الاغتراب وخصائص البيئة.... (بحث)

 

 

              

       

                                         

                                          يوسف زرا

    لا بد من القول بان كثيرا من الباحثين الاجتماعيين والمحللين النفسانيين ، من الذين اهتموا وواصلوا الكتابة عن موضوع الاغتراب ، ومنهم من عرفوه بأنه تغيير لبيئة جغرافية أو لوسط اجتماعي ، لفرد أو لمجموعة أفراد ، تختلف عنها مناخياً أو اجتماعياً ، متقدما ومنفتحاً أكثر من سابقها لا غير .

     إذا كان بهذا المفهوم البسيط بُرِّرَ الاغتراب ، فإني أرى بأن، هؤلاء جاءوا برؤية ساذجة وهامشية لظاهرة الاغتراب ، وكأنها هجرة أو قطيعة تلك المجموعة لبيئتهم ، لأسباب مناخية أو اقتصادية ، اجتماعية أو أمنية ، بأخرى أكثر اعتدالاً مناخياً ، وأسهل كسباً اقتصاديا وأكثر تقدمياً اجتماعياً، وأوفر حماية امنياً. أي محققين بذلك المعدل الأفضل لمفردات الحياة اليومية الاستهلاكية، وكأنها معادلة بسيطة كالمقايضة بشيء (بضاعة)، كماً ونوعاً، بأخرى كماً ونوعاً، وكحاجة استهلاكية يومية فقط لا غير، دون النظر بعمق لدراسة أهمية المنشأ، أي البيئة وخصائصها، والمتحكمة في بنيان شخصية الفرد، بالمعنى الاجتماعي والمفهوم الثقافي، كحاجة أساسية للحياة كما يقول العلامة مالينوفسكي(1).

     ورغم أهمية العوامل المذكورة أعلاه وما يبررها في الفرز العاطفي وبالحساب البسيط، وكأنها عملية مقايضة كما ذكرنا أنفاً وفي سوق تجاري قديم فحسب. إلا أنه وبهذا المنظور الضيق أيضا لغير هؤلاء الكتاب والباحثين والمحللين، يتراءى كذلك لكثير من المغتربين، ومنهم النسبة العالية من الشباب، المتعلم والأمي، من الذين استهواهم حب المغامرة والسفر من غير هدف ومن دون منهج فكري واجتماعي خاص مدروس مسبقا، لما سيترتب على اغترابهم بتبديل أو هجرة بيئتهم التي هيأت لهم مكونات اجتماعية ونفسية وفكرية خاصة، يجب أن يحملوها معهم أينما يحطوا، وبأي أفق أو مستوى ثقافي كانوا، لمعرفة المقومات الحياتية بمفرداتها الواردة أعلاه، لشعوب في مواقع جغرافية شتى، قد تكون متقدمة أو متأخرة، أكثر أو اقل من مجتمع هذه الفئة المغتربة. ولا يمكن لأي إنسان أن يتحسس عقليا وبمقياس تام، ماهية شخصية تلك المجتمعات، وان يكون تركيبها قائما على تقسيم طبقي مشابه لمجتمعه إلى حد ما، ما لم يكن قد عايشها مسبقا وألم بخصائصها، ومن أي طبقة أو شريحة اجتماعية كانت.

     لان الخصائص الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والفكرية لأي شعب من الشعوب ، أي – البناء الاجتماعي الديناميكي – كما يسميه العلامة الاجتماعي راد كليف براون (2) في موضوع البناء الاجتماعي للفرد، لا يمكن تبنيها أو اقتباسها بسهولة، لأنها في نظري الشخصي، تمثل لدى كل إنسان (الناتج الحي للتراث الواقعي)، الذي ينبض بمقومات خاصة، ومن لا يتحسس هذا الناتج، وهذه المقومات الحياتية التي تعتبر كقانون ثابت في مسيرة الحياة للفرد والجماعة، أينما كانوا، لا يمكن لأي إنسان أن يأخذ موقعه كاملاً خارج بيئته ومجتمعه. ولا بد لكل جيل ( مجموعةً أو أفراد ) أن يحمل من تربة بيئته – تربوياً – تراثا واقعيا حياً نابعاً من بقعته الجغرافية التي عاش فيها من صغره .

