الأقليات بين مخاض الازمات ووثائق المؤتمرات

 

 

              

       

                                         

                                          يوسف زرا

 

اذا كان المحفل الدولي بصورة عامة والمنظمات الخاصة ذات الطابع الانساني والقانوني، والمدافعة عن حقوق الاقليات الاجتماعية والسياسة والدينية، قد تحسست منذ فترة ليست بالقصيرة, بان الاقليات الدينية بصورة خاصة في بعض الدول العربية وهي, العراق, سوريا, فلسطين, مصر, والاردن, وكانت نسبتها قد انخفضت الى اكثر من 50% خلال العقود الاخيرة من القرن الماضي, ومنها المسيحية واليزيديةوالصابئة وغيرها, والتي تعتبر من الديانات القديمة في الدول المذكورة. وان الجهات الرسمية وغير الرسمية المتنفذة فيها قد حاولت وفق مخطط مهيء مسبقاً لتصفيتها عن طريق تضييق الخناق عليها ومحاربتها او تهميشها من قبل بعض الجهات السياسية والدينية والقومية المتطرفة, ومنها التيار القومي العروبي سابقاً والديني السلفي حالياً في كل من العراق وسوريا تحديدياً.

ومن منطلق ان هذه الاقليات الدينية او الاثنية في المنطقة هي العائق الرئيسيلقيام الوحدة الادارية والسياسية للامة العربية, وفق ماكان يطرح في غالبية مؤتمراتها القومية والقطرية لاحزابها السياسية المعلومة. فان الديانة المسيحية ذات الجدور التاريخية في هذه المنطقة ككل لا يمكن ازاحتها او الحد من نشاطها التبشيري السلمي بالطرق القانونية وبشكل مكشوف. فقد التجات الى تشديد الخناق على انصارها ما لم يعلنوا انخراطهم في صفوف احزابها القومية. مما ادى الى بدء الهجرة الفردية والجماعية من الوطن الام. وان دول اوربا الغربية والولايات المتحدة الامريكية مهدت لستقبالهم وتسهيل اقامتهم في اراضيها واحتضانها لكوادرهم العلمية والثقافية والمهنية, مما جعل الهجرة اليها ينشط حتى اليوم . ودليل ذلك ان قبل اكثر من سنتين كانت بعض دول اوربا الشمالية قد رفضت منح الاقامة ولو بصفة الانسانية او سياسية لاكثر من (750)عراقيا وغالبيتهم من المسيحيين . فحالا اعلنت الولايات المتحدة الامريكية قبولهم ومنحهم الاقامة فيها . ويعتبر هذا فعلا تشجيع مباشر لهجرة العراقيين بصورة عامة والمسيحيين منهم بصورة خاصة .لوطنهم الام. عدا ما خلفتهُ ومنذ عقود الحروب والنزاعات الداخلية التي حصلت في المنطقة خلال الاعوام, 1948 , 1956 , 1967 , 1973 ومع اسرائيل مباشرةً والمدعومة من الدول الغربية , وشاركت فيها جميع الدول المجاورة لفلسطين ومن ضمنها العراق. وكانت نتائجها قد انعكست على مجمل شعوب الدول العربية بصورة عامة, وفي مقدمتها مصر , سوريا, وفلسطين. وشعر المسيحيون ان هذه الحروب قامت بين العرب ظاهريا والاسلام باطنيا من جهة , وبين اليهود ودولة اسرائيل وبسبب الاراضي المقدسة في فلسطين من جهة ثانية.

ولا يخفى على احد ان الديانة المسيحية هي الاخرى وحسب القدم, كانت المستهدفة ايضا من قبل الحركة الصهيونية العالمية. وان تعداد المسيحيين في مدينة القدس حصراً قبل الحروب المذكروة كان بحدود مائة وخمسون الف نسمة, وحاليا لم يبقى منهم سوى خمسون الف نسمة فقط وباعتراف الجهات الرسمية الفلسطينية موخراً, ومعلوم ايضا ان الشعب الفلسطيني بجميع مكوناته الاجتماعية والدينية قاس الامرين من تلك الحروب ولا زال.

