو ان هذه الجهات قادرة على ممارسة دورها بأساليب وطرق أقل اثارة للآخرين، وأكثر جذبا، وبأقل خسارة. ولا يمكن استيعاب معالم المشروع الغربي بدون ادراك مكوناته ومفرداته، ودور كل منها في إكمال اللوحة الفكرية والسياسية والثقافية. فالاعلام ومنظمات المجتمع المدني خصوصا الحقوقية منها، وكذلك مشاريع الاغاثة والمساعدات الخارجية والمؤتمرات الدولية، كلها تمارس ادوارا مكملة للدور العسكري للجيوش او الدور السياسي للحكومات، او الدور الاقتصادي للمصارف والشركات المتعددة الجنسية.

ومع سيادة حضارة 'المنتصر' تصدق المقولات التي يطرحها الغربيون انفسهم ومنها توصيف ممارسات الطرف 'الغالب' في الصراعات الدموية ومنها 'عدالة المنتصر'، 'انتقام الغالب' وغيرها. ولم يكن تصريح الرئيس الامريكي السابق، جورج بوش، بعد

حوادث 11 سبتمبر الارهابية الذي قال فيه: من ليس معنا فهو مع الارهاب، او استعماله مصطلح 'الحملة الصليبية' لتوصيف الاعمال العسكرية اللاحقة بمنأى عن مشروع الهيمنة الغربي الذي ترخص أرواح البشر من اجل ضمانه. انها مفردات توضح بعض معالم المشروع الغربي بشكل افضل. ولكونها كذلك فانها لا تعطى الاهتمام الاعلامي بما يكفي لكشف المزيد من تفصيلاتها او ابعادها. فالاعلام يمارس دوره بكفاءة وبروح مسؤولة تتناغم مع المشروع وروحه، ولا تؤثر سلبا عليه. ولكن ماذا يعني هذا الكلام؟ وما الادلة التي توضح اشاراته الغامضة؟

قبل خمسة اسابيع انسحب الأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو من فعالية بسبب مشاركة رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بيلر، فيها.

كان من المقرر أن يشارك الاثنان الثلاثاء في ندوة حول القيادة على مدى يوم كامل في مدينة جوهانسبورغ. وقال توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984 اعترافا بجهوده في مكافحة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا إن تأييد بلير لحرب العراق 'أمر لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا' وسيكون 'من غير اللائق بالنسبة إليه المشاركة إلى جانبه. الى هنا انتهت الحادثة واسدل الستار على القضية برمتها. والسؤال هنا: ما مدى اهمية موقف توتو؟ ما الذي ينطوي عليه ذلك الموقف؟ ما بعده الاخلاقي والحضاري؟ وهل كان حقا يستحق اهتماما اعلاميا اكبر؟ ليس من السهولة بمكان الاجابة بشكل حاسم على تلك التساؤلات.

ولكن يجب عدم اغفال حقائق ذات صلة. ديزموند توتو اعلن العام الماضي تقاعده واعتزاله العمل العام. ولكن موقفه هذا يعني انه ما يزال يحمل 'افكارا' ومشاعر بسبب تجربته الطويلة في النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. فهو زعيم مسيحي كبير، اضفى دوره في النضال ضد العنصرية ابعادا على الصراع الذي كانت القوى الغربية تسعى لاظهاره 'شيوعيا'.

وما يزال افراد الاقلية البيضاء في جنوب افريقيا تروج مقولتها بان نيلسون مانديلا شيوعي وارهابي بهدف صرف الانظار عن حجم الانجاز الذي حققه. وفي الوقت الذي كانت الكنيسة بشكل عام ملتزمة بالصمت ومسايرة للسياسات الغربية تجاه العالم الثالث بما في ذلك دعم انظمة الاستبداد كان توتو يمثل نمطا كنسيا آخر، ثائرا ضد العنصرية ومتحالفا مع النضال الوطني.

ولذلك حظي باحترام وتقدير دوليين، ونال شهادة نوبل للسلام. من هنا وقف بشجاعة ضد الحرب التي شنها الغربيون في العراق، معتبرا ان موقف كل من بوش وبلير 'لا يمكن الدفاع عنه اخلاقيا'. والواضح ان المناضلين خصوصا مانديلا يظلون عمالقة يتفوقون في الاهمية على رؤساء اكبر الدول، نظرا لما يمثلونه من تعملق اخلاقي ومعنوي وانساني. وللتدليل على ذلك فعندما زار مانديلا بريطانيا قبل خمسة اعوام كان رئيس الوزراء البريطاني هو المتحمس لصورة تذكارية مع الزعيم الافريقي، وليس العكس.