     وتبقى الشخصية لأي مغترب والتي هي الامتداد الطبيعي للطفولة تلازمه كرقيب على سلوكه وطبائعه ونزعات غرائزه، ويتحكم شعوره الباطني ( الأنا الواعي )، أو كما يسميه العلامة فرويد (الأنا الأعلى) بوجود اختلاف في تكوينه الفكري والاجتماعي، وأن كان مطابقاً، إلى حد ما، للمفهوم الإيديولوجي بالدرجة الأساسية ( البنيان الفكري والعقائدي )، يبقى يشعر بالنقص الملازم له أينما حلّ . ويمثل هذا الشعور ظل قامته الذي يريد التخلص منه، ولكن يظل يزحف معه وبضعف أبعاده الحقيقية، محملاً ثقل جميع العوامل العاطفية والوجدانية التربوية ( كيان شخصيته الكاملة ). علماً بأن أي إنسان كان، ومهما بلغ من الرقي الفكري والاجتماعي وحتى الفلسفي، يبقى مديناً لبيئته ولا يمكنه المساواة بغيرها وبشعور تام . وهنا ينطبق الأمر على جميع الأحياء، الحيوانات وحتى الحشرات التي تعتبر البيئة الرحم الطبيعي لها في الولادة وبناء خصائص شخصية الكائن، ويجب استمرار الحياة فيها جيلٌ بعد جيل، وينطبق ذلك على النباتات بأنواعها ما لم يتدخل الإنسان بذلك كما هو معلوم للجميع .

    وخصائص البيئة تبقى تحفزه بالمفردة الأصلية المكونة لشخصيته المفضلة عنده، ليكون في موقع بين أقرانه، دون أن يشعر برغبته أو فضولية تواجده في الموقع الغريب عنه دون استحقاق مسبق، فكيف يمكن للمغترب أن ينقل معه كافة خصائصه التربوية، والتي لا يمكن التنازل عنها، لأيّ كان حتى قسراً، ما لم يخسر من تلك الخصائص أهميتها لحساب التعايش ظاهرياً مع البيئة الجديدة، وسجيناً أو أسيراً طوعاً بداخله فيها.

     وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: ( أي الأقوى " الطبيعة أم التطبع " ؟ ) ويقصد بالطبيعة ( السلوك الفطري للكائن دون تدخل الإنسان فيه ) . أي التأثير على البيئة بالنسبة لغيره، والتطبع يقصد به دور الإنسان بتغيير سلوك الحيوان تربوياً. (أي التأثير على البيئة الطبيعية في نشأته وخير برهان على ذلك) تدريب القطط على حمل الشموع فوق مائدة الطعام ( أي نقلها إلى غير بيئتها سلوكياً ) . وحال ظهور الفأر لها يتحكم السلوك الطبيعي بها ( أي تعود في سلوكها إلى المكونات الطبيعية للبيئة الأصلية ) بمعنى دور البيئة متحكم في سلوك أي كائن كان. ولا يمكن التخلص منه بسهولة . فالاغتراب إذن هو نزوح لشخصية الفرد إلى التخلص من تكوين وتركيب ماهيته الفعلية – الاجتماعية والفكرية – ( النسيج الحيوي ) له ، لحساب الموقع الجديد مرغماً ، بل مجبراً عليه، بمعنى هدم هيكل بنائه الاجتماعي والنفسي كلياً. وهو بالمفهوم البايولوجي للحياة الفطرية، تزاوج غير متكافئ بين بيئتين، ولابد أن يكون الناتج هجيناً بدنيا وعقلياً – اجتماعياً ونفسياً – أي أن المغترب لا وجود لذاته، أي لشخصيته، كاملة في البيئة الجديدة بالنسبة للجيل الأول. هناك عوامل جداً مهمة وليست عاطفية تُحسِس كيان كل مغترب، بين فترة وأخرى، كشكوى له طالبة منه العودة إلى الوطن الأم، أي موطن مقومات شخصيته الكاملة، ليعيد الثقة لها من جراء ما حصل فيها من الشعور بالنقص في البيئة الجديدة، ولابد أن يكون للفعل الوراثي للجينات الدور الرئيسي في هذه المعادلة المعقدة والمؤثرة علمياً واجتماعيا وفسلجياً . وإذا اعتبرنا كما تبين أن المغترب يجب أن يفقد شخصيته المكونة من الإرث الواقعي الحي، أو من البناء الاجتماعي، كما يسميه راد كليف براون، فإن الاغتراب شبه موت لا محال لخصائص بايولوجية واجتماعية في شخصية هذا المغترب، لحساب خصائص غريبة عنه، مفروضة عليه. وبمفهوم علمي أكثر وضوحاً، موت خصائص البيئة المذكورة سابقاً. ولابد من العودة إلى المقولة الفلسفية لأرسطو طاليس- القرن السابع ق.م – التي يقول فيها : اعرف نفسك من أنت، بمعنى ما إن عرف الإنسان بيئته بخصائصها الجغرافية، المكانية والزمانية، عرف حقيقية واحدة، عرف نفسه بوضوح من خلا بناء شخصيته الواعية وفق تأثير الموروث الحي الواقعي، دون أن يشعر بنقص منها. وفي هذه الحالة تبقى نزعة البقاء ( عامل التفاعل الدائم للانتقال إلى الأفضل )، هي الأخرى، حية، فيتفاعل الإنسان مع البيئة ويؤثر عليها، أي يخضعها لحاجاته الآنية والمستقبلية وبرؤية بعيدة ودقيقة. وهذه هي الميزة التي تُشخّص بها أممٌ، منها متقدمة بالمفهوم الاجتماعي والفكري، وغيرها متخلفة عنها، مع الاعتراف بعوامل عديدة تساهم في هذا التقدم وذاك التأخر للأمم والشعوب. لكل بيئة قواعدها وضوابطها، أي قوانينها ومقاييسها، تتباين فيما بينها وتلتقي في المفهوم – التنظيم الاجتماعي – وباستمرارية الحياة وفق خصائص لكل مجموعة. إنسانية في موقعها الجغرافي، وليس بالمقصود العادات والتقاليد، التي أصبحت لا تتماشى ولا تلبي حاجة الأجيال القادمة، لأن لكل جيل مقومات حياتية حية، تولد معه وترتفع إلى مستوى آفاقه وتطلعاته، وتختلف عن سابقاتها بنسب معينة، تدرج وليس بطفرة واحدة.

