ألـحلقه  الخامسة

 

ألقوش التي صـَعـُبـَتْ على أنياب الفاشْستْ  لن تخدشها مخالب شراذمهم

 

                                                                                                                

 

                                                                                        

                                                                                    

                                                                       

                                                         شوكت توسا

                                                                                                          

                أُخمـِدَت مؤامرة الشواف بقتل مدبرها و أحيل من تعاون معه من ضباط ومدنيين الى المحاكم  , لكن سماء الموصل ظلت ملبده بسحب حالت دون  إزاحة الإكتئاب الذي أصاب الحياة في المدينه,و بما ان المعروف عن الموصللين حبهم لحياة و إيمانهم بضرورة استمرارها رغم اشتداد النكبات, فقد باشر الناس في ممارسة اعمالهم بشئ من الحذر, مما شجّع الوالد للعودة الى عمله بعد إنقطاع , كما بدأنا نحن الصبيان بالذهاب الى المدرسة والخوف يكتنفنا , و هكذا بدأن ربات البيوت بالذهاب للسوق للتسوق على أمل ان تتحسن الأمور .

 لأن مكائد  قوى الشر و أجنداتها لا تدعها تترك الناس المسالمه لحالها كي تعيش حياتها , سرعان ما عادت مظاهر الاحتقان الى اجواء المدينه وأحيائها  و بدأت الملاحقه العلنيه والتهديد في رابعة النهار ليس فقط للشيوعيين أنما شملت و بشكل مباشر ابناء شعبنا من الكلدواشوريين والارمن (المسيحيين ) , وما زاد من فزع الناس ورعبهم  المنحى  الخطيرالذي نحت اليه  ظروف ارتكاب الجريمه , حيث الإعتداء والقتل أمام أنظار رجال الامن و الشرطه الذين لم يستبعد ضلوعهم في التغطيه على منفذي الجريمه, وهذا ما كانت تشاهده عيناي  في طول شارع نينوى وإمتداده  مرورا بالسرجخانه والخزرج غربا وباتجاه شارع النجفي  والجسر القديم (البلديه)  شرقا حيث غالبية سكانها من ابناء شعبنا, كنت اثناء تواجدي في محل الوالد في شارع نينوى خلال النهار,  اراقب الشارع واشاهد كيف ينقض البعثيون والقوميون على أي شاب مسيحي يصادفهم  بدافع الحقد والانتقام من كل ما له علاقه بالشيوعيه , لست مبالغا  لو قلت  بأن  سير الموصللي المسيحي بطول قامته  في شارع نينوى معناه  ان مجرزة حتميه تنتظره ما لم  يستطع الهرب والدخول في  شارع نبي جرجيس( راس الكوغ) الذي كان أكثر أمانا لتجمع من تبـّقى من الشيوعيين فيه , أما نحن الصبيان  فقد اصبح ذهابنا الى المدرسه  امرا محفوفا بالمخاطر لما كنا نلقاه من تهديدات شفاهيه نسمعها واخرى مكتوبة بأحرف كبيره على الجدران ,  مما عكس صوره  قاتمه  تنذر بحلول كارثة  بشعبنا  في مدينة يتحكم بها الظلاميون من البعثييين والقومييين والاسلاميين المتشددين .

  جدير بنا هنا الاشاره الى إنعكاسات التغيير الذي طرأ على سياسة عبد الكريم قاسم  وإنقلاب موقفه  تجاه الشيوعيين  بعد احداث الشواف  , فقد إزدادت الاوضاع تدهورا وإنفلاتا  بُعَيدَ إعتقال العديد من الشيوعيين  وإبعاد اخرين عن مواقع مسؤولياتهم الامنيه واستبدالهم مما اعطى للناقمين والمتطرفين فرصة التسلل  الى مناصب ومواقع المسؤوليه, هكذا عادت الكآبة لتخيم على أجواء المدينه  ثانية و بدأت الشوارع تخلو من سابلتها و المحلات  تغلق ابوابها قبل مغيب الشمس خوفا من التحرشات ومن غدر رصاص العصابات.

