فلسفة الاخلاق الادارية

 

 

                                       

                       سالم بولص ابراهيم*

          تحتم الضرورة العملية وظروف الحياة ذاتها ان يعوّل الشعب (مصدر السلطات) أكثر فأكثر على موظفي الإدارة الحكومية بوصفهم خداماًَ للمصلحة العامة، وان اتساع المهام وكبر حجم المؤسسات الحكومية جعلا من الصعب ان يراقب الشعب المعايير الأخلاقية التي يخدم بها هؤلاء الموظفين مصالحه ويعملون من أجله، مما ترتب عليه ضرورة ان تكون هذه الأخلاقية نابعة من ذات الموظفين أنفسهم وبواعز من ضمائرهم.

 بالرغم من الحملات التي شنتها الأجهزة المعنية في مكافحة ظواهر الفساد وتطبيق التشريعات القانونية، ونتائج الرقابة الإدارية والمالية، وضمانات الوظيفة، ورفع مستوى المرتبات، ثبت أن كل هذه لا تكفي لدعم أخلاقيات الوظيفة ما لم يكمله من جانب الموظف ذاته الشعور الشخصي بكرامة الوظيفة.

 لذا يكاد موضوع الأخلاق الإدارية يتصدر محور اهتمامات الإدارة الرشيدة وخاصة في مجال معالجة الظروف التي أدت إلى انخفاض كفاءة الأداء ، وانحراف سلوك الموظفين، فأن في إزالة هذه الظروف سيتم القضاء على أسباب الظواهر السلبية التي أدت إلى تدهور أحوال الإدارة، وعلاجاً في نفس الوقت لهذا الجهاز الذي أصبح يهيمن على كل مرافق المجتمع وتدخله في كافة شؤون الحياة.

ان وجود إدارة حكومية ذات اختصاصات واسعة ومعقدة شرٌ لابد منه في الزمن الذي نعيش فيه، ولا يغنى عنه محاولة تفويض بعض صلاحياتها ومهامها للحكومات المحلية أو الإدارات الفرعية، إلا أن هذا لم ينفع الكثير في القضاء على البيروقراطية المركزية ذاتها، حيث يزداد الأمر تعقيداً عندما يتم الرجوع إلى الإدارات المركزية في كل شأن.

كما أن تفعيل إجراءات تطبيق القانون واللجوء إلى مقاضاة الحكومة أمام المحاكم الإدارية في كل خلاف بينها وبين الأفراد، أو خطأ من جانبها في التصرف او خطأ في اتخاذ القرارات، وكذلك تفعيل (الرقابة الإدارية والمالية) بكافة أنواعها التي تضع تحفظات على نتائج أعمال الحكومة لتجاوزها السلطات الممنوحة لها .. وكذلك وضع الإدارة في قبضة قيادة حازمة تستطيع ان تجعل الإدارة تشعر بالمسؤولية وتحاسب نفسها على أعمالها .. وقيام البرلمان بتشريع القوانين والقرارات اللازمة للإصلاح الإداري والرقابة على تنفيذها، فهذه كلها ليست ناجعة إلا إذا طُبقت جميعها تطبيقاً دقيقاً لا تفلت منه جزيئة صغيرة أو كبيرة.

وأهم ما يعيب الإدارة غير الرشيدة إنها تجعل المسؤولية مفروضة عليها من خارجها، وتجعل الرقابة من الخارج أهم من الشعور بالمسؤولية من الباطن، حيث ان فرض القانون او النظام او المسؤولية المالية والمحاسبية باللوائح والتشريعات وتفويض الأجهزة الرقابية صلاحية الرقابة على التنفيذ لا يمنع انه حيث يدير الرقيب ظهره يقع المحظور، ولا يمنع ان الرقيب نفسه كثيراً ما يكون في حاجة إلى من يراقب سلوكه، عليه فأية محاولة لفرض المسؤولية أو إصلاح الإدارة من الخارج لاشك مصيرها الفشل لقيامها على أساس عقابي بدلاً من إحياء الضمير والشعور بالمسؤولية.

