سباق القهقرى

 

   

                                         

 

 

 

                                     

                                          

                                            جورجينا بهنام

    

       يتفق كثيرون على أن الأفلام المصرية التي دأبت أجيال على مشاهدتها ومتابعتها، سواء عبر الشاشة الكبيرة في صالات السينما، عندما كان هذا الاختراع معروفا في العراق في القرن الماضي، أم عبر شاشة التلفاز الفضية، في تلك القنوات المعدودة التي لم تتجاوز في العراق حتى نهايات القرن الماضي عدد أصابع اليد الواحدة، وبدرجة اقل عبر أفلام الفيديو كاسيت التي كان لها هي الأخرى باعها في القرن الماضي، عبر كل هذه الوسائط وربما سواها، لعبت الأفلام المصرية وما زالت، تمارس دورا كبيرا في التأثير على حياة أجيال متعاقبة وعلى بناء شخصياتهم وتكوين أفكارهم وتشكيل نظرتهم إلى المحيط والعالم البعيد، بما يوازي ويزيد أحيانا على دور الأسرة.

    وفي سنوات لاحقة دخلت الدراما التلفزيونية لتكون هي الأخرى عاملا مؤثرا يلعب دوره، الايجابي في الغالب بالنظر لكونها دراما عائلية تدخل منازل المشاهدين ويتابعها أفراد العائلة على إختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية والعمرية، فتعمل الرقابة على تشذيبها وتهذيبها وإبعادها عن الإسفاف والابتذال.

   عبرها، نعم عبر الأفلام والدراما المصرية تعرف كثير من العراقيين على كثير مما كانوا يجهلونه وربما يسمعون به دون أن يكون له وجود في حياتهم المغلقة نوعا ما، وفي كثير من الأحوال كان المثل الذي يقول:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" ينطبق على كثير مما سمعنا به. فالمخدرات، على سبيل المثال، كانت ومازالت آفة مستشرية في مصر، ولكنها كانت ذات انتشار محدود وربما ضئيل جدا في العراق، ولم نتعرف على أسماء أنواعها المختلفة إلا عبر شاشات التلفزيون والسينما، وإن كان ذلك من سلبيات ما نقل إلينا، ولكن لابد أن نسجل لها أنها عرّفت أجيالا بمخاطر المخدرات ومصير متعاطيها، والويلات التي تحل به وبكل المحيطين به، فضلا عن رحلة العذاب التي يتجشمها من يرغب، إن كان يرغب، في تركها والتعافي من تعاطيها، ليكون فيها عبرة لمن يعتبر، فذاع صيت أفلام كثيرة صارت فيما بعد من كلاسيكيات السينما المصرية، ومنها: المدمن، الباطنية، النمر والأنثى وغيرها كثير، حدثتنا عمّا كنا لا نعلمه وحذرتنا من خطر ما كناّ نواجهه، فكانت بذلك مثل الحرب الإستباقية التي تشنها بعض الدول هذه الأيام.

     ومثل هذا الكلام ينطبق أيضا على موضوعة التعليم ما بين الحكومي منه و الخاص، أو ما يصطلح عليه بمدارس اللغات، التي كنا نشاهد أبطال الأفلام والمسلسلات يسعون جاهدين لتسجيل أبنائهم فيها، ويعملون ليل نهار في وظائف متعددة ليوفروا المبالغ الطائلة اللازمة لأقساط تلك المدارس. فيما كان كثير من العراقيين يرون فيها امرأ غريبا، في المدارس وفي العمل الإضافي أيضا، فلماذا المدارس الخاصة ومدارس الحكومة عامرة؟ وفيها من الأساتذة الأكفاء في كل التخصصات، فضلا عن الإدارات الحازمة، ما يوفر الأجواء العلمية والتربوية الملائمة لتخريج الأجيال الصاعدة وهي مسلحة بالعلم والمعرفة والتربية قبل كل ذلك. وكانت الأفلام تحمل إلينا مشاهد طلبة المدارس الإعدادية وحتى تلاميذ الابتدائية الصغار وهم مكدسون في غرف صغيرة، لكنها ليست غرف الصفوف في مدارسهم الحكومية المكتظة، بل في بيوت معلميهم ومدرسيهم التي تحولت إلى صفوف للدروس الخصوصية، يـُلقنون عبرها دروسهم التي لم تأخذ نصيبها من الاهتمام الواجب في المدرسة. ولأننا لم نكن نحيا في المدينة الفاضلة قطعا، كانت هذه الظاهرة معروفة لدينا ولكن ليس بنفس الكم والنوع.

