حقوق الأقليات القومية ... الكلدان السريان الآشوريين مثالاً

نظرة مقارنة بين نظام البعث والحكم الحالي في العراق

 

                                            

                                                      

                                                               

                                                          ابرم شبيرا

        

          الأقلية مصطلح معياري أستخدم في العلوم السياسية والقانونية بالقياس على عدد (حجم ) مجموعة معينة من الناس في مقارنتهم، وفق هذا المعيار العددي، مع عدد أكبر منهم التي تعرف بالأغلبية. أي بعبارة أخرى، أن مجرد ذكر الأقليات يعني هناك تجزئة أو إنقسام في المجتمع إلى مجموعين على الأقل تكون أحدهما أكثر عددا من الأخرى. وهذه الميزة تجعل بشكل عام الأغلبية في موقع القوة والسيطرة أكثر من الأقلية. ولكن إلى جانب كون الأقلية أقل عدداً إلا أنها من جهة أخرى قد تتمتع بخصائص أخرى قد تزيد من تحديد ميزة الأقلية عن الأكثرية كأن تكون ذات خلفية حضارية متطورة وإنسانية وأكثر فاعلية في بناء وتطوير المجتمع كما كان الحال مع المسيحيين وتحديداً (الكلدان السريان الآشوريين) في العراق منذ الفتح الإسلامي وحتى قبل سنوات قليلة حيث كانوا ملح أرض العراق، فبدونهم لم يكن للعراق أي طعم. هذه حقيقة مشود بها من قبل الكثير من الكتاب العراقيين. أو تتمتع الأقلية بنوع من السلطة والقوة والجاه كما هو الحال في الأنظمة الأرستقراطية والنخبوية فتصبح مختلفة عن الأكثرية وتزيد من عامل التجزئة في المجتمع الذي يسود فيها مثل هذه الأنظمة.

والأقلية قد تكون دينية وأخرى قومية وثلاثة سياسية أو تكون مركبة من هذه الصفات كما هو الحال مع (الكلدان السريان الآشوريين) حيث هم أقلية دينية (مسيحية) إضافة إلى كونهم أقلية قومية تجمعهم مقومات قومية واضحة من لغة وتاريخ وحضارة تجلعهم مختلفين من هذه النواحي مع الأكثرية المسلمة في العراق من العرب والكرد وحتى التركمان. هذه الصفة المركبة للأقلية (دينية وقومية) تضاعف تحديات الأقلية في المحافظة على وجودها وحماية حقوقها في الأنظمة الإستبدادية خاصة عندما تتدخل الصفة السياسية مع الدينية والقومية كما كان الحال مع "الكلدان السريان الآشوريين" خلال فترات الأنظمة الإستبدادية التي تعاقبت على السلطة في العراق. وعلى العموم إن قلة عدد أو حجم الأقلية  يجب أن لا يكون لمعناها أية مضامين دونية او تحقيرية بسبب هذه القلة في العدد. هكذا فهمت المجتمعات الديمقراطية المتقدمة مفهوم الأقلية وسنت تشريعاتها وفق هذا الفهم الديمقراطي في الممارسة السياسية وضمان حقوق الأقلية والأكثرية معاً. ولكن من المؤسف له فإن مفهوم الأقلية هو غير ذلك في المجتمعات المتخلفة سياسيا كما هو الحال في البلدان العربية وتحديدا في العصر الراهن في العراق. فالكثير من السياسيين والكتاب يتجنبون إستخدام مصطلح الأقلية وذلك إعتقادا منهم بأن له مضامين دونية وتحقيرية، لا بل فهم الكثير من السياسيين مفهوم الأقلية باعتبارها جسماً غريباً (دخيلاً)، متشكلة من هامشيين، معرضين لأن يصبحوا منشقين ومتمردين. وعلى هذا الأساس كانت الأنظمة الإستبدادية تتعامل مع تطلعات الأقلية "الكلدانية السريانية الآشورية" ومطامحها المشروعة. من هذا المنطلق نرى بأن معظم الأدبيات السياسية والتشريعات القانونية والخطابات السياسية في عراق اليوم تتجنب إستخدام مصطلح الأقلية وأخترعت مصطلحات جديدة مثل (المكونات) في نعت الأقليات العراقية إنطلاقاً من الخلفية الإستبدادية والعقلية الإستقصائية التي تتحكم في عقلية رجال الحكم والسياسة في العراق وعدم قدرتها على التحرر منها والإنطلاق نحو الفهم الصحيح لمضمون الأقلية رغم إدعائها بالديمقراطية والإنفتاح على الآخر المختلف.

