فريد نزها  "السرياني" والشماس يوسف هرمز جمو "الكلداني"

 والحركة القومية الآشورية – آب 1933

 

                                            

                                                      

                                                               

                                                          ابرم شبيرا

        

        كلما طلً علينا شهر آب من كل عام يبدأ كتابنا ومثقفينا الأعزاء بالبحث والتقصي والكتابة عن هذا الحدث القومي والتاريخي وما صاحبه من مأساة وفواجع من جراء المذبحة التي أرتكبت بحق أبناء أمتنا في السابع من شهر آب عام 1933 الذي أعتبر يوماً للشهيد الآشوري. ولكن من الملاحظ بأن معظم ما كتب عن الموضوع لم يتجاوز حدود المعلومات التاريخية العامة عن هذا الحدث والمأساة التي حلت على أبناء الأمة والتي في كثير من الأحيان تتكر كل سنة في هذه المناسبة من دون أن تتجاوز إلى التحليل العلمي لدوافع مرتكبي جريمة مذبحة سميل والنتائج المختلفة على الأصعدة الفكرية والقانونية والإجتماعية والديموغرافية التي ترتبت من جراء إرتكاب هذه المذبحة، وهي الدوافع والنتائج التي تم التفصيل فيها في كتابنا المعنون (الآشوريون في السياسة والتاريخ المعاصر، من منشورات إتحاد الأندية الآشورية في السوري، 1996) ولا نرى هنا ضرورة لإعادتها من دون أن نتقصى عن جوانب جديدة لها علاقة بهذا الحدث. ولكن مع كل هذا فأنه بمجرد الكتابة وإقامة المراسيم الدينية والمدنية الخاصة بهذا اليوم تكفي للتذكير بالتضحيات التي قدمها شعبنا من أجل البقاء والصمود في أرض الوطن

في التسمية الآشورية للحركة ويوم الشهيد:

 من الدارج بأن النتائج المأساوية وعلى مختلف الأصعدة السياسية والقانونية والإجتماعية والديموغرافية والدينية كانت قد حلت على جميع أبناء أمتنا ومن جميع الطوائف الكنسية والملل الإجتماعية رغم إختلاف مصادر تحديد إنتماءهم (كلدان أو سريان أو آشوريون). غير أن هذه المأساة تباين حجمها من طائفة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى وهكذا.. لذلك جرياً وراء الحقيقة الموضوعية لهذا الحدث التاريخي من جهة وبسبب قيادة هذه الحركة التي تمثلت في زعامة بطريرك كنيسة المشرق التي عرفت نكاية بـ "النسطورية" ثم فيما بعد بالآشورية وضخامة حجم المأساة التي حلت على أتباع هذه الكنيسة ورجالاتها وأتباعها من جهة أخرى، فإن الحركة عرفت شعبياً ورسمياً، فكرياً وتاريخياً بالحركة الآشورية، او بالفتنة الآثورية حسب العقلية الفاشية للحكام في العراق ومؤرخيها، كما عرف اليوم الذي أرتكبت فيه المذبحة في قصبة سميل بيوم الشهيد الآشوري بعد إقراره من قبل الإتحاد الآشوري العالمي في مؤتمره المنعقد في طهران عام 1970 وأصبح يوماً معترفاً به تقريباً من جميع أبناء أمتنا يستذكرون فيه تلك التضحيات التي بذلت على طريق الشهادة والدفاع عن الوجود القومي في العراق.