    ولا نعلم إن كانت المدارس الحكومية ما عادت تؤدي واجبها بالشكل المعتاد أم هي ظاهرة من الظواهر التي تغزو المجتمعات بين الحين والآخر أم هي الرغبة المجردة في تقليد الآخرين، التي دعمت ظهور المدارس الأهلية الخاصة بأشكال وأنواع كثيرة، حتى بات غير مستغرب أن تسمع من معلمين وأعضاء هيئات تدريسية، إن طالبت بأي تحسين  او اعترضت على أية سلبية في المدرسة الحكومية، ذلك الجواب المستهجن: "إن كان لا يعجبكم، إذهبوا الى المدارس الأهلية". فصار كثيرون يعملون في مكانين أو أكثر ليوفروا لأبنائهم فرص التعليم الجيد في إحدى هذه المدارس الخاصة، الأجنبية منها والمحلية، مع كل ما تقدمه من علوم وثقافات ولغات، بعد أن صار الازدحام أقل مشاكل المدارس الحكومية.

     وفي مسلسلات وأفلام كثيرة، كنا نراقب بتعجب واستغراب شديدين، سعي الشباب المصري لا بل تسابقه وتدافعه على أبواب السفارات الأجنبية، وتحمله المشاق و الاهانة والمخاطر في سعيه ولهاثه وراء الهجرة الشرعية منها وغير الشرعية، إلى أية دولة كانت، ليهرب من واقع مرير ما كان بالإمكان احتماله مع ما ينطوي عليه من فقر وبطالة ومرض و عدم تكافؤ في الفرص، و ما كان يثير الاستغراب أكثر أن الغالبية العظمى من هؤلاء كانوا من حملة الشهادات العليا من الدبلوم إلى البكالوريوس والليسانس و حتى الماجستير والدكتوراه، وكثير من العمال المصريين الذين ضاقت بهم شوارع العراق يوما من الأيام كان كثير منهم من حملة الشهادات. فيما كان العراقيون في الغالب بعيدين عن مثل هذه الأفكار لان السفر، ببساطة، كان ممنوعا أصلا في ظروف الحروب التي مر بها البلد. لكن الوضع تغير اليوم، فأصبح العراقيون يحتلون مراتب متقدمة جدا في قوائم واستبيانات المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والهجرة والمجتمع المدني، من حيث عدد اللاجئين والنازحين والفارين والساعين نحو الأمان واللجوء الإنساني والسياسي في كل بقعة من بقاع الأرض من ثلوج سيبريا إلى ثقوب الأوزون في نيوزيلندة، ومن سور الصين إلى شلالات كندا، وربما تجد عراقيا يطلب اللجوء في الصومال أو حتى في أفغانستان وربما في جزر القمر.

     لا نعلم إن كنا قد تقدمنا أم تقهقرنا، لنصل اليوم إلى حال يشابه حال المصريين في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن كنا في خمسينياته وستينياته وحتى سبعينياته،  نقارب أوربا في الاعمار وبناء الجسور ومنها جسر بغداد المعلق الذي كان أول جسر معلق في الشرق الأوسط، وشق الطرق ومد السكك الحديد. وجامعاتنا تنافس على مراكز متقدمة في تسلسل الجامعات الأكثر رصانة في العالم، وعروض الأزياء كانت أمرا اعتياديا والموضة في أبهى حللها، وبناتنا قبل أبنائنا يتعلمون وينافسون أيضا في مجال البحث العلمي على المستوى المحلي والعالمي، والرياضيون والرياضيات يحرزون الميداليات في الألعاب الاولمبية ويرفعون علم بلدهم عاليا. لماذا نـُسارع الخطى لنحتل المراتب الأولى في المدن الأسوأ للعيش ومستوى الفساد وفقدان الحريات، لماذا نركض إلى الوراء؟