نظام البعث والموقف من الأقليات:

القصد من نظام البعث هو الحكم الذي أستولى عليه حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق منذ عام 1968 وحتى إنهياره في عام 2003، وأقل ما يقال عنه بأنه كان نظاماً دكتاتورياً إستبدادياً. ولكن من الملاحظ بأن الإشارة إليه هي بصفة نظام، أي بمعنى أخرى كان حكمه يقوم على نسق من القوانين والأنظمة والقرارات والممارسات السياسية، فكانت الدولة العراقية مندمجة بالتمام والكمال مع حزب البعث وبشكل أكثر تكثيفاً مع زعيم الحزب والحاكم الأوحد صدام حسين. ومن الملاحظة بأن حزب البعث كان يتمتع بصفات ونشاط سياسي من حيث أسلوب إستلاءه على السلطة السياسية ولا نجدها في احزاب عربية قومية أو غير قومية أخرى في الوطن العربي. فهو أول حزب سياسي يستولى على السلطة بإنقلاب عسكري في عام 1963 وخلال فترة أقل من شهرين في دولتين عربيتين، العراق  في شباط وسورية في أذار. كما ولحزب البعث في العراق تجربة فريدة من نوعها في التاريخ السياسي للعراق والبلدان العربية وربما حتى في بلدان العالم الثالث إذ يعتبر وصوله وبقاؤه في السلطة حدثاً لا مثيل له, فهو أول حزب يستولي على السلطة في عام 1963  وبإنقلاب عسكري بعد تحالفه مع بعض الضباط العسكريين المحسوبين على القوميين كعبد السلام محمد عارف، غير إنه خسرها بعد أن أنقلب عليه هؤلاء بعد بضعة أشهر وأصبح خارج السلطة ولكنه عادة مرة أخرى إلى السلطة في السابع عشر من تموز عام 1968 عن طريق إنقلاب عسكري آخر وبالأسلوب نفسه، أي تحالفه مع بعض الضباط المحسوبين على القوميين. غير أن هذه المرة، وبعد أن أكتسب تجربة مريرة من جراء فقدانه للسلطة عام 1963، أدرك بأنه يستوجب عليه الحفاظ على السلطة مهما كلف الأمر فكان عليه أن "يتغذى بحلفائه قبل أن يتعشوا به" كما يقول المثل، فلم ينتظر أشهر كما حدث بعد إنقلاب عام 1963، بل بعد بضعة أيام، أي في الثلاثين من تموز عام 1968 أنقلب على حلفائه وأنفرد بالسلطة حتى عام 2003 وهي أطول فترة في التاريخ السياسي العراقي وربما العربي ينفرد حزب سياسي بالسلطة لهذه الفترة الطويلة.

وحزب البعث منذ تأسيسه عام 1947 عالج مسألة الأقليات في أدبياته الحزبية وذلك لكونه نشط في بلدان عربية كسورية والعراق ولبنان حيث يشكل الأقليات جزء من شعب هذه البلدان وأصدر العديد من الدراسات والكراريس في مسألة الأقليات في الوطن العربي وبينً موقفه الأيديولوجي من هذه المسألة. كما أقر الحزب سواء في مؤتمراته القومية أو القطرية في العراق هذه المواقف والسياسات من مسألة الأقليات. وبنظرة موضوعية إلى هذه الدراسات سوف يظهر بأنها تشكل أسلوباً معقولاً في التعامل مع الأقليات في الوطن العربي. وعندما أستولى الحزب على السلطة في تموز من عام 1968 أقر في الدستور المؤقت لعام 1970 بحقوق الأقليات وضماناتها كما شرع العديد من القوانين والقرارات فيما يخص حقوق الأقليات في العراق وفي مقدمتها بيان الحادي عشر من أذار عام 1970 لحل المسألة الكردية والحقوق الثقافية للتركمان. وفيما يخص الكلدان السريان الآشوريين أصدر مجلس قيادة الثورة في نيسان من عام 1972 قراره بمنح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية من (الآثوريين والكلدان والسريان) ثم أعقبه ذلك في أيلول من نفس العام قرار أكثر أهمية وهو قرار إعادة تخطيط الحدود داخل الوحدات الإدارية للمحافظات، وسنأتي على تفاصيلهما فيما بعد.