كان بعض االأصدقاء من "القوميين الآشوريين" يلومونني على إشاراتي الدائمة إلى قداسة البطريرك مار دنخا الرابع كبطريرك آشوري أو بطريرك الكنيسة الآشورية من دون تعميم هذه الصفة "الآشورية" على بطريرك الكلدان أو السريان أو حتى الموارنة منطلقين من إيمانهم القومي الشمولي في أعتبار أتباع هذه الكنائس كلهم أبناء للقومية الآشورية من دون إي أعتبار للحقيقة الموضوعية التي تتحكم في طبيعة تسمية كل كنيسة بأسمها المعروف والمعتمدة سواء من قبلها أو من قبل الغير. ففرض تسمية على مسمى آخر أمر لا يقبله المنطق ولا العقل خاصة في البحوث العلمية والموضوعية الهادفة إلى وصول لنتائج منطقية ومقبولة. والحال نفسه ينطبق على تسميات هذا الموضوع سواء كحركة قومية آشورية أو يوم الشهيد الآشوري. فمنطق البحث العلمي التاريخي الصحيح والقويم لهذا الحدث لا يتقبل تعميم هذه التسمية، على الأقل رسمياً وقانونياً على بقية مكونات شعبنا من الكلدان والسريان خاصة في المرحلة التي نشأت وطغت الحركة الآشورية لعام 1933 على السطح السياسي العراقي وضمن ظروف من القهر السياسي والفكري والقومي التي سادت في تلك الفترة وأصبح السلوك الحكومي والشعبي في التعامل مع المختلف دينياً وقوميا. فلم يكن إطلاقاً مقبولا لا من الكلدان ولا من السريان أن تعمم عليهم التسمية الآشورية في تلك المرحلة المرعبة وبالتالي فعندما ندرس ونبحث في الحركة القومية الاشورية لعام 1933 والمذبحة التي رافقتها في سميل يجب علينا أن نأخذ بنظر الإعتبار مواقف الكلدان والسريان في تلك المرحلة قبل تعميم هذه التسمية والحركة والمذبحة على جميع مكونات شعبنا (الكلداني السرياني الآشوري). فالمنطق والبحث الموضوعي يقضيان بأن تدرس المسألة كما هي بتسميتها وزعامتها ورجالاتها من دون تعميمها على الآخرين وهم بعيدون كل البعد عنها ومستنكرين لها. من هنا بقيت التسمية كحركة قومية آشورية وعلى المناسبة  بيوم الشهيد الآشوري. هذا في الماضي، غير أن الواقع الفعلي في يومنا هذا وتنامي الوعي القومي في مختلف مكونات أمتنا وتأسيس أحزاب ومنظمات كلدانية وسريانية تأخذ من تاريخ أمتنا الشامل للكل قاعدة فكرية وحضارية لسياساتها القومية فيفرض هذا الوقع نفسه على السطح القومي السياسي ليجعل يوم الشهيد لكل أبناء أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية، وحسناً فعلت معظم تنظيمات وأحزاب أمتنا خاصة المجتمعة تحت مظلة "تجمع التنظيمات السياسية الكلدانية السريانية الآشورية" في أعتمادها هذه التسمية الشاملة للجميع.

أن التحديد الحصري والرسمي لهذه للتسمية الآشورية المعتمدة في هذا الموضوع لا يعني إطلاقاً بأن الكلدان أو السريان كانوا بعيدين عن هذا الحدث سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فالنتائج التي أفرزها أصابت  الكلدان والسريان أيضاً وعلى جوانب معينة وأثارت فيهم نوعاً من الإهتمام السياسي والقومي، لا بل وأصابت أيضاً معظم العراقيين وعانوا الكثير من الأساليب الإستبدادية التي عولجت بها الحركة الآشورية والتي أصبحت المنهج السائد في التعامل على الساحة السياسية العراقية. فما أن أنتهى المجرم بكر صدقي، جنرال مذبحة سميل، من فعلته الشنيعة في سميل حتى أدار بندقيته نحو حركات الشيعة في الجنوب والكورد في الشمال وأستمر متبعاً نفس أسلوب سميل في التعامل معهم وقمعهم بالقوة والإستبداد.   

