المياه المشتركة في ضوء القانون الدولي

 

   

 

 

 

                                              

                                                  

                                                   د. حسن الجنابي

                                                   خبير في الموارد المائية وسفير العراق لدى منظمة الفاو

 

اولا:

شهدت الدول المشتركة بمياه الرافدين، ولا تزال،مخاضا غير مسبوق، دخلت اثره مرحلة جديدة لها استحقاقات مختلفة، لذلك فمن غير المستبعد، في حال استقرار الوضع قريبا، توافقها على ترتيبات طويلة الامدبشأن قسمة المياه المشتركة.فالنتيجة النهائية لهذا المخاض ستكون في صالح الشعوب، وان خيار الاتفاق على استدامة الموارد الطبيعية المشتركة، وليس الاقتتال من اجلها، هو الخيار العقلاني الوحيد.فالشعوب تدرك ان الاخطار والتحديات التي تواجهها المنطقة لاتتوقف عند الحدود الوطنية، بل هي عابرة للحدود، سواء كانت التحديات طبيعية، كالتغير المناخي والتصحر والاوبئة، او تحديات سياسية-امنية تُنتهك اثرها سيادة البلدان والشعوب من دون تمييز. وسيصبح واضحا اكثر من اي وقت مضى، ان انتهاك حقوق احد الاطراف لايصب في مصلحة مجموع الاطراف، وان اضعاف الشريك ليس في مصلحة الشراكة، وان استنزاف الموارد المائية لدولة المصب لا يصب في مصلحة دولة المنبع، وان الاستدامة خير من المكاسب القصيرة الامد، او المكاسب الانتهازية الطابعة والمؤقتة التي تغري بها ظروف عدم الاستقرار السياسي في المنطقة.

ثانيا:

تتكرر الاشارة الى القانون الدولي للمياه والدعوات الى تطبيقه في خطب وتصريحات العديد من المسؤولين العراقيين من كل المستويات والاختصاصات،ويلجأ بعضهم الى تداول ارقام واحصائيات ومطالبات باطلاق كميات محددة من المياه من السدود التركية دون سند علمي او تبرير اقتصادي،ولن يفيدنا شيئا ذِكرُ الامثلة بهذه المناسبة،بقدر الدعوة الى ضرورة احترام اختصاصات مؤسسات الدولة المعنية وعدم القفز عليها. ففي النهاية لاتعكس تلك الخطب والتصريحات بالضرورة فهما واقعيا لقانون المياه الدولي وتطبيقاته على وادي الرافدين، لكنها في غالب الاحيان تنبع من المنافسة والتسابق على الظهور الاعلامي، ما يسبب مزيدا من الارباك وخلط الملفات، فتضيع الحقائق على المواطنين وسط ادعاءات متناقضة لا تصبّ بالنتيجة في مصلحة العراق.

ثالثا:

ان القانون الدولي للمياه ليس دستورا مكتوبا بفقرات وتطبيقات محددة صالحة لكل زمان ومكان، وليس وصفة جاهزة او حلا سحريا وفوريا للخصومات والنزاعات حول الحصص المائية وادارة الموارد المائية المشتركة، بل هو مجموع الاتفاقيات والمعاهدات والاجراءات والآليات والمبادئ المتفق عليها كأساس لتنظيم علاقات الدول المشتركة بالموارد المائية، المصنفة على انها مياه دولية، حول الطرق التي يتم بها استخدام واستغلال تلك المياه لتحقيق اهداف مشتركة، مثل الشراكة في الادارة والاستخدامات المتنوعة للمياه، او منع تلوثها، وضمان توزيعها العادل بين الدول،وحماية التنوع الاحيائي وخصوبة التربة،والتكيّف مع المعطيات المناخية والهيدرولوجية، وتحقيق التنمية والفوائد المشتركة، وما شاكل ذلك مما تفرضه الخصائص الفيزيائية والهيدرولوجية والسياسية لكل حوض او مجرى نهري دولي.

رابعا:

هناك قضيتان مهمتان يفترض ادراكهما بخصوص القانون الدولي للمياه، فضلا عن كونه اطارا عاما ومجموعة مبادئ مقبولة من المجتمع الدولي لحل الخصومات المائية، وهما: عدم الزامية القانون الدولي للمياه، بمعنى انه لا توجد آلية دولية للسهر على تنفيذه وتأمين عدم الاخلال بمبادئه من قبل اي دولة عضوبالامم المتحدة. اما الخاصية الثانية، وهي فائقة الاهمية، فان الاتفاقيات الثنائية بين الدول المتشاطئة تجمّد او تلغي مفعول القانون الدولي، لان الامر بالنهاية يخضع للسيادة الوطنية وحرية البلدان الاعضاء في اختيار آليات حل الخصومات مع دول الجوار التي تشترك معها بالموارد المائية، ولايمكن اجبارها على اتخاذ مواقف مخالفة، كما ان القانون الدولي لا يطبق تلقائيا في حال الاخلال ببعض مبادئه.من جهة اخرى يجب تأكيد ان الاتفاقيات الثنائية هي ليست نصوصا واتفاقيات "مقدسة"، ولايمكن بسببها التهرب من الالتزامات التي يفرضها القانون والاتفاقيات الدولية او الاقليمية حول المياه المشتركة، خاصة اذا تسبب احد الاطراف بأضرار تهدد مجاميع بشرية ومناطق واسعة باخطار كبيرة، وغالبا ما تتضمن الاتفاقيات الثنائية آليات مراجعتها حسب الضرورة.

