حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

( سلسلة مقالات فكرية )

 

                                                    

 

                                                                    

                                                                      هرمز طيرو

  ( الجزء الثاني )

  ما هي العَلمانية ؟

       تطرقنا في المقال السابق وبصورة عامة عن المحاور الأساسية التي سيتمحور حولها هذه المقالات ، وقد أن الأوان لأن نبدأ بمعالجة هذه المحاور وبشكل شامل ومفصل ، وسوف نبدأ اولاً معالجتنا لإشكالية العلمانية ، وما هو مفهوم الحركة الديمقراطية الأشورية " زوعا " للعلمانية ؟ والذي وحسب اعتقادنا بأنه مفهوماً يتجاوز الفهم السائد لها بين أبناء شعبنا سواء كان مشتركاً بين العلمانيين أنفسهم أو الذي نجده عند غير العلمانيين ، لذا فمن الضروري أن نؤكد منذ البداية بان الموقف العلماني للحركة الذي ندافع عنه في هذه المقالات وأن كانت له علاقة تربطه جدلياً بالمواقف العلمانية المعروفة روابط عدة ( عقائدية وفكرية ) فأنه يتجاوز هذه المواقف في عدة أمور أساسية ، وهنا تأتي معنى توضيحنا ما الذي نفهمه وبشكل واضح عن العلمانية وكيفية تجاوزنا للفهم السائد لها في مجتمعاتنا بصورة عامة .

وقبل أن نتطرق للفهم السائد للعلمانية بين أبناء شعبنا وخاصة بين مفكرينا ومثقفينا ، فأنه من الضروري أن نوضح شيئاً عن أصل وجذور اشتقاق لفظة " علمانية " . لقد شاع ولا زال شائعاً بين عدد من المثقفين بأن كلمة العلمانية ينبغي أن تلفظ بكسر حرف العين ، مما يدل على أن جذر اللفظ ينسب إلى " العِلم " وهذا بحد ذاته خطأ شائع ، أذ أن لفظة " عَلمانية" من أصل لفظة " عَالَم " ونطقها يكون بفتح حرفي ( العين والام ) معاً ، أما " العِلماني " ( بكسر حرف العين ) هو من يتخذ من العِلم نموذجاً للمعرفة ( العلوم الطبيعية ) ويتبنى وجهة النظر الوضعية بعيداً عن المعارف الميتافيزيقية التي لا تخضع من حيث المبدأ للمعايير العلمية .

أنها من الضروري التوضيح للقارىء من اننا في هذه المقالات معنيون فقط بالعَلَمانية ( بفتح حرفي العين والام ) وسوف لن نتطرق وكذلك سوف لا تتظمن هذه المقالات موقفاً من طبيعة المعرفة بشكل عام ولا موقفاً من طبيعة المعرفة العملية ( 1 ) بشكل خاص ، ولكن من خلال السيرورة سيتضح لاحقاً باننا معنيون بالمقام الاول في :

اولاً : دور الإنسان في الوجود .

ثانياً : استقلالية العقل الإنساني ومدى توظيفه في كافة المجالات .

ثالثاً : الغايات التي بها يجدر الإنسان تحقيقها في الوجود .

اذن ، أن العلمانية بهذا المعنى هي : موقف إبيستمولوجي إلى الحد الذي يكون ضمنه موقفاً من طبيعة المعرفة العملية ( معرفة الوسائل والغايات ) وعلاقتها النقدية بالمعرفة الدينية ، غير أن العَلَماني

( بفتح العين واللام ) ليس بالضرورة عِلماني ( بكسر العين ) ( 2 ) .

لنعد الأن إلى السؤال الذي طرحناه في بداية المقال ألا وهو ( ما هي العَلَمانية ) أو ماهو الفهم السائد للعَلَمانية بين مثقفينا ومفكرينا بشكل خاص وبين أبناء شعبنا بشكل عام . إن الجواب الذي يمتثل للذهن للوهلة الأولى هو أن الفهم السائد لدينا للعَلَمانية وما هي سماتها الجوهرية ، هو الفهم الذي يعرف العَلَمانية بأغراضها المعروفة وليس بالأسُس التي يجب أن تقوم عليها العَلَمانية ، وأهم هذه الاغراض وكما هو معروف لأي متابع لنشأة الحركات العَلَمانية في العالم الغربي تقوم على :

1 – فصل الكنيسة وهيمنتها على شؤون السياسة .

2 – تحرير السلطة السياسية عن أي تأثير مباشر وغير مباشر من السلطة الروحية المتمثلة بسلطة الأكليروس ، وعدم هيمنتها على الشؤون الأجتماعية والثقافية للمجتمع .

غير أن هنالك بعض من مثقفينا يذهبون إلى أن للعَلمانية اغراضاً أبعد مما ذكرناه ، تفرضها المرحلة التاريخية التي يجد الإنسان نفسه فيها ، ولتوضيح ما نعنيه ، ففي بداية العقود الأولى من القرن العشرين المنصرم مثلاً ، وعندما كان فكرنا القومي في بدايته ، أبتدأنا نشهد ميلاً قوياً من مفكرينا من أمثال ( نعوم فائق ، أشور خربوت ، فريدون أتورايا ، فريد نزهه ، أغا بطرس ، يوسف مالك ) على فهم العَلَمانية على إنها ستكون عاملاً ضرورياً في بناء الوعي لتحقيق الوحدة القومية ودفع عجلة التطور والتخلص من الشرذمة والتخلف ( الطائفية ، المذهبية ، العشائرية ، المناطقية ) . أذن فالعَلَمانية بهذه المعنى شكلت لدى مثقفينا ومفكرينا الأوائل على إنها جزء كبير في سيرورة تحديث المجتمع .