غير أن بعد أن أستدب الحكم للحزب وهيمن على جميع مفاصل الدولة وكشف القوى السياسية الفاعلة على الساحة السياسة وتحييد بعضها وقمع الآخرين بالحديد والنار خاصة بعد تراجع الحركة الكوردية عقب صدور قانون الحكم الذاتي في إذار من عام 1974، سقطت ورقة التوت من نظام حزب البعث في العراق وأنكشفت سياسته الإستبدادية تجاه الجميع دون إستثناء ومنهم الأقلية  الكلدانية السريانية الآشورية وتبين من خلال الممارسة بأن القرارات التي أصدرها لم تكن إلا طعماً لتوريط هذه الأقلية في صراعه مع الحركة الكوردية، فتم تفريغها من محتوياتها أو أصبحت بحكم المنسي نهائياً. هذا موضوع تم التفصل عنه بشكل مكثف في كتابنا المعنون (الآشوريون في الفكر العراقي المعاصر – دراسة مسألة في العقلية العراقية تجاه الأقليات – من منشورات دار الساقي – بيروت/لندن – ط1 – 2001 – ص27 ومابعدها).

الحكم الحالي في العراق والموقف من الأقليات:

 سبق وذكرنا في أعلاه ونحن في الحديث عن حكم حزب البعث كنظام سياسي في العراق رغم كونه إستبدادياً غير حضاريا إلا أنه كان نظاماً يقوم على نسق من الأفكار والسياسيات والممارسات وأصدر تشريعات فيما يخص أفكاره وسياساته خاصة فيما يتعلق بحقوق الأقليات القومية. ولكن من الملاحظ هنا الحديث سيتركز عن الحكم الحالي في العراق من دون الإشارة إلى نظام ذلك لأن منذ عام 2003 وحتى اليوم لم يستطيع القابضون على السطلة من بناء نظام متكامل يقوم على نسق من القوانين والأنظمة والممارسات السياسية الثابتة والمستقرة، وبالأخص ما يهم موضوعنا عن حقوق الأقليات ومنهم الكلدان السريان الآشوريين. فمن الملاحظ بأن جميع الأحزاب والقوى، بإستثناء الحزب الشيوعي العراق وحزب الديمقراطي الكردستاني، التي هيمنة على الحكم لم يكن لهم أي موقف مبدئي ونظري ثابت حيال مسألة الأقليات. فمثل هذه المسألة كانت غائبة عن أفكارهم وأيديولوجيتهم ناهاهيك عن إفتقارهم إلى الخبرة في التعامل معها ليس بسبب غيابها عن الحكم والسلطة وبقاءها وعلى الدوام خارج الحكم قبل عام 2003 وإفتقارها إلى الحكم وكيفية ممارسته، بل أن مثل هذه المسألة كانت بالنسبة لهم ثانوية أو هامشية في مقارنتها مع المسائل السياسية الأخرى وخاصة المتعلقة بمقاومة نظام البعث الإستبدادي والوصول إلى سلطة الحكم. والمدقق في الحكم الحالي في العراق يتبين بأنه مصاب بمرض شيزوفرينيا أي الفصام في الشخصية، وهو مرض يسبب إضطراب ذهني يتميز المصاب به بنظرة مغايره للواقع وبعدم قدرته على التواصل الإيجابي مع الآخرين. وفصام شخصية الحكم الحالي قائمة على إدعائه بالديمقراطية والتعددية ولكن في واقع الحال هو حكم طائفي وبإمتياز وبالتالي فأن معظم قراراته وسياساته مهما ألبست ثوب الديموقراطية فإن في مضمونها تبقى طائفية. وفيما يخص الأقلية الكلدانية السريانية الآشورية نرى من حيث التشريع كرس لها، مثلاً، كوتا في البرلمان العراقي كوسيلة لضمان حقوق هذه الأقلية من خلال ممثليها ولكن في الحقيقة والواقع يظهربأن القائمين على الحكم يعطون لهولاء الممثلين أذان طرشاء وبالتالي تذهب جهودهم هباءاً ويفرغ مضمون الكوتا من أساسه ويصبح وضع هؤلاء الممثلين "ديكوراً" في البرلمان يستغل الطائفيون المهيمنون على الحكم وجودهم في البرلمان ليتغنوا بـ "ديموقراطيتهم" وضمان حقوق الأقليات العراقية. هذا ناهيك عن الممارسات والتغيير الديموغرافي الذي تماسه سلطات الحكم الحالي في المناطق التاريخية للكلدان السريان الآشوريين وعدم جديتهم في توفير الحماية الأمنية لأرواحهم وممتلكاتهم وكنائسهم، وهو سلوك وممارسات تنم بشكل فاضح عن عدم وجود نظام سياسي واضح قادر على خلق الضمانات القانونية والسياسية في حماية حقوق الأقلية الكلدانية السريانية الآشورية وتطبيقها أثناء الممارسة السياسية كاشفاً بذلك المضمون الحقيقي للحكم الشيزوفريني الذي وضعه في حالة من التناقض بين ممارساته الطائفية وزعمه بالديموقراطية والتعددية. على هذا الأساس نقول بأن معظم السياسات الديموقراطية في شكلها والشيزوفرنية في مضمونها التي يمارسها الحكم الحالي في العراق تجاه الكدان السريان الآشوريين غير قادرة على إقناعهم بجديتها في معالجة وضعهم المأساوي الذي ورثوه من النظام البعثي الإستبدادي والأنظمة التي سبقته وإزالة مخاوفهم من التحديات التي تهدد وجودهم التاريخي في أرض أباؤهم وأجدادهم.