والسؤال هنا: لماذا لم يعط موقف توتو الرافض لمشاركة توني بلير منبرا واحدا باهتمام اعلامي مناسب؟ بينما حظيت قضية الوزير البريطاني، اندرو ميتشيل مع الشرطة التي تحرس مبنى رئاسة الوزراء باهتمام كبير يتكرر يوميا حتى الآن. فقد ادعى احد افراد الشرطة بان الوزير استخدم الفاظا نابية معه، الامر الذي ينكره الوزير. ايا كان الامر فالاهتمام الاعلامي والسياسي تواصل بشكل مكثف وكأنها قضية بريطانيا الاولى. فماذا يعني ذلك؟ ماذا يعني اهتمام الاعلام بهذه القضية وتجاهله موقف توتو الذي ينطوي على اهمية من نوع آخر تفوق كثيرا ما يعنيه موقف وزير استخدم لفظا غير مناسب مع شرطي.

الفرق بين الموقفين جوهري، في نظر كاتب هذا المقال، فموقف الوزير مع الشرطي يمثل دعاية جيدة للنظام السياسي الغربي الذي يراد تسويقه للعالم وضمان هيمنته. الصورة المطلوب نقلها ان هناك نظاما سياسيا يقوم على اخلاق عالية تمنع الوزير من ازدراء من دونه باللفظ والفعل. انه تسويق لمشروع سياسي تتواصل التحديات التي تواجهه لاسباب عديدة خصوصا في عالم بدأت شعوبه تصحو باحثة عن بدائل سياسية وايديولوجية للنظام الغربي. فهناك الضربة التي وجهت للنظام المصرفي الغربي في الاعوام الخمسة الاخيرة، وهي ضربة ما تزال دول الغرب تعاني منها، وما تزال بلدان مثل اليونان واسبانيا تتأرجح تحت ضغوطها. فهناك مؤشرات في اليونان لتوتر اجتماعي بعد ان بدأ اليونانيون يواجهون الاجانب بغضب ويحثونهم على مغادرة البلاد.

النظام الغربي يعاني من تداعيات بنيوية تجاوزت محاولات الترقيع والاصلاح. يضاف الى ذلك مشاكل الغرب السياسية منذ ان اعلن حربه ضد الارهاب وما نجم عنها من تداخل في اولويات الاقتصادات الغربية من جهة وقضايا الامن والعلاقات الدولية من جهة اخرى. هذا النظام الغربي يستطيع التضحية بوزير او مسؤول اذا كان ذلك ضرورة للحفاظ على النظام ووقعه النفسي على شعوب العالم. وفي ظروف الصراع الايديولوجي يسعى الغربيون لاعادة تصدير مشروعهم الثقافي والسياسي بديلا للمنظومة السوفياتية التي تلاشت قبل عشرين عاما، واستبدلت في نظر الغربيين بما يعتبرونه تحديا اسلاميا مفتوحا على كل الساحات ونقاط التماس.

الاعلام الغربي يسعى، دائما، لترويج ثقافة غربية استعلائية ترى كل ما لدى الآخرين دون ما لديها، وانها هي معيار التقدم والنهضة الفكرية، ورأس الحربة في الصراع النهضوي الليبرالي. ولذلك يهتم الاعلام بترويج القيم التي تضمن الحريات الشخصية، فالفرد هو محور الحضارة الغربية ولا يحق لاحد تجاوز حقوقه وهويته.

ولكن ماذا عن موقف ديزموند توتو مع رئيس الوزراء البريطاني السابق؟ هل هناك ما لا يريد النظام الغربي ترويجه من وراء هذا الموقف. الملاحظ هنا ان توتو استهدف قضية تمثل جوهر الاستراتيجية الغربية معتبرا ان خوض الحروب ضد الدول الاخرى لا يمكن تبريره اخلاقيا. جنوب افريقيا التي عاشت اغلبيتها السوداء تحت حكم اقلية موغلة في الظلم، وقفت ضد التوجهات الحربية لدى الغربيين. فكانت ضد حرب العراق، باعتبارها استعراضا عسكريا وتسويقا لمشروع غربي يعتمد على القوة العسكرية والتدخل في شؤون الآخرين ومصادرة حق دول العالم الثالث في تحقيق نهضة تكنولوجية تؤهله للاعتماد على الذات. ولذلك استهدف توتو بموقفه الشخص الاول المسؤول عن قرار الحرب من الجانب البريطاني.

وهو قرار لو لم يتخذ لربما لم تحدث الحرب. فامريكا لا تمتلك الشجاعة الكافية لخوض الحروب بدون درع قانونية تستند لها لتبرير الخسائر الفادحة الناجمة عن التوترات المحلية والاقليمية. ان ترويج موقف توتو يعني الاعتراف بخطأ سياسة بلير التي ساير فيها امريكا ؤشارك في التخطيط لها. وبرغم الاطر الليبرالية العامة للاعلام الغربي الا انه يعيش ضمن اطر الدولة ملتزما بسياساتها العامة خصوصا في مجال السياسة الخارجية.

