مشاهد وانطباعات رائعة عن حضارة النهرين في ملبورن

 

                                            

                                                      

                                                                

                                                         بدران امريا

        

                في الخامس عشر من حزيران الجاري 2012 توجهنا طلبة الصف الرابع اللغة الانكليزية بمعهد كنكان برفقة الأستاذ كيم والست الفيرا , والطلبة كانوا ( وليد – جيمس – سميرة – مها – سناء – ساندرا – بدران ) من أبناء شعبنا الكلدو آشوري السرياني والأخت رشا عراقية من مدينة البصرة الفيحاء ,  والأخوات  ( كولشن ميرفي – اكين ) من أصول تركيا , والأخ مسعود من أصل إيراني فكان الكل زملاء متفهمين يكنون الاحترام والتقدير العاليين للأخر والأخ جيمس زيزا مشكورا كان بمثابة المحرك الفعلي باتجاه إقامة هذه الرحلة  بمناسبة انتهاء الموسم الدراسي

 

فكانت وجهة السفرة مكان رائع وبامتياز وهو متحف ملبورن بولاية فيكتوريا الاسترالية ,والذي ضم مكنونات حضارة مابين النهرين درة الحضارة العالمية ,الحضارة التي أبهرت الشرق والغرب معا , والتي جلبت من متحف لندن لتكون في متناول مشاهدات الزوار الاستراليين بكل موزائيكهم العرقي والديني والطائفي . في الحقيقة الأمر إن هذه الخطوة الرائعة اختصرت المسافات والتكلفة المالية وعناء رحلة السفر الشاقة للاستراليين محبي ورواد الآثار والمتاحف إلى بريطانيا .وفي المقابل طارا الثور المجنح ( لاما سو ) بأجنحته القوية  والنسر الآشوري  ( نشرا داثور) حاملين آثار الحضارة النهرينية على جناحيهما قاطعين البحار والمحيطات  إلى ارض الجنوب المجهولة ( استراليا ) . فكانت بداية رحلتنا  الطلابية التجمع في محطة قطار بروميدوس وتوجهنا معا إلى  مركز المدينة حيث وجود المتحف وخلال الرحلة كانت الأحاديث الشيقة والمسامرات اللطيفة بين الزملاء فكانت أحيانا تعلو قهقهات الضحك بين الزملاء الزميلات . وخلال وقفات محطات القطار انضمتا ألينا الزميلتين سميرة القصراني وكولشن . ثم انضم ألينا أيضا الزميل مسعود في محطة ( كلين روي ) وصار بنا القطار إلى حيث انتهاء الرحلة فقادنا الأخ جيمس وهو الأعلم بالطرق إلى المتحف لينضم ألينا الأستاذين الفاضلين ( كيم والفيرا ) فقام الأستاذ كيم  مشكورا بترتيب المجريات الروتينية للزيارة مع طاقم المتحف .فكنت أنا شخصيا متلهف جدا لهذه الزيارة الميمونة سيما إنها بخصوص حضارتنا العريقة وهويتنا النهرينية العتيدة. ففي البداية ولدى المدخل الرئيسي استوقفتنا  بعض الجداريات التراثية كبرج بابل وامتداده  العالي نحو عنان السماء حيث اكتشف أجدادنا  العظام من فوقه الإجرام السماوية  وسموا الأسماء بمسمياتها ,وقسموا الزمن منطلقين من السنة وتفاصيلها ألاثني عشر شهرا منتهين بالثواني ( ربابي ) . فكانت الطلة الأولى للمتحف حضارتنا السومرية  4000 – 3000 ق.م التي ظهرت في الإلف الخامس قبل الميلاد, وعاصمتها اور العظيمة  بفجر عصر سلالات المدن السومرية ( كيش- لكش -اوراك – نيبور- سبار - اريدو – نفر- اشنونا – اوما -  اداب – ايسن – لارسا ) , فكانت مشاهدات حية لا توصف فيها الأحاسيس الجياشة  يتناثر منها عبق البخور الطيبة لمعابد هذه المدن السومرية ولسبعة آلاف سنة , حيث جذبتنا زقورة أور  بأدراجها العديدة حيث مجموعة من الكهنة يقصدون الطابق العلوي ليؤدوا مراسيم الصلاة ,فمرينا بالأختام السومرية الدائرية والاسطوانية  الرائعة والمنقوشة بأدق التفاصيل  معكسة الخط المسماري ( صصايا ) ورسومات رائعة الدقة لمختلف شؤون وشجون الحياة  السومرية ونماذج من الألواح الطينية التي تضم اتفاقيات سياسية عقود تجارية وزواج وغيرها من المواقف الحياتية . حيث مرينا بملوك سومر من ايتانا - اور نانشه - لبت عشتار – اور نمو – شولكي – امارسن – اورز بابا – انميبراغيس – ميسانيبادا  اويناتوم – انتيمينا – لوكال زاكيزي -. ثم أخذنا الدرب إلى صالة الإمبراطورية الاكدية ( 2340 – 2150) ق .