حقوق الأقلية الكلدانية السريانية الآشورية في قرارت حزب البعث:

كما سبق وأن بينا في أعلاه بأن حزب البعث في العراق أصدر قرارين مهمين فيما يخص الأقلية القومية الكلدانية السريانية الآشورية وهما قرار خاص بهم بمنح الحقوق الثقافية لهم وقرار عام يخص جميع الأقليات القومية في العراق وهو قرار إعادة تخطيط الحدود داخل الوحدات الإدارية للمحافظات، وندرج في أدناه القرارين كمدخل لفهمها وبيان المقارنة مع الحكم الحالي ومدى إمكانية تطبيق مثل هذه القرارات في الوضع الحالي للعراق، بإعتبارهما تشريعات مناسبة لضمان حقوق الأقليات في العراق.

1 - قرار منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية من (الآثوريين والكلدان والسريان):

أصدر مجلس قيادة الثورة القرار رقم 251  وبتاريخ 1971.04.16 القاضي بمنح الحقوق الثقافية للمواطنين الناطقين باللغة السريانية من (الآثوريين والكلدان والسريان) وفي مايلي نص القرار:

تعتبر ثورة السابع عشر من تموز التي تلتزم بمبادئ حزب البعث العربي الإشتراكي أن تمكين الجماهير من ممارسة حقوقها الديموقراطية هو التجسيد الثابت لمنطقلاتها وإسترشادها بمبادئ الحزب وأهدافه، ولذلك فالثورة تؤمن بأن ممارسة الأقليات القومية الموجودة داخل القطر العراقي لحقوقها الثقافية هي التعبير عن النهج الديموقراطي لالتزامها العميق بمبدأ التآخي القومي والوحدة الوطنية. إن الحفاظ على الخصاص القومية لهذه الأقليات وحماية تقاليدها وتراثها الشعبي والإنساني، وتطوير ثقافتها وآدابها في إتجاه تقدمي، وتوفير الشروط الضامنة لنهوض جماهيرها، هي التعبير عن الحرص على زيادة مساهمتها في بناء هذا الوطن وتقرير مسيرته التقدمية في تمتين الوحدة الوطنية والكفاحية بين أبنائه وتوطيد روابط الأخاء بين جماهير الشعب في القطر، وإرساء العلاقة بين المواطنين على إختلاف إنتماءاتهم القومية على أسس ديموقراطية متينة، وتنفيذا لقرارات المؤتمر القطري السابع لحزب البعث العربي الإشتراكي في ضرورة تمكين الأقليات القومية من ممارسة حقوقها المشروعة.

قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 1972.04.16 مايلي:

1 – منح الحقوق الثقافية للمواطنين الناطقين باللغة السريانية من (الآثوريين والكلدان والسريان) ووفقاً لما يلي:

أ - تكون اللغة السريانية لغة التعليم في كافة المدارس الإبتدائية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بهذه اللغة، ويعتبر تعليم اللغة العربية إلزامياً في هذه المدارس.

ب - تدرس اللغة السريانية في المدارس المتوسطة والثانوية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بهذه اللغة، وتعتبر اللغة العربية لغة التعليم في هذه المدارس.

ج - تدرس اللغة السريانية في كلية الآداب بجامعة بغداد كإحدى اللغات القديمة.

د -إستحداث برامج خاصة باللغة السريانية في إذاعة الجمهورية العراقية ومحطتي بلفزيون كركوك ونينوى.

هـ -إصدار مجلة شهرية باللغة السريانية من قبل وزارة الإعلام.

و - إنشاء جمعية للأدباء والكتاب الناطقين باللغة السريانية وضمان تمثيلهم في الإتحادات والجمعيات الأدبية والثقافية في القطر.

ر – مساعدة المؤلفين والكتاب والمترجمين الناطقين باللغة السريانية مادياً ومعنوياً ونشر إنتاجهم الثقافي والأدبي.

ز – تمكين المواطنين الناطقين بالسريانية من فتح النوادي الثقافية والفنية وتشكيل الفرق الفنية والمسرحية لإحياء التراث والفنون الشعبية وتطويرها.

2 – ينفذ هذا القرار من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية ويتولى الوزراء تنفيذ أحكامه.

يعتبر هذا القرار من أكثر القرارات التي أصدرها حزب البعث الحاكم في العراق منطقية من حيث إمكانية تطبيق النصوص الواردة فيه في مقارنتها مع غيرها من القرارات التي أصدرها بشأن الأقليات. وربما أكتسب هذا القرار هذه الصفة بسبب كونه بالأساس لا يتعلق بالسياسة بشكل مباشر، أو لا تترتب عليه نتائج سياسية من جهة، ولتلاؤمه مع الظروف الخاصة لهذه الأقلية وأمكانياتها الثقافية والفكرية وشموله لجميع تسمياتها الحضارية من جهة أخرى. والأهم من هذا نرى القرار يعطي في مقدمته الصفة القومية لهذه الأقلية. غير أن هذا لا ينفي إطلاقاً المغزى السياسي لحزب البعث من وراء إصدار هذا القرار لتحقيق أهداف سياسية تصب في نهاية المطاف إلى كسب ود وتعاطف هذه الأقلية القومية وزوجها في معركته ضد الحركة الكوردية أو تقليص شعبية الحزب الشيوعي العراقي بين مثقفي الأقلية الكلدانية السريانية الآشورية كما سبق وأن شرحنا ذلك بالتفصيل في مناسبة سابقة. ولكن مع هذا لم يكن مغزى حزب البعث الإستبدادي من وراء صدورهذا القرار عائقاً من نقله بفضل جهود ومثابرة بعض مثقفي الكلدان السريان الآشوريين من مجرد نصوص قانونية إلى الواقع التطبيقي الفعلي لبعض جوانبه كتشكيل المجمع اللغة السريانية وإتحاد الإدباء والكتاب الناطقين بالسريانية والجمعية الثقافية وجمعية الفنون وتأسيس عدد كبير من الأندية الإجتماعية وصدور مجلات مثل مجلتي المثقف الآشوري وقالا سوريايا. أما الجوانب الأخرى لهذه الحقوق فإنها لم تتجاوز أكثر من نطاق نصوصها المدونة على الورق. غير أن القرار مأخوذاً بنصه الكامل، يعتبر نموذجاً ممتازاً في تناول مسألة الحقوق الثقافية للكلدان السريان الآشوريين، ولكن العبرة تبقى وعلى الدوام في التطبيق وليس في النص، والذي لم يكن لحزب البعث الحاكم أن يسمح بخروج هذا التطبيق عن نطاق سياسيته الهادفة من وراء إصدار القرار. فعندما حقق نظام البعث أهدافه من إصدار هذا القرار بادر إلى إنهاء وجود هذه المؤسسات التي أسست بموجب القرار سواء بدمجها مع غيرها من المؤسسات والجمعيات الرسمية أو بإلغائها.