والايحاء بخطأ المشاركة في الحرب التي تقول الدولة انها ضرورة لضمان المصالح البريطانية في الشرق الاوسط، يعني لجم تلك السياسة مستقبلا وتحديد حرية الحكومات المستقبلية في الحركة واتخاذ قرارات الحرب والسلم. وبرغم ما يبدو من اختلاف ونقاش حول سياسة توني بلير فمن المؤكد ان اي مسؤول آخر سوف يتخذ قرارات مشابهة جدا لقراره، لان القرار ينطلق من الاعتبارات المصلحية لبريطانيا، وهي قرارات عليا يتخذها المسؤولون ايا كانت الاحزاب التي ينتمون اليها. ولو كان رئيس الوزراء آنذاك من حزب المحافظين لربما كان اكثر حماسا لمسايرة السياسة الامريكية. فالاعلام يطرح وجهة معارضة ولكن ليس بالحدة التي تتجاوز ما هو متعارف عليه ضمن الدوائر المسموح بالتحرك ضمنها. وقضايا الحرب والسلام من اهم صلاحيات الدولة خصوصا ذات التراث الاستعماري.

هذه الدول تؤسس سياساتها على الغلبة والقهر والقدرة على اتخاذ قرارات الحرب والسلام ضمن منظور ايديولوجي محدد غير خاضع بشكل كامل للقيم والاخلاق او المنطق. فالحرب قرار استراتيجي يعتبر من دعامات المشروع الغربي، وليس من المناسب اخضاعه للسجال العام. فقبيل الحرب ضد العراق خرج مليونا مواطن بريطاني في تظاهرة ضد المشاركة البريطانية في الحرب ضد العراق، ولكن قرار بلير والمؤسسة البريطانية كان اقوى من الاصوات التي ارتفعت ضدها. فالحرب هي المدخل للنفوذ السياسي والاقتصادي في العالم، وفق فلسفة الغرب وحساباته. وعندما يحاول احد النيل من مصداقية دعاة الحرب او استهداف مروجيها وقادتها فان النظام الغربي يستهدفهم باساليبه الخاصة، ولا يسمح لاصواتهم بالوصول الى الرأي العام. وما يتردد في الوقت الحاضر حول ما اطلق عليه 'ازدواجية المعايير' بداية متواضعة لاستيعاب المشروع الغربي. هذه الازدواجية هي التي تمنع مناقشة مقولات مثل الهولوكوست، وتروج اطلاق سمات العنف والارهاب على المجموعات الفلسطينية او الاسلامية العامة وغيرها التي تسعى لتحرير اراضيها من الاحتلال.

ثمة دوائر يتحرك ضمنها الاعلام الغربي ويمارس المواطنون حقوقهم في اطرها. ولكن هذه الدوائر لا تتسع لمن يسعى للتأثير على المنحى السياسي العام لهذه الدول او يحاول تحجيم قدرة الحكومة 'المنتخبة' على اتخاذ مثل تلك القرارات. ولان مثل هذه القرارات لا يخضع للذوق العام، وقد لا يناسب النزعات الفكرية في المجتمع، فان المؤسسة الغربية جعلته محصورا بنخبة الحكم. وبذلك وضع حد للسجال العام حوله. هذا برغم ترويج حرية الرأي وطرحها وكأنها جوهر المشروع الغربي، وان كانت هذه الحرية نسبية وخاضعة للتفسيرات الفردية والاجتهادات الشخصية. فكيف تقبل مقولة سلمان رشدي في تعريف هذه الحرية ومداها عندما انهى مقابلته مع بي بي سي قبل اسبوعين ان 'حرية الرأي تكون قادرا على الاستفزاز'. هذا الطرح ينسجم مع التوجه الغربي لاستفزاز دول العالم وابتزازها. انه منطلق يحمل في طياته الكثير من المخاطر، ويؤسس لعدد من الامور: اولها تشجيع الاضطراب الاجتماعي، وثانيها: التأسيس لصراع الحضارات، وثالثها: شرعنة العدوان الذي يبدأ بالكلام وينتهي .بالاحتلال. اما ترويج القضايا الهامشية فينطلق من عقلية التسويق لمشروع لا تتحقق فيه سمات النجاح. انه صراع يتجدد باستمرار بسبب هذه المقولات والمنطلقات الدعائية. الامر الذي لا شك فيه ان الغرب يمتلك اعلاما فاعلا ومؤثرا يستطيع التأثير على الرأي العام ليس في الغرب بل في العالم كله. وقد تحولت كافة قطاعات الدولة والنظام السياسي الى 'صناعة' سواء الاعلام ام العلاقات العامة ام الحرب نفسها، بل حتى الانشطة التي تبدو في ظاهرها 'خدماتية' وذات بعد رعوي او اغاثي، فكلها محكومة بالعمل لابقاء الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية، واحتواء تطلعات دول العالم الثالث خصوصا العالمين العربي والاسلامي. والاعلام، كما تمت الاشارة، اداة مفيدة وطيعة تخدم المشروع وتروج له وفق منظومة علمية اخلاقية واضحة المعالم وان كانت خافية على الكثيرين الذين لا ينفذون ببصيرتهم الى عمق المشروع وفلسفته.