الا ان ما أصاب الاقلية المسيحية فيها , كانت كنكبة كبرى بسبب نسبة ما تلقته من دعم مادي ومعنوي من الدول العربية قياسا لغيرهم من العرب المسلمين الذين تلقوا بعض الدعم من الدول العربية المجاورة وان الدعم الغربي للمسيحيين ولازال هو تشجيعهم على الهجرة فقط. ولم يمض وقت طويل على محنتهم , وقبل ان تلتئم جروحهم القديمة في عموم الدول العربية ومن جراء الحروب المذكورة. حتى هبت العاصفة الصفراء والتي اجتاحت العراق مباشرةً, وكان تاثيرها ولا زال قائما على مجمل مكوناته الاجتماعية بصورة عامة وقاسية. حتى شملت شعوب جميع دول منطقة الخليج بدءاً بالحرب العراقية الايرانية منذ عام 1980 حتى عام 1988 , وثم غزوة دولة الكويت عام 1990 .واخيرا حرب عام 2003 واحتلال العراق من قبل قوات الدول الغربية وبمقدمتها الولايات المتحدة الامريكية بعد 9/4/2003 . ثم تلتها فترة حكم بول برايمر التي قضت على جميع مؤسسات الدولة العراقية التاريخية, الاقتصادية , الثقافية والامنية وغيرها . حتى عام 2005 حين تولت السلطة فئات متصارعة على كراسي الحكم وبواجهات دينية طائفية ومذهبية مكشوفة , ثم المحاصصة المقيتة في توزيع كراسي الحكم , والتي من جرائها اصبح العراق بحكم الواقع ساحة حرب اهلية وغير معلنة بين الشيعة والسنة دون ارادة الشعب, واستشر الفساد المالي والاداري والسياسي وفقدان الامن على يد المنظمات الدينية والقومية المتطرفة , وبشكل منظم ومكشوف والموجه بصورة مباشرة  اولا  ضد جميع الاقليات الدينية المذكورة وفي مقدمتها المسيحية ولازال الاعتداء يمارس ضدها,وعن طريق الاغتيالات الفردية والجماعية لكثير من اصحاب الاعمال التجارية والكوادر العلمية والمهنية ورجال الدين. من غير تفجير الكنائس ودور العبادة وتحت بصر وانظار المسئولين دون ان تتمكن الاجهزة الامنية لوضع حد لها او حمايتها .

اما الحرب الاهلية في سورية والتي بداة قبل اكثر من سنتين وهجرة غالبية المسيحيين من المدن والقصبات الرئيسية فيها الى الدول المجاورة . وان كانت هذه الحرب كلفت وتكلف الشعب السوري الكثير من الكوارث والمصائب . الا انها بان بالنسبة لاي اقلية منها تعتبر محنة ونقمة كبيرة .

ولابد ان نعود الى ماكان سائدا في مصر من التطرف الديني من قبل التيار السلفي المتشدد فيها منذ ايام الرئيس المعزول حسني مبارك ولعدة عقود قبله , ومن ثم على يد الاخوان المسلمين ورئيسها المعزول. ولازال الاعتداء مستمرا على المسيحيين الاقباط بشكل مباشر وشرس.

وفي مخاض الازمات التي عاشتها وتعيشها الاقليات الدينية في دول المنطقة, فقد توالت في الاونة الاخيرى عقد عدة موتمرات بحجة الدفاع عنها ومنها المنعقد بتاريخ 2/11/2013 في بيروت تحت شعار(الموتمر المسيحي المشرقي) "اللقاء المسيحي " . والذي حضره الكثير من ممثلي دول المنطقة ومنها مصر , العراق , لبنان, سوريا, الاردن, وفلسطين, كما حضره الكثير من رجال الدين المسيحي ممثلة عن كنائسهم في الدول المذكورة الى جانب ممثلي بعص الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات قانونية وغيرها . مطالبين فيه استحداث محافظة في سهل نينوى وبمشاركة جميع المكونات القومية والدينية المتعايشة في جغرافيته وغيرها من التوصيات.