      إن تبادل الخبرات الثقافية والاجتماعية بين الشعوب والأمم هو العامل الإيجابي والمهم لرفع مستوى هذه الشعوب والأمم، كلٌ في بيته، إلى المنسوب الذي يقلل من حالات التخلف الفكري والاجتماعي، وحتى الاقتصادي – العنصر الفعال في الركب الحضاري والمدني، ومهما بلغ التداخل من جراء الاغتراب، لا يمكن إلغاء البيئات الاجتماعية حسب المواقع الجغرافية والمناخية المتباينة على وجه الأرض، وهذه حقيقة لا جدال فيها وحولها بوجود المجتمعات ذات الخصائص القائمة على أسس جغرافية مناخية، مسلم بها تاريخياً، إلى جانب الاجتماعي والتربوي كقاعدة للبنية التحتية للمجتمع، لأنه حتى للحيوانات بيئات خاصة بها، تعتبر – محميات وطنية حياتية، ضرورة حمايتها والمحافظة عليها، أي المحافظة على خصائصها الحياتية المهمة، أسوة بالبشر التي انفرد بها الإنسان، نتيجة الوعي وعوامل فسلجية مميزة عن باقي الكائنات .

      وإن التقدم المدني والتكنولوجي قد تحول حياة الإنسان من طبيعية إلى اصطناعية ضعيفة المقاومة، وقد تكون هذه الحياة في يوم ما عاجزة عن مقاومة الكوارث الطبيعية غير المتوقعة نتائجها السلبية على مجمل الكائنات الحية. إن أخضعنا الإنسان للعيش في بيئة جغرافية ومناخية موحدة مكيفة، مهما بلغت من الرقي والتقدم الفكري والاجتماعي والاقتصادي برفقة التكنولوجيا المتطورة، لكافة مجالات الحياة، عدا ما لا تحمد عقباه من الكوارث المدمرة، غير المتوقعة أيضاً من تطور هذه التكنولوجيا ونتائج المختبرات العملاقة في تفاعلاتها غير محدودة الطاقة وأنواعها غير المكتشفة، وفي غفلة من الزمن غير المحسوب بأجزاء من الثانية، قد تؤدي إلى فناء الحياة، ككل، بما فيها الإنسان وتدمير حضارته كلياً .

 الهوامش

1- الانتروبولوجيا الاجتماعية – الثقافة والكائن العنصري – ص 507 .

2- راد كليف براون – عالم اجتماعي انكليزي . كتاب الانتروبولوجيا العامة –

    د. قباري محمد اسماعيل ص 268 .   

  

 

نشر في مجلة السنبلة عام 2003 الصادرة في ديترويت / امريكا