فيجب العودة إلى تطبيق الأخلاق الإدارية كمبادئ نؤمن بها ونعمل على تنميتها ورسم وسائل النجاح في الأخذ بها (كأساس تقوم عليه المسؤولية الحكومية)

يأتي الإيمان بمبادئ الأخلاق الإدارية من وفرة مزاياها التي تجعل المسؤولية نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج وقائمة على الضمير والإرادة والشعور بالواجب، فيسهل حينئذ تربية الموظف (بوصفه محور السلوك الإداري) على ضبط النفس وحكم العقل وتحمل المسؤولية وهو أيسر وأقرب إلى الضبط الاجتماعي من وسائل أخرى كالقانون في أحكامه على ارتكاب الأخطاء والبرلمان في مساءلته المؤسسات التنفيذية والأجهزة الرقابية في محاسبتها على المخالفات الإدارية والمالية .. تلك الوسائل تكون معطلة ما دام الشعب لا يتوافر لديه الدافع للتعايش معها والأخذ بوسائلها، عليه وجب تقليل التركيز (في مجال دعم أخلاقيات الوظيفة العامة) على اللوائح والقوانين والرقابة والمساءلة المفروضة بالقهر والتهديد والقوة في مقابل زيادة التركيز في تنمية السلوك الشخصي الأخلاقي للموظف الحكومي ورسم الطريق العملي الذي يحقق نظافة بيئة الإدارة وأخلاقيتها.

تبدأ أخلاقية الإدارية بموضوعية الاختيار منذ التعيين، أي منذ استقدام الشخص لاستخدامه في العمل، ولا يختلف اثنان على القول ان اكبر عامل في إفساد نفوس الموظفين إنهم يصلون إلى الوظيفة الحكومية بنفوذ او الوساطة او الإحسان او مجامله من جانب رئيس العمل، وان من شأن ذلك ان يجعل ولاء هؤلاء الموظفين لرؤوسائهم وليس للوظيفة والمجتمع وتركيز اهتمامهم بالتقرب والاستزادة من النفوذ لا البذل والاجتهاد في العمل، فينبغي ان يدرك الموظفين انهم لم يصلوا إلى خدمة الحكومة بنوع من النفوذ او الوساطة او الإحسان .. بل لكفاءتهم وقدراتهم .. حتى يقوم التنافس فيما بينهم على تنمية قدراتهم ومواهبهم.

ويبغي أيضاً ان يشعر كل فرد مقبل على عمل بإحدى مؤسسات الحكومة بـأنه يأخذ مكانه الذي يستحقه، وان أحدا لا يعطيه شيئاً من عنده، بل ان مؤهلاته هي التي أوصلته إلى هذا المركز، وفي سبيل بث هذا الشعور في نفوس الموظفين، لابد أولاً: من تحديد السلطات السيادية (للقيادات الإدارية) المتعلقة بحق أو صلاحية في التعيين او الترقية حتى لا يشعر الموظف ان رئيسه يمسك بمصيره ومستقبله، عند ذاك تصبح المروؤسيه نوعاً من الزمالة الكريمة لا التبعية الخاضعة الذليلة .. وأن يُعهد بشؤون التعيين والترقية إلى جهات متخصصة تزاول أمورها في موضوعية علمية كجهات اختصاص باختيار وترقية الموظفين على أساس الجدارة والأولوية وتكافؤ الفرص والنزاهة المرجوة، وان تتحرى الموضوعية الكاملة في تعبئة جهود الموظفين وإدماجهم للخدمة العامة فتأخذ بالوسائل العلمية في قياس مواهبهم واستعدادهم للعمل، واستخدام وسائل ومعايير ومؤشرات التقييمات (النفسية والاجتماعية والمواطنة والأداء) التي تكشف عن خاصية هذه الميول والطبائع الشخصية والمهنية والمزاج والذوق وفلسفة الحياة والنظرة إلى الأشخاص والأشياء.

فالأخذ بهذه القياسات الموضوعية التي هي من أرقى ما تعتمد عليه الإدارة الرشيدة     لا يجعل للموظف بعد التحاقه بالعمل مديناً لأحد إلا لقدراته ومواهبه التي كشفت عنها الاختبارات، فهو بالتالي سيكون معتزاً بنفسه وكرامة عمله راغباً في تنمية حبه له وإخلاصه فيه وزيادة تقدمه في التدريب عليه ... مما يحقق نظافة الجو والبيئة الإدارية من عوامل التبعية للوساطات والأشخاص، ويحقق الموضوعية في التنافس الشريف على العمل بدلاً من الوصولية والتقرب إلى الروؤساء والخضوع لهم.

