أكاديميون وبرلمانيون

 

 

                                                     

                                         

                                  د.عبد الحسين شعبان

 

      أية علاقة يمكن أن تنشأ بين الأكاديميين والبرلمانيين؟ وكيف السبيل إلى تبادل الخبرة، ولا سيما لجهة توظيف الخبرة الأكاديمية بما يخدم العمل البرلماني، التشريعي والرقابي، فضلاً عن الخدمة العامة والتعبير عن مصالح الناس وتطلعاتهم؟

    كان ذلك محطّ نقاش معمّق وحوار مسؤول في ورشة عمل راقية نظّمتها “دار الخبرة العراقية” التي تضم أكاديميين ومتخصصين على درجة عالية من الكفاءة والخبرة ، وشارك فيها برلمانيون من شتى الاتجاهات والمشارب، بهدف تبادل وجهات النظر والخبرات للاستفادة القصوى من الدراسات و الأبحاث والتوجهات الأكاديمية في تطوير العمل البرلماني و وضع السياسات .

     ولعلّه السؤال الاستهلالي الذي ظلّ يتردد على ألسنة البرلمانيين والأكاديميين على حد سواء، واستحوذ على الكثير من المداخلات والآراء، بل إنه تصدّر ورشة العمل، التي رعتها جامعة ويستمنستر البريطانية وشارك في تنظيمها “منتدى البدائل المصري للتنمية” .

    وتفرّع عن هذا السؤال المحوري أسئلة كثيرة منها: هل إن البرلماني هو من سيسعى وراء أهل الخبرة، أو أن على الأكاديميين والاختصاصيين أخذ المبادرة؟ وقبل ذلك هل يمتلك البرلماني الخبرات الضرورية لإتمام عمله على أكمل وجه، أو أنه يشعر بالحاجة إلى طلب الخبرة؟ ومتى؟ وكيف يمكن الحصول عليها؟ ثم كيف يستطيع أن يوظفها؟ ويلحق ذلك سؤال مهم، ما المرجعية المتوافرة لتقديم الخبرة أو للحصول عليها؟

    تبقى هناك حساسية أحياناً لاعتبارات شخصية ووظيفية في ما يتعلق بموضوع الخبرة، فضلاً عن عدم وجود تقاليد لطلب الخبرة أو الاستفادة منها، ولهذا ينطرح السؤال بقوة: كيف السبيل لتجنب الحساسية، لا سيما أننا ليست لدينا ثقافة الاستشارة؟ علماً أن زاوية النظر إلى السياسي أو البرلماني أو صاحب القرار، تكون في الأغلب سياسية وتعتمد على منظوره الخاص، في حين أنه يحتاج إلى الخبرة المهنية وإلى دراسات وأبحاث علمية اجتماعية واقتصادية وغيرها . وبالمقابل فإن نظرة الأكاديمي وآراءه تستند إلى تقديرات مختلفة، خصوصاً وهو يبحث في القضايا بأبعادها العلمية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية المتنوعة .

    ولعلّ تلك العلاقة المعقدة بين البرلماني والأكاديمي، أو بين السياسي والمثقف  قادت إلى تهميش دور الأكاديميين والمثقفين من جانب أصحاب القرار والسياسيين بشكل عام، وقد ازدادت هذه العلاقة تعقيداً منذ العام 1958 في العراق، في حين أن دور الأكاديميين والمثقفين ارتقى على المستوى العالمي بحيث تعززت مساهماتهم في توجيه السياسات عبر مجمّعات العقول والأدمغة والعصف الفكري، وهو ما سمي ب “Think Tank” . إذاً، كيف تتحول منظمة مثل دار الخبرة إلى قوة اقتراح وشريك  وليس منافساً أو ندّاً للبرلماني؟ بتقديري أن الأمر يتطلب بناء جسور التواصل ومن ثم تأكيد الصدقية والثقة، والعمل على رؤية مشتركة لخلق تصورات موحدة لدور كل من الأكاديميين والمثقفين من جهة، وبين البرلمانيين والسياسيين من جهة أخرى، لتعزيز دور كل منهم للتمكين المتبادل كل بشأنه وفي حقله، كما يحتاج الأمر إلى بناء مؤسسات داعمة للفكر والتخطيط الاستراتيجي وتأمين مهارات وتدريب وتأهيل .

    يمكن الحديث عن وظيفة التشريع في البرلمان، إضافة إلى دور البرلمان الرقابي، والخدمة العامة، ولكن عبر ثلاث قواعد هي قاعدة الحقوق، وقاعدة الأدلة، وقاعدة القيم الاجتماعية والدينية والثقافية . بهدف توطيد المعايير الأساسية من خلال دراسات وأبحاث وتقويمات وخبرات . فما هو المعيار التشريعي ودور الخبرة في هذا المجال؟ وما هي المعايير التي يمكن التعامل من خلالها لبناء وتطوير التشريع وتعزيز القدرات؟ باختصار يمكن القول إنها تكمن في:

1- المساواتية، حيث يقتضي الأمر البحث في المساواة كقاعدة معيارية، ولاسيما ما ينسجم مع الاتفاقيات الدولية، وعلى سبيل المثال بشأن المرأة والطفل وحظر التعذيب ومنع العنصرية والتمييز وحقوق اللاجئين والجنسية واتفاقيات العمل والحق في الصحة والحق في التعليم وغيرها .