كما عقد في اربيل بتاريخ 23/11/2013 موتمرا اخر تحت شعار ( لا للتغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين الاصلية في العراق) وسمي ( موتمر اصدقاء برطلة). وبحضور شخصيات من اقليم كردستان وعدد كبير من المسؤولين الحكوميين والسياسيين من الاقليم ورجال الدين المسيحي ايضا . والقيت الكثير من الكلمات وبشكل مسهب لما تعرض ويتعرض عليه المسيحيين في العراق و واصبحوا في كثير من قصباتهم وقراهم القديمة اقلية مهمشة والتي كانوا يمثلون فيها قبل عقود نسبة 100% من ابنائها , وحاليا لم تعد نسبتهم اكثر من 40 % بسبب التغيير الديموغرافي القصري الذي زحف على مناطقهم, ومنها سهل نينوى بالذات . وناحية برطلة هي من اعمال قضاء الحمدانية احدى النماذج الحية وغيرها المنسية . وذلك بسبب هجرة نسبة كبيرة من عوائلهم خارج الوطن من جراء الاضطهاد المباشر لهم وفقدان الامن بصورة عامة .

وان انتهاء انعقاد هذه الموتمر في مركز ناحية برطلة من بعد التاريخ اعلاه والذي كان برعاية حكومة اقليم كردستان وبتحريك بعض الشخصيات السياسية اليسارية منذ يوم الاول لانعقاده , له اهميته الامنية حاليا والادارية مستقبلا بالنسبة للاقليم حيث ان سهل نينوى بالذات يعتبر اوسع مساحة جغرافية استقطبت فيه الديانة المسيحية منذ مئات السنين وانهم يُعتبرون الامتداد التاريخي الحضاري  لكلدواشوريين سريان . وفي نفس الوق ان سهل نينوى من المناطق الساخنة والمتنازع عليه بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان في اربيل .

علما ان نسبة المسيحيين قبل نصف قرن او اكثر كانت بحدود 11 % من سكان العراق, وحاليا وكما ورد على لسان بعض المؤولين الرسميين بان تعدادهم لا يتجاوز ال (300000 نسمة ) وتقدير اخر بحدود ( 500000نسمة) من اصل مليون ونصف مليون نسمة سابقا . اي بمعنى ان نسبتهم اقل من 1 او 2 % من سكان العراق, وهي ضربة موجعة لمكون اجتماعي ديني اصيل من مكونات الشعب العراقي . فقد فقدَ مكانتهُ في وطنه الاصلي واصبح كشتات متشظية في ارجاء القارات الثلاث اوربا , اميركا , استراليا وكلاجئين انسانيين لاغير فيها .

فان جميع الحكومات التي توالت في العراق ولا زالت قائمة حاليا تتحمل القسط الاكبر من المسئولية الادبية والتاريخية لما حصل على هذا المكون المسالم من الشعب العراقي ومعها الاحزاب  السياسية على اختلاف اديولوجياتها سابقا ولاحقا تعتبر شريكة في العملية المذكورة . وذلك لالتزامها الصمت اتجاه هذا الغبن الذي لحق بهذه الاقلية, وبباقي الاقليات الدينية الاخرى كاليزيدية والشبك والصابئة وغيرهم .

واخيرا نقول فما زال مفهوم الاقلية والاكثرية وباي صفة كان متداولاً رسميا وشعبيا بين اروقة البرلمان العراقي وتحت اقبية جميع مباني الحكومة القضائية والتنفيذية. بمعنى انه يبقى الظلم والغبن هو السائد على ارض الواقع وان مفهوم حقوق الانسان المعترف بها عبر الكثير من الوثائق والعهود الدولية, ليس الا صخب اعلامي وتاكيدا لشريعة الغاب (القوي ياكل الضعيف) وسياسة التمضحك على الذقون .

ولابد من الكفاح الطويل لكل القوة الديمقراطية والقومية والدينية التي تحترم الانسان حتى يتحقق الحلم بالمساواة بين ابناء هذا الشعب امام القانون , بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه وقوميته .

والا الكل في مركب متهرىْ وفي وسط محيط هائج.