( سلسلة مقالات فكرية )

 

حول علمانية الحركة الديمقراطية الأشورية وأسسها الفلسفية

 

                     

                                                                                      

   هرمز طيرو                        

                               

                                         ( الجزء الخامس )

 

                                                          طبيعة المعرفة الأخلاقية                                                            

        فيما سبق وتحديداً في الجزء الرابع من هذه السلسلة من المقالات ، تناولنا طبيعة المعرفة العلمية وتطرقنا فيها إلى طبيعة  القضايا التي تشكل موضوعات ممكنة لهذه المعرفة ، وأهم هذه القضايا التي وصفناها بأنها من الأغراض الأساسية للمعرفة العلمية وهي :

اولاً : الوصف .

ثانياً : التفسير .

ثالثاً : التنبؤ .

 

    وقد وجدنا بأن القضايا التي بواسطتها تتحقق هذه الأغراض ، هي قضايا ذات طبيعة جائزة منطقياً . إذن ، هل ينطبق التحليل نفسه الذي توصلنا إليه على المعرفة الأخلاقية مثلما ينطبق على المعرفة العملية ، وذلك بأعتبار أن المعرفة الأخلاقية تشكل الشق الثاني الأساسي للمعرفة العملية ؟ إن الجواب بالتأكيد يجب أن يكون بالايجاب ، وذلك من وجهة نظر من يتبنى المذهب الطبيعي ( 1 ) في الأخلاق ، لأن المذهب الطبيعي يرد الأخلاق إلى فرع من فروع العلم ( العلم الأجتماعي ) على وجه التحديد ، لذا فأنه من الطبيعي أن ينظر إلى الأغراض الأساسية للأخلاق على أنها هي هي الأغراض الأساسية لكل أنواع المعرفة العملية ، وكذلك أن ينظر إلى القضايا الأخلاقية على أن لها الطبيعة المنطقية نفسها التي يمكن أسنادها إلى القضايا العلمية ، وهذا يعني بشكل مباشر أو غير مباشر على أن ما ينطبق على المعرفة الأخلاقية من ناحية علاقتها بالمعرفة الدينية ، هو كذلك ما ينطبق على المعرفة الفيزيائية أو الأجتماعية أو السيكولوجية لجهة علاقتها بالمعرفة الدينية .

 

أن جميع هذه التحليلات والملاحظات تنقلنا ( وبعد أن أوضحنا في المقالات السابقة ماهية طبيعة المعرفة الدينية وماهية طبيعة المعرفة العملية وكشفنا عن المكونات الأساسية لكل منهما ) الأن إلى معالجة السؤالين التاليين :

الأول هل تجد المعرفة العملية بجميع مكوناتها أساسها الأخير في المعرفة الدينية .

الثاني : هل أن الإنسان وبغض النظر عن ظروفه من الناحيتين ( الزمان والمكان) وكذلك بغض النظر عن وعيه وتطور قواه العقلية ، ليس في وضع يسمح له بأن يعرف كيف ينظم ويدير شؤونه الدنيوية ولأي هدف وغاية إلا بوجود المعرفة الدينية ، وبعد أن يعرف شيئاً عن مقاصد وأفعال وطبيعة هذه المعرفة .

 

للإجابه على السؤال الأخير ، فإننا بحاجة إلى معالجة حالتين مهمتين : الحالة الأولى وهي الحالة المتعلقة بإمكان اشتقاقنا المعرفة العملية من المعرفة الدينية ، وأذا تبين أنه لا موانع تحول من حيث المبدأ دون اشتقاقنا المعرفة العلمية من المعرفة الدينية ، يبقى في هذه الحالة أن نعالج السؤال المتعلق بما أذا كانت المعرفة الدينية ضرورية للمعرفة العملية أم لا . إن معالجتنا لهذا السؤال تنقلنا إلى معالجة مسألة اخرى والتي تتعلق بإمكان الوصول إلى معرفة عملية بدون اللجوء إلى معطيات دينية ومن أي نوع كان ، وأذا تبين ومن خلال معالجة المسألة الأولى ، بأن هناك موانع منطقية تحول دون اشتقاق المعرفة العملية من المعرفة الدينية ، فهذا بحد ذاته يثبت الاستقلالية الضرورية للمعرفة العملية عن المعرفة الدينية ، ففي هذه الحالة ليس تمة حاجة لمعالجة المسألة الثانية ، لأن المسألة الثانية لا تنشأ إلا إذ تبين لنا أنه بالإمكان اشتقاق نتائج عملية من معطيات دينية .