أن المهالك والإضطهادات والتعسف التي أصابت "الآشوريين" من أتباع الكنيسة "النسطورية" كانت ذات تأثير عميق على نفسية ومواقف بقية المسيحيين لا بل وحتى على بعض من أتباع هذه الكنيسة. ففي ظل الظروف الإستبدادية والقمعية التي أعقبت مذبحة سميل ساد نوع من الحذر والحيطة وحتى الخوف والهلع من التدخل في السياسة أو المطالبة بأية حقوق قومية خاصة بهم. فكانت البرقيات الإستنكارية والإدانة لا تأتي من الكلدان والسريان فحسب بل أيضا وبشدة بالغة من قبل بعض أتباع الكنيسة الآشورية "النسطورية" لا بل وحتى من أكثر من أسقف أو زعيم عشيرة وشخصية بارزة من أتباع هذه الكنيسة تدين الحركة وتستنكر تحركات البطريك مار شمعون إيشاي وتؤيد تحركات الجيش في قمع الحركة الآشورية. وقد أورد مؤرخ السلطة الحاكمة في العراق عبد الرزاق الحسني الكثير من هذه البرقيات في كتابه المعروف تاريخ الوزارات العراقية. كان من الطبيعي أن يفرز الخوف والهلع من إستبداد السلطة وضعاً عاماً في نفسية بقية أبناء أمتنا من الكلدان والسريان والآشوريين غير أن هذه الحالة العامة لم تكن خالية من حالات إستثنائية لم تعير أهمية لمثل هذه الظروف أو لم تجاري الحالة العامة من الخوف والخشية التي سادت في الكثير من أبناء الأمة. وهي الحالات التي تعتبر في ظل مثل هذه الظروف المأساوية المرعبة نوع من الشجاعة التي يجب الإشارة إليها بالبنان والتثمين لمثل هذه المواقف الرافضة للظلم والإستبداد خاصة عندما تأتي من شخصيات سريانية وكلدانية..

المفكر فريد نزها وإستنتاجه بيوم الشهيد:

ولد فريد إلياس نزها عام 1894 في مدينة حماه في سورية ومن عائلة سريانية أرثوذكسية نزحت من هربوط في أعالي بلاد بيت نهرين واستقرت في سورية ومنها هاجر الى الأرجنتين ومن هناك، ومنذ الثلاثنيات وحتى الخمسينيات، كان يصدر مجلته المعروفة بـ"الجامعة السريانية"، التي عبرت عن مواقفه القومية الجريئة والشجاعة حيال مسألة وحدة طوائف كنيسة المشرق، وهذا بحد ذاته موضوع يستوجب مناقشته بشكل مفصل وفي فرصة اخرى. على أن الذي يهمنا هنا هو قدرة هذا المفكر الكبير في اكتشاف الحقائق التاريخية وتحديد الابعاد المستقبلة لابناء أمته خاصة فيما يتعلق بموضوعنا في الخوف من السياسة والمسائل القومية والخضوع للاستبداد الذي ساد في قطاعات واسعة من أبناء أمتنا أثناء وبعد مذبحة سميل وتوصله إلى إستنتاج بأن في المستقبل سيردد أبنا الأمة ذكرى الإستشهاد في سميل. فعلى الرغم من أن فريد نزها لم يكن صارماً وحاداً في رسم الاسم القومي الشامل للآشوريين في تلك الفترة، ولاعتبارات كان يقدرها حق تقدير، لذلك كان يخاطب أبناء أمته في مقالاته الافتتاحية اللهابة  بالقول ( الأمة السريانية الارامية الآشورية الكلدانية) وذلك بهدف التضمين الحضاري المشترك والمتواصل لهذه التسميات المرادفة لشعب واحد وأمة واحدة.

كان فريد نزها يصدر مجلته باللغة العربية ثم أضاف اليها اللغتين الاسبانية والسريانية الغربية وكان يكتب أسم المجلة بالاسبانية كما يلي  ( ASOCIACION  ASIRIA)  وفي العدد  الثاني، شباط 1939 للسنة الخامسة وفي الصفحات 10 – 12 كتب فريد نزها بخصوص تأثير الخوف والخضوع للاستبداد من جراء مذبحة سميل والنتائج المرعبة التي أفرزتها على بعض أبناء أمتنا وقال:

"أحد الأفاضل من أدبائنا الأغيار في الوطن – وكان من موصل - كتب مرة الى مدير الجامعة السريانية ( وهو فريد نزها نفسه ) بقوله: أمح أو أصلح أو غير أسم المجلة ( الاسباني ) فان هذا التعبير  ASIRIA لا يروق لحكومة البلاد عندنا وهو يفيد المعنى " الآشوري " وهذا لا يليق أيضا بك وأنت من عائلة سريانية معروفة بغيرتها وتمسكها بالعقيدة السريانية الخ.. فأبتسم المدير ( أي فريد نزها ) من هذا التضمين لدى قراءته تلك العبارة ولم ير غير العياذ بالله العظيم واللواذ بحوله من هذا البلاء المقيم. أنني أسأل جناب الأديب : اذا لم ترُق التسمية الآشورية لجناب الحاكم هل تجيز لك آدابك وشرف قوميتك وقواعد دينك أن تبدلها بغيرها إرضاءً لخاطر الأمير وإكراماً لسواد عينيه ؟؟ وماذا تصنع غداً متى خطر لحاكمك المطلق أن يقول لك أنزع هذا الصليب عن باب كنيستك ومحظور عليكم أنتم معشر النصارى قرع الأجراس ؟؟ . أو ماذا تقول اذا قالوا لكم غداً ان تعليم السريانية ينافي نظام دائرة المعارف الوطنية؟؟ أنك تستبعد حصول هذه الفواجع ولكن الليونة والخنوع اللذين ابديتموهما تجاه الحاكم المستبد سوف يحملانه على التمادي في ظلمه واستبداده. وقد يقول لك غداً : إن الخلاص ليس في اللغة بل في العقيدة،  فإذا كنتم انتم السريان مخلصين للحكومة والوطن وجب عليكم إتمام الخلوص وإخلاص الطاعة فاستبدال السريانية بالعربية لا مندوحة منها، فماذا تجيبون حكومتكم إذ ذاك يا حضرة الأستاذ ؟؟ . وبالحقيقة إذا لم يكن للسريانية غير المعنى الديني فأي حاجة لنا بها ؟ كان يجب عليك وأنت من كبار أساتذتها والخبيرين بتاريخها وباذخ  شرفها، أن تقول أن السريانية، قومية جنسية وطنية، لا دين ولا مذهب، وقد يكون المذهب الواحد بين عدة أمم كما هو شأننا( نحن السريان اليعاقبة) مع القبط والحبش. أما الجنسية ( ويقصد القومية ) فلا شركة فيها. فإذا انتزعنا العصبية الجنسية (ويقصد العامل القومي) من أبنائنا ماذا يبقى ؟؟ أنت تجيب : الدين‍‌‍، وأنا أقول لك انهم  يجدون الدين في مصر والحبشة وها هم يطلبونهُ بعيداً عنهما بفضل تعاليمك. ولو اننا علمناهم إن السريانية علم طبيعي لنا وهو أسم أمتنا القديمة  العظيمة وبسطنا لديهم آثار عظمتها لرأيتهم يحرصون على هذه التسمية ويفاخرون الأمم بالانتساب إليها على شرط أخطر المواقف وأحرج الظروف … ما أحلاك لما رحت تقول لي بكل بلادة وجهل ، أن التسمية الآشورية تفيد المعنى المذهبي "النسطوري"، وهو قولُ تبرأُ منه الحقيقة ويستنكره الجميع من الخاصة والعامة وأنك لعاجز عن إنكار هذه الحقيقة من ان السريان هم الآشوريون سلالة الكلدان القدماء ولا أرضى منك أبداً الانسحاب بدون ان تفحمني بالبراهين الساطعة عن فساد هذا الرأي، بل كل من له اطلاع في اللغة والتاريخ يعرف ان كلمة سريان أصلها أسريان وهو لفظ يوناني منحوت من الاصل الآشوري "أشوريان" . هذا عدا عن أن العالم كله يعلم أن الاسم الآشوري لا يفيد المعنى الديني وإذا راجعت صحف التاريخ الكنسي، لما رأيت إخواننا النساطرة يتميزون بهذا التعريف وإنما بقولهم نساطرة ولو انهم عرفوا تمييزا بالاسم الآشوري لكانوا في حال يحسدون عليها. وأقول بكل أسف إن التسمية المذهبية عندهم هي النسطورية فقط. أما إذا كانت هذه الصفة ( أي الآشوري ) تشير الى الغير راضين بالاندماج في العربية والخضوع للحكومات الغاشمة وقد نالهم بسبب ذلك القتل والاضطهاد والسلب وكل أنواع المظالم والفظائع ( ويقصد بها مذبحة سميل وما رافقها) ، فذلك شرف عظيم انفردوا به . وستردد الأجيال القادمة ذكر ذلك الاستشهاد وآثار تلك الفواجع التي أنزلها بهم أعداء الله والإنسانية ما بقي آدمي على وجه هذه البسيطة.