كما إن حرص الإدارة الرشيدة على اختيار الموظفين للتعيين والترقية والنقل بقياسات علمية ودقيقه على يد أخصائيين محايدين بعيداً عن تأثير السلطات من شأنه ان يعزز مبدأ المنافسة الحرّة ويقر الموضوعية في الموظفين أنفسهم، فيوجهوا أنفسهم وأبناءهم فيما بعد الوجهة التي تلائم ميولهم واستعداداتهم والعمل على ترقية هذه الميول والقدرات، وفي ظل هذه المنافسة الحرّة تنمو المواهب وتزدهر الكفاءات.

وإذا ما تحققت المنافسة الحرّة والموضوعية في الاختيار والترقية ووضع الشخص الملائم في العمل الملائم وضمّنا جودة إدارة العمل وقوة القرار الإداري ووجود خبرة كافية للتعامل مع الآخرين فأنه يأتي دور إثارة الدوافع بما يحقق أعظم كفاءة، ورفع الروح المعنوية بما يؤدي إلى أعلى إنتاجية، وهنا تلعب العوامل الإنسانية الدور الأول، وتأتي العلاقات بين الرؤساء والمرؤسين، والمرؤسين بعضهم ببعض للتخفيف من الآلية المفرطة في العمل، والتنظيم الزائد عن الحد والتخصص الدقيق الذي يقتل نفسية الموظف ويخنق جو العمل ولايصير بعد مجتمعاً ولا يتصف حينئذ بالإنسانية.

ثبت ان الذي يحقق تضافر الجهود وتكاتف القوى هو إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للموظفين، فالموظف يريد أن يشعر بالإحساسات الآتية:-

 

1.         عطف الرئيس عليه وحبه له وتقديره لجهوده.

2.         انه جزء رئيسي تعتز به المؤسسة ولا تستغني عنه.

3.   ان يكون جو العمل يشبع حاجته وإلى الشعور بالمركز الاجتماعي بوصفه أنساناً ثم بوصفه فنياً متخصصاً في نوع العمل الذي يقوم به.

4.         ان لا تهمل آراءه واقتراحاته.

5.         أن يترك له الحرية للإبداع والابتكار في مجال تخصصه.

6.   أن يشبع فيه الحاجة إلى الاستقرار في عمله والتفوق فيه والانتماء لمؤسسته والاعتزاز بها والاطمئنان للمستقبل والركون إليه.

 

هذه كلها علاقات عمل سارة (نفسية واجتماعية) تسود بين الروؤساء والمروؤسين وتقع مسؤولية ترسيخها على الروؤساء أكثر من المرؤوسين، وعلى الروؤساء ان يأخذوا كل هذه الاعتبارات في أذهانهم وهم يتعاملون مع مروؤسهم، والروؤساء هم الذين ينبغي أن يوازنون بين توطيد العلاقات الإنسانية وإقرار الموضوعية في التقدير والمكافأة والترقية، لأن هذا الأمر هو الذي تتوقف عليه علاقات الموظفين بعضهم ببعض، فإما الحب والاحترام والتنافس الشريف والتعاون الصادق، وأما الكراهية والصراع والوصولية والتقريب للرؤساء، في الحالة الأولى يتعاون الجميع على رفع كفاءتهم وزيادة إنتاجيتهم والنهوض بقدراتهم .. وفي الحالة الثانية تسود البغضاء والانقسامات الداخلية والوشايات والسعي إلى اغتصاب المراكز فتهبط الروح المعنوية ويقل الإنتاج

وعن طريق اعتماد الموضوعية الكاملة في اختيار الموظفين وترقيتهم وتوزيع الأعمال والدقة والسرعة والذكاء في تنفيذ السياسة العامة للدولة، التي تعمل من جانبها على رعاية الموظفين مادياً ومعنوياً ومنحهم الثقة بالنفس والقدرة على التصرف والأهلية لتحمل المسؤولية ورفع روحهم المعنوية .. باعتماد هذا الطريق نبني لبلدنا نظم إدارية تحقيق للشعب آماله وأمانيه.

ونؤكد انه بثبات مركز الإدارة كسلطة مستقلة وجهاز قائم بذاته له تقاليده وأصالته، ويستمد افراده كيانهم من أنفسهم ومن الشعب، وتستطيع الإدارة الحكومية ان تصبح خادمة للمصلحة العامة تحقق في ذاتها هذا المعنى المقدس الذي يتمثل في كونها (كيان مؤسسي خدمي وتربوي) لا تفرق بين مراكز الأفراد، إنما يتساوى أمامها الجميع في الحقوق والواجبات.

* مفتش عام وزارة الصناعة والمعادن.