 

أذن ومن الطبيعي أن نبدأ اولاً بمعالجة المسألة الاولى ، غير أن هذه المسألة وإن كانت معالجتها فيها نوع من التعقيد ، لإنها من جهة تتناول الشؤون المنطقية التي لها علاقة بقواعد وشروط الاستدلال المنطقي الصحيح ، ومن جهة أخرى تقودنا إلى معالجة العلاقة المنطقية بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية من مختلف الجهات والأراء . فكما رأينا في الأجزاء السابقة من هذه المقالات ، فإنه لا يوجد اتفاق حول كيفية تأويل الطبيعة المنطقية للقضايا الدينية التي تشكل موضوعات المعرفة الدينية . وفي هذه الحالة ، فإن ما يصح قوله بخصوص العلاقة المنطقية بين المعرفة الدينية والمعرفة العملية ، من منظور تأويل معين لطبيعة القضايا الدينية ، قد لا يصح قوله بخصوص هذه العلاقة من منظور تأويل أخر لطبيعة هذه القضايا . من هنا نتوصل إلى السؤال التالي الذي يطرح نفسه : هل يمكن للدين منطقياً أن ينقل لنا هذه المعرفة ؟ ، قد يبدو الجواب للوهلة الأولى هو بالنفي على أساس أن الدين لا يمكن أن ينقل لنا هذه النوع من المعرفة ، إلا أن الدين يدرك مسبقاً على أن هناك اعتبارات عقلانية لصالح نقل هذه المعرفة إلينا ، والتي تطغي على أية اعتبارات عقلانية قد توجد لصالح عدم امكانية القيام بذلك .

 

فما هو واضح من التحليل السابق ، فإن القضايا الدينية كما هي معطاة في الخطاب الديني ، لا يمكن أن تحتوي على المعرفة العلمية ، لأن الغرض من الدين ليس تفسير الواقع تفسيراً علمياً ، بل هو هداية الإنسان إلى الله ، وأذا صح أن هناك في بعض الكتب المقدسة معلومات ذات قيمة علمية ، فهذا لا يعني أن الكتاب المقدس يزودنا بمعرفة علمية ، لأن الدين أصلاً ليس تفكيرأ نسقياً في أي أمر من الأمور أو أي حقيقة من الحقائق . إن هذا هو غرض اللاهوت ( علم الكلام ) أو فلسفة الدين ، لكن اللاهوت أو الفلسفة في تحويلها الإعتقادات الدينية إلى نسق مترابط ، لا يمكن أن يكون غرضها الأساسي سوى تأويل الدين ميتافيزيقياً ، وكذلك أن تبين لنا كيف ينبغي أن نفهم على المستوى الميتافيزيقي أو المستوى الميتا – ديني ، ما هو معطي لنا في الخطاب الديني حول المسائل المتعلقة بطبيعة الدين وعلاقة الإنسان بالدين ، بينما المعرفة العلمية تعبر عن تفكير نسقي حول الواقع في حين أن القضايا الدينية ليست كذلك ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن القضايا الميتا – ديني ( أي على المستوى الخطاب اللاهوتي أو الفلسفي ) وأن جاءت في نسق ما ، فإنها سوف تظل مع ذلك غير متظمنة بحكم طبيعتها لأية معرفة علمية ، لأنها قضايا ذات طابع ميتافيزيقي ، ومن طبيعة القضايا الميتافيزيقية أنها لا يمكن أن تتعارض منطقياً مع قضايا من النوع غير الميتافيزيقي ( 2 ) فأن نقول مثلاً : إن للكون خالقاً هو كلي ( المعرفة – القدرة – الخير – الحظور ) وذو حرية كاملة وإلى أخره من هذه الصفات ، وأن تبين لنا بعد ذلك وبصورة منهجية ما هي نتائج أو المعطيات الميتافيزيقية لهذا القول هو أن تقول شيئاً قد يصدق أو لا يصدق ، بغض النظر عن طبيعة هذا الواقع كما تكشفها لنا المعرفة العلمية ، بمعنى أخر ، فإن هدف ما تقوله إن كان صادقاً لا يتأثر مطلقاً بما تكشفه عن الواقع . إن صدقه مضمون ، سواء كان واقعاً مادياً في طبيعته كالتي يقول العلم أنها له أم لم يكن كذلك ، وسواء كانت القوانين التي يخضع لها هذا الواقع هي القوانين التي يقول العلم إنه يخضع لها أم لم تكن كذلك . من هنا يتضح لنا وبشكل مطلق ، أنه لا يمكننا أن نشتق معرفة علمية لا من القضايا الدينية ( أي القضايا التي نجدها على المستوى الخطاب الديني ) ولا من القضايا الميتا – دينية ( أي التي نجدها على المستوى الخطاب اللاهوتي أو الفلسفي ) .