أدرجت النص الأخير من مقالة المفكر فريد نزها باللون الأحمر لزيادة الإنتباه إليه وإستنباط الاستنتاج العظيم الذي أستنتجه في ذكره بأن الأجيال القادمة ستردد ذكر ذلك الإستشهاد في سميل وفعلاً وبعد أكثر من ثلاثة عقود، أي في عام 1970 عند إقرار الإتحاد الآشوري العالمي السابع من آب يوماً للشهيد، وحتى هذا اليوم فإن أبناء أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية تردد ذكر هذه المناسبة في الشهادة والتضحية.. أليس فريد نزها عظيماً يستحق كل التقدير والتثمين لفكره القومي الإستراتيجي؟... كم من أبناء أمتنا خاصة القوميين منهم يعرفون فريد نزها وقرأوا أدبياته القومية ؟؟؟

الصحافي الشجاع الشماس يوسف هرمز جمو:

 ربما الكثير من أبناء أمتنا  سمعوا عن الشماس يوسف هرمز جمو، خاصة وهو والد المطران مار سرهد جمو رائد النهضة الكلدانية في عصرنا هذا، ولكن من المؤكد قلة قليلة تعرف مواقفه السياسية الشجاعة وغزارة نشاطه الثقافي والصحفي وتحديداً ما اورده في كتابه المعنون "أثار نينوى أو تاريخ تكليف" الذي نشر في عام 1937 وأعيد طبعه ونشره بعد 56 سنة وتحديداً في عام 1993 من قبل أبناءه الغيارى في ولاية مشيغان - الولايات المتحدة الأمريكية.

يقول السيد يوسف ناظر في مقدمته عن الكتاب بأن الشماس يوسف هرمز جمو هو "وجه مشرق من وجوه الإعلام الكلدان الذين كرسوا جل حياتهم – إن لم يكن كلها – لخدمة شعبهم ووطنهم بحرص وتجرد ونكران ذات حتى وافاهم الأجل ليكونوا قدوة حسنة لنا وللأجيال القادمة ولكي لا يغيبوا عن ذاكرتنا بعد أن واراهم التراب، إعترافاً بجميلهم، طيب الله ثراهم... وهو أشرق وأعطر الوجوه التي إنجبتها الأمة الكلدانية في عصرنا الراهن.. فهذا الأبن البار للشعب الكلداني الذي بدأ حياته ملاحاً في السفن – الدوب – التجارية فوق مياه دجلة بين بغداد والبصرة دفعه طموحه الشخصي وعصاميته الفذة ومواهبه الفطرية إلى إقتحام الميدان الثقافي فأصبح مربياً فصحافيا فمؤلفاً فأستاذا لأبناء الأمراء، رحمة الله عليه... ص9. هذا الإطراء الجميل للشماس يوسف جمو الذي ولد في بلدة تكليف في 19/03/1892  لم يترك لنا الإستاذ يوسف ناظر مجالا للتفصيل في سعة مواهبخ وقدراته ومن يريد من القراء الأعزاء المزيد من إبداعاته ونضاله يمكن إيجادها في كتابه السالف الذكر.