2- التعددية، وهي القاعدة التي تقوم على مبادئ التعددية في المجتمع، الثقافية والدينية والإثنية والاجتماعية والحقوقية واللغوية وغيرها، تلك التي تستلزم تأمين احترامها .

3- التمثيلية، وذلك بضمان تمثيل كل المجتمع بجميع  فئاته، من خلال تعددية التمثيل، إثنيات، أديان، لغات، وغيرها من المجموعات الثقافية .

4- الشراكة والمشاركة، للفئات المهمشة وخصوصاً من أصحاب الشأن والمصلحة أو للمستفيدين منها، ويحتاج الأمر إلى سماع آراء ووجهات نظر أصحاب المصلحة الحقيقية، إضافة إلى أصحاب الخبرة القانونية والاجتماعية والفنية بهذا الخصوص، وذلك من خلال مشاركة فعّالة في صنع القرار بحيث يأتي القرار بعد استشارات واستطلاعات رأي وسماع وجهات نظر، لكي يكون معبّراً حقيقياً عن تطلعات الفئات المختلفة باختلاف تنوعها الاجتماعي والاقتصادي والمناطقي .

5- العدلية وهذا يستلزم تحقيق مبادئ العدل وسيادة القانون واستقلال القضاء، لأنه لا نظام ديمقراطياً دون قضاء مستقل، ولا قضاء مستقلاً دون فصل السلطات، وذلك جزء من المبادئ العدلية التي يفترض أن يؤمنها البرلماني، وخصوصاً الاستفادة من خبرة “الخبير” في المجالات المختلفة ولا سيما القانونية منها .

6- القانونية، وهذه تقتضي احترام الدستور والنظر في دستورية القوانين التي يصدرها المشرّع، بحيث يكون التشريع أكثر وضوحاً وأقل التباساً أو غموضاً ومكتوباً بلغة دقيقة وفنية خالية من الإطناب، وتلعب الخبرة التشريعية دورها عند إنشاء المحكمة الدستورية العليا للنظر في دستورية القوانين والفصل في النزاعات التي قد تنشأ من جرّاء تفسير القانون والدستور . ويندرج هذا المعيار في صلب عمل البرلماني .
 

7- الجندرية، وتقتضي هذه القاعدة أخذ النوع الاجتماعي Representation في الحسبان، خصوصاً بما ينسجم مع التطور الدولي في هذا الميدان .
 

8- المصطلحية (الفنية) التقنية، وذلك بتوظيف المصطلحات بما يخدم النص والمبادئ السبعة المذكورة، الأمر الذي يستوجب الخبرة بالمصطلحات Advocacies، وهذا المعيار يوفّر خبرة بالتحفيز، أيضاً لما له من دلالات، خصوصاً بإقناع المجموعات الثقافية المختلفة دينياً وإثنياً بمشروعية التشريع وعدالته، ولعل التحفيز يقوم على قاعدة أدلة وبيانات وشراكة .

9- المفاهيمية، وهنا لا بدّ من إعطاء معانٍ للمفاهيم والمصطلحات بحيث تكون منسجمة مع القواعد العامة وتعطي مضموناً موحداً، من خلال صياغة مصطلحات دالة وتوفير خبرة في التقنيات القانونية، وهذه لن تتمّ من دون توعية برلمانية وتوعية عامة، بحيث يأتي التشريع دالاً ومعبّراً، وذلك مقارنة مع دول أخرى في قضايا مماثلة من خلال اطلاع على خبرات البرلمانيين في العالم، ولا بدّ من التعاون وتبادل الخبرات على هذا الصعيد، كما أنه من الضروري إطلاع البرلمانيين على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يكون بلدهم قد انضم إليها .

   وهنا لا بدّ من تعزيز مفهوم السياسات العامة والقطاعية لدى المشرّعين والبرلمانيين وأهمية تطويرها في حل المشكلات على جميع الصّعد المحلية والوطنية، كما يمكن دعم السياسات من خلال التشريع وتعزيز القدرات وآليات التنفيذ والرصد والتقييم .
 

    إن تعزيز دور البرلمانيين بأهمية وضع السياسات العامة، لخلق إطار لحل المشكلات والموضوعات المهمة، بآليات ومشاركات فعّالة لأصحاب الشأن، أمر في غاية الأهمية، لاسيما لدور الشباب والنساء، وهو ما أفرزته التغييرات بما سمّي لدول الربيع العربي في السنتين الأخيرتين وما ينتظر من دور لاحق، الأمر الذي يتطلب المزيد من الخبرات، سواء كانت محلية أو وطنية أو إقليمية أو دولية، ولا سيما من جانب المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة وإدارتها، والهدف هو بناء قدرات المشرّعين والموظفين الفنيين، وتعزيز الإصلاح المؤسسي وتمتين علاقات البرلمان مع السلطتين  التنفيذية والقضائية والمجتمع المدني، وكذلك تعزيز فاعليات النساء البرلمانيات وتحسين قدراتهن، باعتماد الشفافية وتشكيل لجان متابعة للتشريع ووضع السياسات .
 

    وتقع المسؤولية على عاتق البرلمانيين والأكاديميين، وكذلك على عاتق السياسيين والمثقفين، من خلال العمل المشترك والشامل الموجّه للتشريع والسياسات، استناداً إلى قاعدة أبحاث معمقة ودراسات رصينة وخبرات وفيرة، لخدمة عموم الناس .