 

2 - قرار إعادة تخطيط الحدود داخل الوحدات الإدارية للمحافظات:

إستناذا إلى أحكام الفقرة "أ" من المادة الثانية والأربعين من الدستور المؤقت، وبناء على إقتراح رئيس الجمهورية، قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 1972.09.31 مايلي:

1.    يصار، على ضوء المصلحة العامة، إلى إعادة تخطيط الحدود داخل الوحدات الإدارية أو في ما بين الوحدات المتجاورة في الأماكن التي تقطنها الأقليات القومية العراقية، بما يضمن تجمع أبناء كل أقلية قومية في وحدة أو وحدات إدارية تخصص لهم داخل الوحدة الإدارية، أو من بين الوحدات الإدارية المتجاورة.

2.    تراعى في الوحدات الإدارية التي ستأخذ طابع إحدى الأقليات القومية تبعاً لأحكام الفقرة الأولى من هذا القرار، الحقوق والضمانات التالية:

أ – شملها بنظام المجالس الشعبية وتشكيل هذه المجالس فيها وفق الأحكام المرعية الإجراء في هذا الشأن.

ب – إنشاء فروع أو مكاتب أو مراكز فيها، حسب الحال، لمختلف المنظمات الشعبية والمهنية على أن يراعى الطابع القومي لأبناء الوحدة في تشكيل أجهزة إدارة الفروع أو المكاتب أو المراكز المذكورة.

ج – إعطاء الأفضلية لأبناء الوحدات الإدارية المذكورة، عند تساوي الشروط القانونية، في جميع التشكيلات والتعيينات الحكومية، الإدارية والبلدية، التي تجري داخل هذه الوحدات.

د – تأمين الظروف اللازمة للتطور المناسب بين كافة الوحدات الإدارية بعد التعديل الجديد.

 

3.    تستفيد الوحدات الإدارية المختلفة التي يتعذر وضعها الراهن، من الحقوق والأفضليات التمثيلية والإدارية المنصوص عليها في هذا القرار على أن تراعي في تطبيق حقوق الأفضليات المذكورة النسبة التعددية لأبناء كل من الأقليات القومية القاطنة في هذه الوحدات.

4.    تتخذ جميع الإجراءات اللازمة لمعالجة مشكلة أبناء الأقليات القومية الذين نزحوا من بيوتهم وقراهم بسبب حوادث الشمال في الأعوام السابقة للثورة، والذين تعذرت، أو تتعذر إعادتهم إلى أماكنهم السابقة، وذلك بالعمل على مساعدتهم في تأمين الأراضي والبيوت لهم في الوحدات الإدارية التي يقطنها أبناء قوميتهم وتسهيل نقلهم وإسكانهم في هذه الوحدات.

5.    يخول وزير الداخلية الصلاحيات اللازمة لدارسة وتنفيذ أحكام الفقرة الأولى من هذا القرار.

6.    ينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية ويتولى الوزراء تنفيذ أحكامه.