كان الشماس الشجاع قد دخل المعترك السياسي في تلك الفترة فرشح نفسه لعضوية المجلس النيابي ممثلاً للمسيحيين إلا أنه لم يفز بالمقعد بحكم الظروف السياسية في تلك الفترة. غير أن هذا لم يثني عزيمته للإستمرار في معترك السياسة والثقافة، ففي عام 1934 حصل على إمتياز لإصدار جريدة يومية سياسية بأسم "صوت الشعب"، ويكفي أسم هذه الجريدة لتعبر عن مواقفه السياسية والوطنية فكان يشن حملات على الفساد الإداري والسياسي وتزوير الإنتخابات في تلك الفترة مما عرضه ذلك إلى مضايقات من أطراف رسمية وغير رسمية بحيث وصلت إلى درجة محاولة إغتياله عام 1937 بعد أن أغلقت صحيفته الجريئة "صوت الشعب" من قبل السلطات الرسمية، وفي هذه الفترة تسنت له الفرصة والوقت ليؤلف كتابه هذا. كل هذا النشاط السياسي والثقافي لا يمكن أن نتجاهله أو لا نربطه بحادث السيارة في 18/11/1965 الذي أودى بحياته  للحد من نشاطه السياسي والثقافي والقضاء عليه، وهو الأسلوب المعروف في تاريخ العراق السياسي في إغتيال الشخصيات البارزة المعارضة لفساد السلطة. وعلى العموم فإن مناقب ونشاط الشماس الشجاع كثيره وسنقتصر على معالجة موضوع كتابه السالف الذكر وعلاقته بالظروف السياسية المأساوية التي أعقبت مذبحة سميل.

موضوع الكتاب هو ربط تلكيف وبقية القرى المسيحية في سهل نينوى بتاريخ الإمبراطورية الآشورية وإرجاع أصل أهلهم إلى الآشوريين القدماء. وبخصوص أبناء بلدة تكليف والقرى العديدة المنتشرة في سهل نينوى يقول الشماس يوسف "يبلغ عدد الذين ينتسبون إلى بلدة تكليف نفسها نحو 30 ألفاً وليس هؤلاء فقط كل بقايا نينوى أنما هناك قرى عديدة في تلك البقعة أكثر سكانها هم من بقايا الشعب الآشوري.إنما أقتصرت على تاريخ تلكيف في هذا الكتاب لأنها البلدة الوحيدة الخالصة التي تمثل نينوى في بعض التقاليد الموروثة لأهالي تلك المدينة العظيمة... ص 7. أما بخصوص أسم المدينة فيقول الشماس يوسف : "المدينة ضاحية من ضواحي نينوى كما سيجئ وأسمها مأخود بعد ذلك من أسم التل الذي اختطت المدينة بجانبه والتل المذكور حصن قديم شيد أيام دولة آشور كباقي الحصون التي كانت تشاد دفاعا عن العاصمة نينوى. وهو إصطناعي كانت جوانبه مرصوفة بحجارة ضخمة فسمي تل كيف أو "تلكيبا". – ص20. وفي مكان آخر يؤكد الكاتب الشجاع بأن تلكيف كانت قلعة من قلاع نينوى فيقول "إذا كانت قرية نمرود وسلامية، كما يقول العلامة لايادر عباة عن محلتين ضمن نينوى... فلا يمكن حسبان نينوى إلا أن تكون تلكيف من مشتملاتها". ص21.

