الحسد

 

 

 

                                                     

 

 

 

                                           

                                                  لطيف ﭙـولا

 

كان الثور يجتر في ليل الشتاء البارد ما أزدرده من تبن خشن بعد عناء طويل في يوم شاق في الحقل، وعيناه تتقطران الحسد وهو ينظر بغيضٍ إلى صديقه الكلب الذي كان أهل الدار يدللونه ويدعونه ((بَلـَك)). إذ كان الثور يقول مع نفسه بحنق: أنا الذي أعمل وأكدح طوال النهار ولا أحد يحبني ويدللني من أهل هذه الدار كما يحبون ويدللون هذا الكلب الذي لا يعرف سوى النباح والعواء والتملق.
لا أسم لي غير ((الثور)) الكل يقول لي الثور! الثور!. ويضرب بي المثل في الغباء والرعونة والخشونة والشراهة. ماذا جرى لهذا القوم من البشر؟! وكان أجدادهم يعبدون أجدادي ويجعلون منهم آلهة وأوثان يسجد لها البشر. ورموز معظم آلهتهم كان ثوراً لقوته ولخصوبته مقارنةً بهذا الإنسان الضعيف الأناني المستبد القاسي والماكر. اليوم كل شيء تبدل تغيرت نظرته إلى الثور بعد ان استهلكنا كلياً وأصبح دورنا ثانوياً . ترى من الذي سقط الأنسان أم الثور؟ ونحن الثيران لم نتبدل , الانسان هو الذي يتغير ويتقلب باستمرار..
وفي أحد الأيام جاء سيد الدار من السوق. وركض الكلب مسرعاً نحوه وأنتصب على قدميه الخلفيتين واضعاً قدميه الأماميتين على منكبي سيده. وراح يلحس وجهه. وسيده يربت على ظهره ويفرك شعره ويدلعه ويناديه ((بـَلـَكو)) ! ((بلكو)) ! لقد أتيتُ لك بالعظام ! , ثم يمشي معه ويحضنه هذا ويدلعه الآخر. نهض الثور والحسد يقتله وبدأ يخور ويضرب الأرض بظلفه والجدار بقرونه وقال مع نفسه: الآن عرفتُ لماذا يحب سيدي كلبه ((بـَلـَك)) لأنه يبصبصُ ويلحسُ ويتملق. وحالما يرى سيده يقف على قدميه الخلفيتين ويحضنه ويلحسه لينال الحظوة عنده.. أجل, سأفعل مثله لعلني أُلفت انتباهه فيحبني.
خرج الثور من الحظيرة وراح يجري نحو سيده. أنتبه الرجل فأمتلكه الرعب والثور قادماً نحوه. حاول أن يولي الأدبار. إلا أن الثور لم يمهله ليفكر بالنجاة. فلم يرَ إلا والثور كجبل شاهق واقفاً على قدميه الخلفيتين واضعاً صاحبه الرجل بين قدميه الأماميتين, مقلدا الكلب ! . استطاع الرجل أن يطلق صرخة أو صرختين طالباً النجدة ! ثم سقط على الأرض مغشياً والثور من فوقه يلحس وجهه بلسانه الطويل والخشن كمبرد يمرره على خشب صقيل ! . سمع أهل الدار الصراخ وهم لا يصدقون أعينهم بما يجري. فانتفضوا جميعاً ومعهم أهل المحلة. وإذا بالهراوات تنهال كالمطر على رأس الثور ليحرروا الرجل الواقع تحته . حتى انهارت قوى الثور من الضرب على رأسه بالهراوات وسقط على الأرض مضرجاً بدمائه. وسمع الكلب ((بـَلـَك)) أحدهم ينادي: هاتوا القصاب! هاتوا القصاب ليقطع رأس هذا الثور المجنون قبل أن ينهض!!.
عرف الكلب ((بـَلـَك)) أن صاحبه الثور هالك لا محالة نتيجة رعونته.
جاء ((بَـلَـك)) ووقف على رأس الثور وهو ينزف دماً من أثر الهراوات, فانحنى وهمس بأذن صاحبه الثور عـلَّـه يسمعه : أتسمع يا ثور ! يا صاحبي ؟! أتدري من سيأتي بعد قليل؟
فتح الثور عينيه المغرورقتين بالدم , وقال وهو يلهث : أجل يا بَـلَـك. وأنت السبب. لقد قتلتني ! …
قال ((بلَـك)):- كلا يا صاحبي! , حسدك هو الذي قتلك.. وراح الكلب ينشد له :

حسدُ الحاسـدِ وَبالْ والمحسـودُ لا يبـالْ
والحاسـد يُحتقــر وللصابــر جـلالْ
يدُ الحاسـدِ ترمـي على راميها النبــالْ
وسهــام الخـداعِ لا تصــلح للقتـالْ
والـزارعُ كالـزرعِ أعمالـه في الغِـلالْ
إذا زرعَ ســـوءاً سـوءاً يطعم العيـالْ
وإذا أصطـفى القمحُ أزدهـت له الامـالْ
للطيبيــن الخيـرُ وللمسـيء الضَـلالْ
للحاســدِ خيبــةُ للفســاد والنِكــالْ
الحاسـدُ وسط النار والمحسودُ في الظـِلالْ