ولكن حتى لو أفترضنا جدلاً ، أنه يمكن لنا من اشتقاق معرفة علمية من القضايا الدينية ، فإن هذا لا يقربنا قيد أنملة من الأطروحة الأبيستمولوجية التي تقضي بحسبان المعرفة الدينية الأساس الأخير للمعرفة العلمية . وهنا يجب أن يكون واضحاً بأن المعرفة العلمية التي حصلنا عليها لحد الأن ، وهي بدون شك معرفة متقدمة جداً ، وأننا قد حصلنا عليها باستقلال تام عن المعرفة الدينية ، وهذا مؤشر قاطع على أن المعرفة العلمية حتى وأن حاولنا اشتقاقها بشكل جزئي أو كلي من المعرفة الدينية ، فأنها لا تجد أساسها النهائي في المعرفة الأخيرة . إن هذا لا يبدو للوهلة الأولى أنه ينطبق على الشق الثاني للمعرفة العلمية ( أي الشق المعياري ) وذلك لسبب بسيط هو أننا لسنا في وضع يسمح لنا بأن نقول بخصوص ما نمتلكه من المعرفة المعيارية المزعومة ، ما وجدناه أن بإمكاننا أن نقوله بدون شك بخصوص ما نمتلكه من المعرفة العلمية ، فالمشكلة الأساسية هنا هي ادعاءنا امتلاك معرفة معيارية بصورة مستقلة ، بعكس ادعاءنا امتلاك معرفة علمية بصورة مستقلة ، وهذا بحد ذاته يشكل موضوع تساؤل ليس فقط من قبل كتاب ومنظري الحركات المناهضة للعلمانية من داخل مجتمعاتنا أو من خارجه ، بل وحتى من قبل جزء كبير من مثقفين ومفكرين العلمانيين ، فإن بين الأخيرين عدداً لا يستهان بهم ينفون حتى إمكان وجود معرفة عقلية على المستوى المعياري ، بينما في المقابل يكاد يستحيل أن تجد شخصاً واحداً عاقلاً ينفي وجود أو إمكان وجود معرفة عقلية مستقلة على المستوى العلمي .

 

 

                               ( يتبع في الجزء السادس )

 

 

الهوامش :

 

(1 ) المذهب الطبيعي : وهو مذهب مادي وأصحابه يؤمنون بإنه لا وجود للقوى فوق الطبيعة ، لا وجود للأرواح أو المعجزات أو الوحي ، ولا خطة كونية تقف خلف الطبيعة ، والطبيعيون لا يتفقون بأن تكون الاديان هي مصدر الأخلاق ، بل ما ينشده الطبيعيون هو فهم افضل للأخلاق وتطويرها بأستخدام وسائل المعرفة الحديثة ( التجربة العقلانية والعلم ) . ومن اهم روادها قديماً الفلاسفة ديمقراطيس 460 – 370 ق . م ، وأبيقور 341 – 270 ق . م ، والفيلسوف الشاعر لوكريشيوس 99 – 54 ق . م . ومن روادها حديثاً الفيلسوف دينيس ديدرو والفيلسوف جان جاك روسو والكاتب أميل زولا ( في الادب ) . وقد أنشىء هولاء المذهب الطبيعي بالإستناد إلى فكرة أن الكون ( وكل ما فيه بما في ذلك الحياة ) جاء إلى الوجود بسبب تقلب كمي وتطور من خلال العمليات الطبيعية ، وكان الإدراك نتيجة لذلك التطور وليس سبباً له ، فكونت الطبيعة ذاتها بفضل عمليات طبيعية ، ومنها نشأة الحياة . ( المؤلف )

 

( 2 ) إن ما نقوله هنا يقوم على مبدأ عام مؤده أنه لا يمكن حصول تناقض إلا بين قضايا من النوع نفسه . وبناء على هذا المبدأ ، لا يمكن مثلاً أن يحصل تناقض بين قضية جغرافية وأخرى أخلاقية أو بين قضية من النوع العلمي وقضية من النوع غير العلمي . ( المؤلف ) .