حلبچة، مجزرة الأمس وجرائم اليوم فاعلهما واحد (فيديو مرفق)

 

 

 

                                                               

                                                             عبد الرحمن أبو عوف مصطفى

 

     كانت على موعد مع أعياد النوروز، منهمكة في إكتساء حلتها الخضراء يحدوها الأمل في إستنشاق نسائم الربيع الممتزجة بحبات الثلج المنبعثة من قمم الجبال البيضاء، فلم يكن يدور في خلد عروس المدن أن تخيّم سحب الموت الأسود في سمائها الزرقاء ويمتلأ جوفها بمئات الأطنان من غازات السارين وغاز الأعصاب والخردل.. ففي الحادية عشر والنصف من صباح السادس عشر من آذار 1988 إبتدأت رحلة الشهادة وقصة الإبادة التي لم تأخذ سوى عشرين دقيقة من وقت الطغاة ، لتضرّج أركان مدينة حلبچة بالدماء ولتزهق أرواح أطفالها وشيوخها وشبابها والنساء، في طقس جنائزي هو الأبشع والأكثر شناعة في طقوس الإبادة والفناء، فلا زالت جروح الجبال نازفة كنزف جراح المقابر الجماعية وأهوار الجنوب الفيحاء.

     حلبجة، المدينة الثكلى ليست قضية كردية أو عراقية وحسب، بل هي لحظة مفصلية في صفحات التاريخ وجرح نازف في عمق الضمير الإنساني كأي جريمة إنسانية أخرى تستحق من الجميع التوقف عند صفحاتها وقراءة سطورها في منتهى التأني وأعلى درجات الصدق مع النفس تخليدا للذكرى وإستقاءً للعبرة ، فهي كربلاء قد أعادت نفسها على قمم الجبال على أيدي الأمويين بلباس العفالقة، وهي مذابح الأرمن التي إقترفها العثمانيون بدم بارد، وهي صبرا وشاتيلا والأخريات من صفحات التاريخ السوداء التي إقترفها الصهاينة بحق الفلسطينيين.

    حيث وبعد أن تنفس التاريخ الإنساني برهة من الزمن أطلّ الحجّاج برأسه من جديد، فلم تشهد الإنسانية ومنذ الحرب العالمية الثانية نظاماَ سياسيا يستبيح أرواح ومقدرات شعب أعزل بالأسلحة الكيميائية في صفحة من صفحات الإبادة الجماعية لمدينة نأت بنفسها بعيدا عن المدن لم تكن تنازعه على السلطة بل هي النزعة المتأصلة في نفوس الأشرار للقتل والدمار حينما يتسلطون على رقاب بني البشر.

     نعم هي الدكتاتورية والسلطة المطلقة التي جعلت من نهجها السياسي وإنتمائها العرقي دين يُعبد، هي زمر الطيش البعثي في مسلسل القائد الأوحد، حيث أوعز رأس النظام لأعوانه وعلى رأسهم علي حسن المجيد مسؤول تنظيمات الشمال بالشروع في إبادة جماعية لمدينة بأكملها عبر إستخدام الأسلحة الكيميائية المحرّمة دوليا، ولم يألو أعوانه جهدا وسرعان ماتم التنفيذ على أكمل وجه في مشهد وحشي يفوق التصوّرات، فقد كان علي كيمياوي يتلذذ بالنظر الى مشاهد الموت عبر المناظير من على قمة جبل سيد صادق.. وقد نفّذ الرجل تهديداته التي أطلقها عبر مكالمة هاتفية التي قال فيها " راح أضربهم، راح أضربهم كيمياوي وأقتلهم كلهم.. الى نهاية المكالمة التي يؤكد فيها عدم خشيته من الموقف الدولي (الرابط أسفل المقال).. إضافة الى رابط آخر يؤكد فيه وزير الدفاع في حكومة البعث الساقط، المجرم المقبور عدنان خيرالله طلفاح في وصفه للحدث الإجرامي في مدينة حلبجة " إنهم لايوجد بينهم ثوار فالثوار لديهم مبادئ، وعندما سألتهم كم عدد الأكراد الذين ضربناهم بالعتاد الخاص (في إشارة الى السلاح الكيمياوي) هل خمسة أم عشرة آلاف أم عشرين ألف، نحن حصتنا مليوني كردي خيّر وهؤلاء المخربون العشرون ألف فليذهبوا بلاش لانريدهم، وليذهبوا الى حيث لارجعة، وما فعلناه عن قناعة وجدانية سيدي الرئيس (موجها كلامه الى المقبور صدام).. الرابط أسفل المقال.

     كان الصمت الدولي والعربي والإسلامي الذي أحاط بجريمة البعث كان قد أعطى صدام جرعة كبيرة من الإستفحال والتهور، ففعل بعدها مافعل من جرائم الأنفال والمقابر الجماعية وقمع الإنتفاضة وتجفيف الأهوار وقطع الرؤوس وغزو الكويت والإصرار على إركاع الشعب العراقي لسلطته الغاشمة. أما اليوم فقد تباينت ردود الأفعال لكنها من المؤكد أفضل بكثير مما سبق، فقد أحيت الأمم المتحدة ذكرى كارثة القصف الكيمياوي على مدينة حلبجة، في مراسيم خاصة جرت في المقر الرئيس للأمم المتحدة في مدينة نيويورك الأمريكية، وقد وجهت معظم الدول عبر سفاراتها بيانات العزاء لأسر الضحايا وتأكيد وقوفها الى جانب الشعب العراقي في تطلعاته لمستقبل أفضل، وكذلك معظم وسائل الإعلام العراقية ومناطق عديدة من العراق، ألا أن المتظاهرون من أجل الكرامة كما يدّعون لم يثأروا لكرامة حلبچة الشهيدة ولم يلفظوا حرفا واحد لتخليد الذكرى خشية جرح مشاعر البعثيين، وكذلك رفض رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي هو الآخر رغم الدعوة الموجهة له لم يشكل وفدا نيابيا للمشاركة ولم يعتذر أيضاً، رغم أن النائب بكر حمه صديق كان مخطئا عندما وجّه الدعوة للوجه الآخر للبعث رئيس البرلمان أسامة النجيفي، وكأن النائب (حمه صديق) قد نسى العبارات المكتوبة في مقابرالشهداء والتي تحرّم على البعثيين زيارة هذه البقعة المقدسة.

     أن لهذا الحدث الإجرامي دلالات عميقة لاتقترن بالماضي وحسب بل تشكل حصانة لمستقبل العراق فهو بحق يوم حداد للعراقيين جميعا ، خصوصا من إكتوى منهم بجحيم القمع الوحشي للبعث وذاق مرارة الدكتاتورية البغيضة التي تسلطت على رقاب الأبرياء عقود من الزمن. ومن يتجاهل (عن قصد) مقتل مدينة بأسرها لايمكن أن نتوقع منه أستنكار ما يجري اليوم من جرائم وحشية بحق الأبرياء في الأسواق والمواقع الحكومية ومراكز العبادة ، فإن ماجرى بالأمس ومايجري اليوم من إرهاب فاعلهما واحد.

 

مكالمة المقبور علي حسن المجيد يؤكد عزمه على إرتكاب المجزرة
http://www.youtube.com/watch?v=_yshcKWDCv0
إعتراف المجرم عدنان خيرالله طلفاح أمام الطاغية المقبور 
http://www.youtube.com/watch?v=hJYRxjGptko