م  حيث الخوذة  البرونزية لموحد السلالات السومرية ومؤسس الدولة الاكدية اليتيم الذي صار ملكا سركون الاكدي (2334- 2279) ق.م  ( الملك الصادق )  التي وجدت في نينوى ,والتمثال النصفي له ,وابنه الأصغر ريموش ( هدية الإله ) ثم أخوه الأكبر منيشتوسو ( من معه ) ملك الجهات الأربعة , ثم نارامسين ( القمر العالي ) ذو القرنين . ثم اجتذبنا وأخذنا مشهد رائع الجمال حيث إحدى بوابات نينوى الخمسة عشر  (نركال ) مزينة بزوج من الثيران المجنحة ( لاماسو – شيذو ) حارسة المدن والقصور والهياكل في الإمبراطورية الآشورية العظيمة من الأرواح الشريرة رمز الجمال والقوة  والشجاعة والجنس , ترحب بالمارة وتحرسهم من العين الشريرة وقبل يومين من الرحلة كنت قد قدمت درسا عن الثور المجنح لزملائي في الصف المدرسي فتكونت لدى الزملاء فكرة عن المعاني والمدلولات  المثيولوجية والفلسفية عن (لماسو ) الثور المجنح احد أهم رموز حضارتنا الآشورية العملاقة مستعينا بعارض الصور لهذا الرمز الآشوري الخالد ,المتكون من رأس الإنسان الذي يرمز للذكاء  واللحية للحكمة والوقار , التاج رمز الملوكية  وفي بعض الثيران عليها ثلاثة حلقات أو قرون رامزة لثلاثة عناصر الطبيعة  الثالوث السومري الاكدي الآشوري المقدس ( انو السماء الهواء – انليل الأرض – أيا المياه )  أو حلقتين رامزة للخير والشر لنهري ( دجلة  دقلا النخيل - والفرات  من بريوثا الثراء ) جسم الثور رامزا لقوة الخصوبة العمل ووفرة اللحم , وجناحي النسر رمز المجد والسمو الملائكي والنسر ملك طيور السماء وذو البصر الثاقب,وجلد الحوت رمز العظمة  والعمق والسيطرة وملك المياه , وذيل الأسد ملك الغابة  ورمز القوة والسيطرة . وثيران زمن الملك سركون الثاني كانت بأربعة أرجل رمز الثبات والصلابة من المشهد الأمامي للثور ,وثيران عهد ابنه سنحا ريب  705 – 681 ق. م (  سين اخا ربا - اخو القمر الكبير ) بخمسة أرجل للدلالة على الحركة من مشهد جانبي  رمز التقدم والتطور الذي أحرزته الإمبراطورية  الآشورية في كل مناحي الحياة من الحضارة - العلم – الطب- الفلك الفلسفة- الهندسة المعمارية - فنون القتال – القانون-  الثقافة ( مكتبة آشور بابيبال 25 ألف رقيم طيني ) . وكان فوق بوابة نركال الشامخة اسم آشور أي  الجناح الآشوري فدخلنا إليه  ورجعت بي الذاكرة إلى الوراء ل (6762 ) سنة حيث طاف بي الخيال إلى مدينة آشور ( شورايا – أفق السماء البداية التي ليس لها نهاية ) حيث رأيت تمثال الإله القومي آشور الصياد رمز القوة والعدالة والخصوبة القرص المجنح بجماله البهي وهو يمد سهم قوسه نحو الأفق . ومشهد آشور ناصر بال الثاني 883- 859 ق.م صياد الأسود  ( صاد ما يقارب 200 أسد )وهو مشهد متحرك وحي فلم قصير, وهو قمة البداعة عندما نسمع صوت  زئير الأسود وصهيل الخيول  الرهوانة . وكيفية الإيقاع بالأسود . ثم مرينا بمشد للأختام الآشورية الجميلة , ومشهد حي آخر للدفاعات الآشورية ضد الأعداء القادمين عبر المياه وخرير المياه وأصوات رشقات الأسهم .ومشهد متحرك آخر يجسد سقوط نينوى عام 612  ق .