خامسا:

ما ورد في الفقرة اعلاه بحاجة الى نقاش مستفيض، ولكن سأكتفي باثارة قضيتين مهمّتين تتعلق الاولى بمدى الزامية القانون الدولي، حيث ان الغالبية العظمى من الاتفاقيات الدولية، ومنها الاتفاقيات البيئية، غير ملزمة قانونا حتى للدول التي صادقت عليها، ناهيك عن الدول التي لم تصادق عليها اصلا، وان الاستثناء الوحيد فيما يخص الاتفاقيات البيئية، هي اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD) لانها ملزمة قانونا للدول الاعضاء. لذلك فان المصادقة على اتفاقية دولية هي بمثابة اعلان عن الالتزام الطوعي للبلد المعني ببنود تلك الاتفاقية، ومن البديهي ان تترتب على ذلك الاعلان التزامات سياسية ومالية واخلاقية، ولكن الامر يعتمد بالنتيجة على مدى احترام الدولة نفسها لتوقيعها، وبالاخير لا شيء يجبرها ايضا على البقاء عضوا في الاتفاقية ان لم تحترم التزاماتها ضمنها، وبالطبع فان اللوائح الداخلية لتلك الاتفاقيات تتضمن آليات لانسحاب الاعضاء غير الملتزمين بها.اما القضية الثانية فهي ان عدم الزامية القانون الدولي للمياه لا يجيز تفسيره على ان دولة المنبع او اية دولة متشاطئة اخرى هي في مأمن من عواقب خرق مبادئ القانون الدولي، حتى وان لم تصادق على المعاهدات الدولية المعنية. لذلك فان معارضة تركيا - مثلا- لاتفاقية قانون استخدام مجاري الانهار الدولية للاغراض غير الملاحية لعام 1997، لا يعفيها من احترام الالتزامات التي تتضمنها تلك الاتفاقية، كما يمكن لأي مجموعة افراد ان يلاحقوا اي طرف يتسبب بالحاق الاذى بوسائل معيشتهم وبيئتهم اويهدد بقاءهم نتيجة لافعال ومشاريع تؤدي الى تغيير مجاري الانهار او تجفيفها او تلويثها الخ.

سادسا:

يرتكز القانون الدولي للمياه على أداتين،اولاهما القانون العرفي (Customary Law)اي مجموع المبادئ والقواعد السائدة المستمدة من الخبرة الانسانية المنبثقة عن الاجراءات والممارسات المقبولة، التي استخدمت في حالات سابقة دون ان تكون بالضرورة مكتوبة. اما الاداة الثانية فهي الاتفاقيات الدولية، وهذه تصنف حسب مجالات تطبيقها الى:

1. اتفاقيات عالمية (Global Treaties or Conventions)ان كانت شاملة لجميع الدول الاعضاء، وافضل مثال عليها هو "اتفاقية قانون استخدام مجاري الانهار الدولية للاغراض غير الملاحية" التي اقرتها الجمعية العمومية للامم المتحدة العام 1997،وهي اتفاقية غاية في الاهمية لكنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ بالرغم من انها حازت على اصوات الاغلبية الساحقة للدول الاعضاء في الجمعية العمومية،ولكن عدد المصادقات على الاتفاقية لم يبلغ بعد الحد المطلوب لادخالها حيز التنفيذ، علما ان تركيا صوتت ضدها في الجمعية العامة للامم المتحدة انذاك الى جانب دولتين اخريين فقط، فيما صوتت غالبية الدول الاعضاء لصالحها. ومع ذلك فان عدم دخول الاتفاقية حيز التنفيذ لم يمنع الاستناد اليها في حالات خصومة حسمت في اروقة المحكمة الدولية.

2. الاتفاقيات ذات الطابع الاقليمي، وافضل مثال عليها هو اتفاقية هيئة الامم المتحدة للتعاون الاقتصادي الاوربي (UNECE) المعنونة بـ "اتفاقية حماية واستخدام مجاري الانهار والبحيرات الدولية لعام 1992" وقد دخلت حيز التنفيذ منذ العام 1996، وتجري حاليا عملية توسيع نطاقها لتشمل بلدانا اخرى من خارج اوروبا، وقد عبّر العراق رسميا عن رغبته بعضويتها مؤخرا.

3. الاتفاقيات الثنائية لقسمة المياه المشتركة، التي اشرنا الى اسبقيتها على الاتفاقيات الدولية في فقرة سابقة، وهي بالطبع اكثر اهمية من اي اتفاقية دولية اخرى، اذ ان الدول المتعاقدة وفقها تمارس حقوقها السيادية، ومن غير المعقول ان تبتعد الالتزامات الواردة فيها كثيرا عن مبادئ القانون الدولي لان ذلك سيكون سببا في فشلها السريع.

سابعا:

لابد من الاشارة الى مرجعية عالمية اخرى مهمة جدا في ميدان القانون الدولي للمياه وهي اتفاقية هلسنكي لعام 1966. فهذه الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ ايضا ولكنها مثلت خطوة كبيرة للامام في قانون المياه الدولي، وبالاخص ترسيخ المبادئ العامة لقانون المياه التي تمثل اليوم روح القانون الدولي وتنسجم تماما مع مطالب ومواقف العراق (وسوريا) ويمكن ايجازها كالتالي:

الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية المشتركة.

•  عدم الحاق اي أذى ذي شأن بالدول المتشاطئة وان حصل ذلك فليجأ الى النظر بالتعويضا