أحمد حسن البكر

رئيس مجلس قيادة الثورة

الواضح في هذا القرار صفتة المثالية بحيث يمكن القول، وهذا ما حدث فعلاً، بأن تطبيقه على أرض الواقع كان صعباً جداً إن لم يكن محالاً وذلك بسبب التعقيدات الديموغرافية التي كانت سائدة في مناطق سكن الأقليات العراقية خاصة في المنطقة الشمالية وتحديداً محافظات كركوك وأربيل ودهوك والموصل حيث تتداخل المناطق الكلدانية السريانية الآشورية مع غيرها من الأقليات الكوردية والتركمانية والشبك واليزيدية. ولكن من جانب آخر كان من الممكن تطبيق هذا القرار لو وفرت له الأجواء المناسبة لتطبيقه كتوفيرالجهود السياسية والإمكانيات المادية والمعنوية مع وجود النية الحسنة من إصدار القرار وتطبيقه. غير أن مقصد نظام البعث من إصدار هذا القرار لم يكن إلا لغرض تحقيق مآربه الإستبدادية تجاه الأقليات القومية خاصة فيما يتعلق بالتلاعب بالمناطق السكنية التي من الممكن أن تخضع للحكم الذاتي لمنطقة كردستان لهذا نرى بأنه عمل بشكل فاضح بعكس هذا القرار تماماً حيث هجر المئات من العوائل الكوردية والتركمانية من محافظة كركوك وأسكن عوضاً عنهم بعض العشائر العربية كما تلاعب النظام بالحدود الإدارية للكثير من الوحدات الإدارية في المحافظات الشمالية لغرض تضيق الخناق على الأقليات القومية في هذه المحافظات، لا بل والأكثر إستبداداً وظلما كان عندما دمر البنى التحتية للكثير من القرى الكلدانية السريانية الآشورية وهجر سكانهم من قراهم بحجة كونها ضمن المناطق الحدودية المعرضة لخطر الحرب في المنطقة الشمالية وأسكنهم في مجمعات سكنية أشبه ما تكون بمخيمات احتجاز أسرى الحرب. هكذا يمكن القول بأن النظام البعثي في العراق أصدر قرارات مثالية تعتبر من حيث التشريع مناسبة في حماية حقوق الكلدان السريان الآشوريين ولكن في الواقع عمل بعكسها تماماً بهدف تدمير الأسس القومية لهذه الأقلية ودمجها عنوة في القومية العربية.

إمكانية تطبيق القرارات الخاصة بالحقوق القومية الكلدانية السريانية الآشورية: 

حسب الدستور العراقي المؤقت الذي أصدره حزب البعث في عام 1970 كان يحق لمجلس قيادة الثورة وحسب الفقرة (أ) من المادة 42 أن يصدر قرارات لها قوة القانون وهناك العشرات بل المئات من القوانين والقرارات التي أصدرها نظام حزب البعث في العراق وهي لازالت نافذة ومطبقة حتى يومنا هذا. فزوال نظام البعث في العراق لا يعني زوال القوانين والقرارات الملزمة أو إلغائها إلا إذا صرح بذلك علناً من قبل السلطات الرسمية للحكم الحالي في العراق بإلغاء قانون معين او تعديله. والحال هكذا مع القرارين أعلاه فطالما لم تلغى بقرار أو قانون آخر من قبل السلطات الحالية في العراق فهذا معناه بأنهما لايزال سريانهما نافذاً وقابلة للتطبيق. وإصدار القوانين أو القرارات الملزمة يستوجب توافر (1) السلطة التشريعية لإصدار القانون أو القرار الملزم و (2) السلطة التنفيذية لتنفيذ القانون أو القرار و (3) الأهم من كل هذا هو توفر النية الحسنة عند الحكام والإيمان في تطبيق القانون أو القرار فبدون هذا النية الحسنة والإيمان لايمكن للقانون أو القرار أن يرى النور بل ربما قد يفسر ويستخدم لإغراض غير التي صدر من أجله، هكذا كان الحال مع نظام حزب البعث في إصدار القرارين أعلاه. وإذا كان القراران أعلاه لم يلغيا بعد، إذن فمن الممكن تطبيقهما في الوضع الحالي فيما إذا توفرت النية الحسنة والإيمان بحق الأقليات القومية في التمتع بحقوقها المشروعة من لدن القوى المهيمنة على السلطة السياسية في عراق اليوم.