م والدفاع المستميت للملك الآشوري الأخير ( سين شار اشكول ) حتى الموت عن نينوى العظيمة التي لا زالت قائمة خالدة حتى ألان بسهلها الأخضر سهل الحضارة  سهل نينوى , بقرانا ومدننا المنتشرة على طوله وعرضه رغم كيد الكائدين وشرور الحاقدين على أهله الاصلاء النجباء من أبناء شعبنا الكلدواشوريين السريان , وما تتعرض له الحبيبة برطلة ( وراء الظل  ) لتغيير ديموغرافيتها الأصيلة الآن. ونحن بطريقنا مرينا على لوحات أخاذة للملك أشور بانيبال  ( رمز العلم والاقتدار ) وهو يحمل وعاءا على رأسه . وقلائد وإكسسوارات نسائية ورجالية في غاية الجمال , وصورة للاثاري القدير المرحوم هرمز رسام الموصلي وهو من ابنا شعبنا ,والذي يعود له الفضل في اكتشاف مواقع أثرية مهمة  ومنها الثيران المجنحة في دور شروكين ( حصن سركون ) 1842م . ومجموعة من الملوك الآشوريين العظام من قائمة 116 ملكا حكموا هذه الإمبراطورية العظيمة والملك كلكامش وهو يحمل شبل أسد ,ولوح آشوري من الحجر الأسود مكتوب عليه بالخط المسماري , وفي الجانب الأخر جندي آشوري صنديد يحمل رمحه ويقف قبالة ملك آشوري . وفي أعلى اللوح علمنا القومي  قرص الشمس والنجمة الرباعية تمثل  الجهات الأربعة للعالم حيث امتدت السيطرة الآشورية ,وأشعة الشمس المتكونة من الأحمر رمز الحب والحرب والاقتدار , والأبيض رمز الطهارة والنقاء والسلام , والأزرق رمز الوفرة والعلم والحكمة , وقرص الملك سركون الاكدي النجمة الثمانية , والقمر ( سين ) , وتمثال الحاكم كوديا وهو يتربع على الأرض . ثم وجدنا أنفسنا أمام المسالة السوداء مسلة الملك المشرع حمو رابي التي كانت يوما  ما وسط مدينة بابل العظيمة ليطلع عامة الناس على شرائع هذا الملك البالغة بين 282 -300 قانون مسطرة بالخط المسماري  وفي الجانب العلوي صورة حمو رابي وهو يستلم القوانين والشرائع من الإله شمش .وبعد خطوات وجدنا أنفسنا أمام بوابة عظيمة وشامخة مزينة بحيوانات خرافية من كلا الجانبين زرقاء اللون وهي بوابة عشتار ( اله الحب والخصب والجمال عند  البابليين والاكديين والآشوريين ) ومرينا عبر البوابة لندخل حضارتنا البابلية العتيدة حيث يوجد أسد بابل وهو يزمجر ويقف صلبا أمام عاتيات الزمن , ولوحة مجسمة لمدينة بابل ( بوابه الإله )يظهر فيها شارع الموكب ومعابد ايساكلا واكيتو وبوسيبا , وجنائن بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع حيث الجمال والنقاء والبهاء . والملك العظيم نوخذنصر ( الإله نبو يحمي ذريتي ) (605 -563 )ق.م . كل هذا التجوال بصحبة الزملاء بين أروقة المتحف ,ونحن نسمع موسيقى نهرينية شجية وعذبة آتية من  نسمات قلب تلك الأحدث التاريخية التليدة .وبعدها دخلنا إلى المكان المخصص لبيع نسخ من الآثار والتحفيات النهرينية الجميلة فاشترت قطعتين تعودان للعصر الآشوري . استمرت الزيارة أكثر من ساعتين بعدها غادرنا صالات المتحف إلى المطعم الملحق فتناولنا وجبة غذاء خفيفة  مع المسمرات الشيقة بين الزملاء الزميلات  الأعزاء . فغادرنا بعد ذلك بناية المتحف , وودعنا الأستاذين كيم والفيرا هناك , والتقطنا بعض الصور التذكارية  الجماعية في الحدائق المجاورة للمتحف .حقيقة كان يوما رائعا بالنسبة لي شخصيا وهذا ما تلمسته من وجوه الأصدقاء أيضا  فقد سبحت ذاكرتي في تلك الآفاق التاريخية الحضارية لبلاد ما بين النهرين وتركت انطباعا حميما في مشاعري, واثر بالغا في خلجات نفسي , وهو الحب واللهفة والشوق والحنين إلى بلدي مابين النهرين مهد الحضارة الإنسانية . حقيقة كان ذلك اليوم مميز جدا في حياتي , ولا يمكن التعبير عما يجيش في أحاسيسي حيال تلك المشاهدات الرائعة . وإنها لفرصة ذهبية لجاليتنا العراقية عامة ,  ولشعبنا الكلدو آشوري السرياني زيارة هذا المتحف لتعريف الأجيال الناشئة و الصاعدة هنا  بتاريخها وحضارتها ورموزها وفنونها وشموخ ارثها الإنساني ,لان التراث هوية ومجد وعنوان ,وكما قالها فيلسوفنا القومي الشهير نعوم فائق ( كل امة تعرف بلغتها وثقافتها وفنونها ). واقتناء نسخ من آثارنا العتيدة , لتمدنا بشحنات من الصبر والأمل والفخر, لمواجهة الم ومرارة الغربة وتحديات هذا البعد الشاسع بين وطن الأم وارض الغربة . ومما يؤسف أنهم لا يسمحون بالتقاط الصورة داخل المتحف . الشكر كل الشكر للأخت العزيزة مها جبرو لهذه الصور الجميلة . بشولاما تودي ساكي .