وقد يذهب البعض إلى أبعد من هذا الفهم للعَلَمانية ، عندما ينظروا إلى المجتمع الديني ذو الطابع التوليتاري ( 3 ) حيث تتحول المؤسسة الدينية إلى  المرجع الاول والأخير والمطلق فيما يتعلق بالأمور الروحية والدنيوية على حد سواء ، والعَلَمانية في ضوء هذا الفهم تصبح بحد ذاتها موقفاً مضاداً للتوليتارية الدينية . في حين لا نجد أي من مثقفينا ومفكرينا يولي اهتمام واضح بالعَلمانية بوصفها موقفاً من قضية المعرفة ، فمثلاً الذين يحاربون الطابع التوليتاري في المجتمع يركزون على الاعتبارات التي تتعلق بالحريات والحقوق ، أو بتعبير أخر يركزون على الاعتبارات الخلقية في حين يهملون الاعتبارات المعرفية التي تتعلق بأستقلالية المعرفة للعقل الإنساني ، حيث إنهم يرون في سيطرة الدين في جميع الامور الدينية والدنيوية تهديداً خطيراً لأستقلالية الإنسان على المستويين السياسي والخلقي ، لكنهم نادراً ما يشيرون إلى خطره على الاستقلالية المعرفية للعقل .

اذن ، فهنا نأتي إلى المسألة الثانية من تحليلنا ، ألا وهي معرفة السمات الضرورية للمعارف الإنسانية والتي سنعالجها بالتفصيل وذلك من أجل الوصول إلى الغرض أو الأساس الأخير للعَلَمانية وهي :

  في طبيعة المعرفة الدينية قبل الحديث عن المعرفة الدينية من الضروري تنبيه القارىء ، أن مفهومنا للمعرفة الدينية تتلخص في :

1 – المفهوم الذي يجد تطبيقه ضمن الديانات السماوية وضمن التقليد الابراهيمي بشكا خاص .

2 – المفهوم الذي لا يتجاوز تناول الوضع المنطقي لها .

3 – المفهوم الذي يتعلق بالجوانب المعرفية لهذا النوع من المعرفة ، ودور الأدلة العقلية في الوصول إليها وعلاقة الوحي بالعقل .

وحتى نعالج الفقرة الثانية والتي تتعلق بالوضع المنطقي للمعرفة الدينية ، يجب تحديد اولاً ما الذي نعنيه بالوضع المنطقي للمعرفة الدينية ، فالمعرفة قبل كل شيىء هي ( معرفة صدق ما ) لكن القضية لها شقين :

اولاً : شق ما هو جائز .

ثانياً : شق ما هو ضروري .

لذا فالوضع المنطقي للمعرفة التي تتخذ من صدق قضية جائزه موضوعاً لها ، هو غير الوضع المنطقي التي تتخذ من قضية ضرورية موضوعاً لها ، لأن القضية الصادقة بالضرورة لا يمكن لها إلا أن تكون صادقة ، عليه فأن الفرق بين الطبيعة الجائزه والطبيعة الضرورية لا بد أن تنعكس في الفرق المنطقي بينهما ايضاً . اذن فإن العلاقة بين المعرفة والصدق هي علاقة طبيعية ، وبالتالي ضرورية ، وبكلام أخر فأن المعرفة لا تتخذ ولا يمكن أن تتخذ إلا من قضية صادقة موضوعاً لها .

من تحليلنا هذه وفي ضوء ما تقدم يتضح من أن المعرفة الدينية من حيث هي معرفة لوجود الله ( بوصفه الخالق الواحد والأزلي وكامل الحرية ومصدراً لإلزام الأخلاقي ) هي معرفة ضرورية بما هي على الأقل وليس على الأكثر ، وأن هذا يكفي لأغراضنا في هذه المقالات لأن القضايا التي يمكن أن تشكل موضوعات للمعرفة العملية ليس فيها ما يمكن أعتبارها ضرورياً ، حتى بهذ المعنى للضرورة ، فصدق أية قضية منها يعتمد على صدق قضايا أخرى كثيرة مستقلة منطقياً عن السابقة ، بأختصار ، إنها قضايا جائزه لا ضرورية . والمعرفة الدينية بهذا المعنى لا تكون ضرورية إلا أذا توفر شرطان :

اولهما : هو أن تكون الاعتبارات العقلية شرطية وتعكس ضرورتها .

ثانيهما : هو أن تكون تفوق هذه الاعتبارات أمرأ ضرورياً .

                                                            (  يتبع في الجزء الثالث)

الهوامش :

( 1 ) نعني بالمعرفة العملية ( Practical Knowledge ) والمعرفة العلمية ( Scientific Knowledge  ) .

( 2 ) إن الانتقال إلى المجتمع العَلماني ( بفتح العين واللام ) لا يتم بنجاح دون الاستناد إلى الصفة العلمية فالصفة العلمية مكملة للصفة العَلَمانية وأساس لها ، إلا أننا لا نقصد بالصفة العلمية شيئاً

يتصل بالعِلمانية ( بكسر العين ) من حيث هي موقف وضعي من طبيعة المعرفة ، بل نقصد الموقف الذي يتصف بالعقلية والمنهجية والموضوعية .

 ( 3 ) التوتاليتارية : نظام سياسي لدولة ما ، يتميز بالهيمنة الكلية على النشطات الفردية من خلال تبنيها لأيديولوجية معينة ، لكن بعد سنة 1945 اصبحت التوليتارية لفظة شائعة تطابق لفظة السلطوية ، وأطلقت على العديد من الدول والاحزاب السياسية والأيديولوجيات كالنظام الفاشي أو النازي .. ألخ . (  انظر الموسوعة السياسية المجلد الخامس ص 136 ) .