يروى، والعهد على الراوي، بأنه عندما صدر قانون الإصلاح الزراعي في العراق بعد إنقلاب عام 1958 وأستولت الحكومة على أراضي الطبقة الإقطاعية ووزعتها على الفلاحين تراجعت الزراعة في العراق تراجعاً مخيفاً رغم تملك الفلاحين للأرض ومنحهم الكثير من التسهيلات والإمتيازات مما أضطرت الحكومة العراقية إلى إستدعاء خبراء من الإتحاد السوفياتي لدراسة أسباب هذا التراجع. فبعد دراسة مستفيضة من قبل الخبراء السوفيات، سألوا الحكومة العراقية عن المالك السابق للأراضي فقالت الحكومة: الإقطاعيون... فقال الخبراء السوفيات إذن أحسن حل لكي ترجع الزراعة في العراق إلى سابق عهدها المزدهر عليكم أعادة الأراضي إلى الإقطاعيين!!. هكذا نقول فإذا كانت القوى السياسية المهيمنة على السلطة في العراق عاجزة عن أصدار مثل القرارين أعلاه فعليهم الرجوع إلى هذه القرارين وتفعيلهما وإظهار نيتهم الحسنة في تطبيقهما وأن كان مثل هذا الطلب صعب الحصول عليه من قوى لا تؤمن إلا بطائفتها وتعمل من أجلها وضمن نظامها السياسي الطائفي فعلى ممثلي أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية الدخول في المعركة مع هذه القوى لإستحصال حق هذه الأقلية في التمتع بالحقوق التي يوفرها القرارين أعلاه.

فبالنسبة للقرار الخاص بمنح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية، نرى بأن هناك بنود قد طبقت منها في منطقة الحكم الذاتي لكردستان العراق، لا بل فإن تأسيس المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية وإنشاء قسم للتعليم اللغة السريانية في الجامعة وأيضا مديرية التعليم السرياني كلها مؤشرات جيدة في هذا المجال ولكن الأمر يبقى غائباً نهائياً في المناطق الخارجة عن حدود الحكم الذاتي لكردستان العراق ولعل أهم شيء تفتقر هذه الأقلية صاحبة أرقى لغة في التاريخ هو إنشاء مجمع علمي للغة السريانية وهذا واجب مفروض على اللغويين والأدباء المعروفين في حقل اللغة السريانية من أبناء أمتنا للمبادرة بهذه الفكرة، وهو السبيل الوحيد لتطوير اللغة السريانية ومواكبة عصر التطور الذي نشهده.

أما القرار الخاص بإعادة تخطيط الحدود داخل الوحدات الإدارية للمحافظات فتطبيقه له أهمية قصوى خاصة في هذه الأيام التي يدور فيها الحديث عن إنشاء محافظة سهل نينوى أو غيرها من الوحدات الإدارية في المناطق التي تتواجد فيها الأقليات منهم الكلدان السريان الآشوريين، فبدون توفر العامل الجغرافي مع العامل الديموغرافي لا يمكن للأقلية أن تمارس حقوقها سواء أكانت ثقافية أم سياسية أم إدارية. وإمكانية تطبيق مثل هذا القرار ممكنة جداً خاصة في المناطق الشمالية من العراق حيث هناك وحدات إدارية للكلدان السريان الآشوريين يمكن أعادة تخطيط حدودها لتشمل وحدات إدارية أخرى لهم بحيث يشكلون وحدة أو وحدات إدارية ذات تجمع أكبر من أبناء هذه الأقلية حتى يمكن تطبيق حقوقها السياسية والإدارية والثقافية ضمن هذه الوحدات الخاصة بهم، هذا إذا توفرت النية الحسنة والإيمان الحقيقي للحكومة الإقليمية في كردستان العراق بحقوق الكلدان السريان الآشوريين وتفعيل المواد الخاصة بهذه الحقوق في دستور الإقليم... وهي جبهة نضالية صعبة فعلى القوى السياسية لأبناء أمتنا من الكلدان السريان الآشوريين وممثليها في الهيئات البرلمانية والحكومية أن تخوضها للحصول على حقوق أمتنا المشروعة في أرض الأباء والأجداد،  كما هو مطلوب من القوى الكوردية والسلطات الرسمية في منطقة الحكم الذاتي أن تظهر نواياها الحسنة في هذا المجال لكي تنال مصداقيتها عند أبناء امتنا وتثبت ديمقراطيتها