الكتاب صدر عام 1937، وهي الفترة التي كانت المسألة الآشورية، خاصة بعد مذبحة سميل في آب 1933 قد طغت على السطح السياسي العراقي وتركت إنطباعات ونتائج سلبية جداً على الآشوريين وتحديداً على أتباع كنيسة المشرق المعروفة حينذاك بـ "النسطورية" خاصة بعد نفي بطريرك كنيسة المشرق مار شمعون إيشاي من قبل السلطات العراقية إلى خارج العراق وتجريده من الجنسية العراقية والذي أرتبطت الحركة القومية الآشورية في تلك الفترة بأسمه. ففي تلك الفترة ساد هلع بين معظم الطوائف المسيحية من التدخل في المسائل السياسية أو المطالبة بحقوق قومية أو سياسية خوفاً من النتائج المدمرة التي قد تصيبهم من جراء هذه المطالبة كما أصابت الآشوريين من أبناء طائفة كنيسة المشرق والتي سبق الإشارة إليها في أعلاه. فالموضوع الذي كان يثير غضب وهيجان السلطات العراقية حينذاك ومؤرخيها وكتابها هو الربط التاريخي القومي الذي كان يربطه الآشوريون الثائرون حينذاك بالآشوريين القدامى وبالدولة الآشورية القديمة، خاصة بعد أن إتيحت الفرصة للبطريك مار شمعون وهو منفياً في الخارج للقيام بحملة ضد الحكومة العراقية ومطالبا بحقوق لأبناء امته على هذا الأساس التاريخي. في حين نرى عظمة وشجاعة الشماس يوسف جمو تتجاوز إلى حدود أبعد  عن هذا الخوف من دون أي تردد أو مجاملة عندما ربط أصل أهل تكليف والقرى المسيحية الأخرى المنتشرة في سهل نينوى بالآشوريين القدامي في الوقت الذي كان الكثير سواء من الكلدان أو السريان أو الآشوريين النساطرة ينكرون أصلهم التاريخي ويتخوفون من ذكره. ولا نشك إطلاقاً بأن الشماس يوسف جمو، وهو ناشطاً سياسياً وعلماً من أعلام الثقافة والصحافة، في كونه ملماً بالحياة الساسية حينذاك وبكل مجريات الأمور التي كانت تعصف بالعراق ومنها المسألة الآشورية التي كانت قد طغت على سطح الساحة السياسية العراقية وأنه كان مدركاً كل الإدراك بما كان يكتبه ويؤمن به. كل هذا يعكس مدى "ثورية" هذا الكاتب وعدم خشيته من إستبداد السلطات حينذاك. وهي شجاعة لا يضاهيه فيها إلا المفكر والكاتب يوسف ماليك والذي كان هو أيضا من أبناء تلكيف الذي كتب وعمل الكثير في هذا المجال ومنها كتابه المشهور "خيانة بريطانيا للآشوريين". ولكن مقارنة الشجاعة بين الكاتبين من أبناء تكليف تبقى هنا ضرورية حيث كتب الشماس كتابه وهو في العراق وضمن ظروف أقل ما يقال عنها إستبدادية وتعرض إلى حادثة سيارة فقضت على حياته ولا شك فيه أن تكون وسيلة لإغتياله والقضاء عليه وعلى نشاطه الجرئ في حين كتب مالك يوسف كتابه وهو خارج العراق ومات موتاً طبيعياً في بيروت.

في السابع من آب من كل عام يحتفل أبناء أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية بيوم الشهيد، وهي مناسبة لا تفوتنا إلا أن نذكر أبطال أمثال فريد نزها "السرياني" و الشماس يوسف هرمز جمو "الكلداني" ونضعهم في مصاف شهداء أمتنا رغم إختلاف طبيعة إستشهاد كل واحد منهما. فالإستشهاد في ظل الظروف الإستبدادية في الوطن يكون عن طريق الإستعداد للتضحية بالحياة، أغلى ما يمكله الإنسان، كما كان الحال مع الشماس يوسف هرمز جمو. في حين يكون الإستشهاد في الظروف الإعتيادية، خاصة في المجتمعات الديمقراطية بالتضحية بكل مسلتزمات الحياة الأساسية وبالتالي بالحياة نفسها. كما كان الحال مع فريد نزها. وفي الأخير يجب أن لا يفوتني إلا أن أذكر ولو بإشارة بسيطة إلى الوقفة البطولية لبلدة ألقوش "الكلدانية" في دفاعها المستميت عن اللاجئين الآشوريين من أتباع الكنيسة المشرقية "النسطورية" الذين لجأوا إليها هرباً من مذابح بكر صدقي ورفضهم القاطع تسليمهم إلى جلادي النظام الحاكم حينذاك. هذا موضوع سبق وأن التطرق إليها أكثر من كاتب وفي أكثر من مناسبة ولكن الذي أود أن أشير إليه هو إستعداد، لا بل كل الإستعداد، لأبناء ألقوش البطلة بالتضحية بحياتهم جميعاً والإستشهاد في سبيل الدفاع عن أبناء قومهم... تضحية  مسجلة في سجل تاريخ امتنا بماء من الذهب.