 في احد الايام زارنا رجل كردي اسمه مصطفى ,اغلب الظن انه من شيخان, كان الوالد قد كلف أحد أصدقاءه لتدبير مسدسا  يستخدمه لحماية نفسه أثناء عودته من عمله  في المساء, لذا جاءنا مصطفى لجلب المسدس للوالد ,أخذ  الرجل حقه (27) دينارا ثم انصرف, في تلك الاوضاع كنا انا وشقيقي الأكبر بعد عودتنا من المدرسه وتناول الغداء نذهب الى محل الوالد كي نرافقه أثناء عودته  و لحثه على المغادرة قبل المساء, من باب الإحتراز كان الوالديفضل سلوك أحد الأزقه الفرعيه في شارع نينوى التي تؤدي الى مدرسة القديس عبدالاحد ومن هناك ندخل الى الزقاق المؤدي لبيتنا  دون المرور في شارع نينوى الخالي الا من المتربصين  ,كنت أحس القلق والحذر في طريقة مشية الوالد  وهو ممسكا بمسدسه المخفي تحت بلوزه طيلة مسافة الطريق تحسبا لأي طارئ, هكذا أصبح حالنا في المدينه التي إعتاد أهلها  النوم وابواب البيوت مشرعه لا خوف من لص ولا هم يحزنون .

الأمانة تحتم علينا سرد حادثة غالبا ما استعين بها عند الكلام عن حياة الموصللين  قبل أحداث الشواف وحتى ما قبل ثورة 14 تموز  ,  فقد صادف مرة ان وقع صوم رمضان في حزيران لا أتذكر السنه بالضبط  ربما 1957 او 1956 , في ايام  رمضان إعتاد الوالد الرجوع  للبيت في ساعات متأخره من الليل بسبب زحم الشغل عليه, كان الموصلليون يفضلون النوم في فناء  البيت(حوش)  في شهر حزيران وعندما يحل حر تموز يصعدون  فوق السطوح , في أحد ليالي ذلك الشهر, والوقت تجاوز منتصف الليل , كنا نائمون والوالده معنا في حوش البيت بينماالوالد مازال في عمله , فزّت الوالده  من نومها على اثر صوت طرقات على الباب  لترى شرطيا (حارس ليلي, پوصمنچي)  واقفا امام الباب ينادي بهدوء : يا اهل البيت  ليش ناسين باب الحوش مفتوح؟؟  يبدو ان الوالده قد نسيت الباب مفتوحا , المهم  شكرته ثم غلقت الباب دون ان تقفله .

  ان صورة مريحه كهذه حينما تناقضها أخرى  في حقبة زمنيه سابقه او لاحقه ولكن في نفس المكان  , توحي  للقارئ بان خللا معينا يتكرر رصده, ربما تعزى اسبابه الى تربية واخلاق الانسان ومستوى ثقافته  وغيرته , لكن الأهم هذا وذاك  هو تسـيـّد سلطة القانون  وتكفـلـّها في  حماية الانسان وضبط الوضع حتى في حالات تغييرالانظمه وحدوث الصراعات , مع شديد الأسف  حضور هذه المقومات مجتمعة لم يتحقق إطلاقا كي ينعم الانسان بحياته ناهيك عن غياب سيادة القانون بشكل كامل كلما حصل اي تغيير او تحول, والا لما تجلـّى امامنا  تكرارعين  الفوضى والعراقي ما يزال يلهث وراء إملاءات التدخلات الخارجيه  وكان عراقيته  لا تكتمل الا بتبنيه اجندات الغيرالتي تنسيه روابطه بابناء وطنه  بهذه السرعة, والأكثر إيلاما  ان هذه الصورة تتكرر اليوم في العراق(التاريخ يعيد نفسه)  للمره الكذا بشكل فاقت في عنفها ووحشيتها  تلك  التي  سبق وعانينا منها نصف قرن مضى .

 لقد إستمرت القوى المعاديه للحرية والتقدم  تستغل إنقلاب موقف الزعيم تجاه الشيوعيين  كما اسلفنا , في لملمة بقاياها وبتواطؤ اجهزة الشرطه والأمن  ودعم أنظمة الجوارسارعت الى تشكيل او بالأحرى تأجير عصابات مهمتها  قتل الشيوعيين خاصة المسيحيين منهم   ومن يؤازرهم , كان اجر قتل الانسان الشيوعي والمسيحي  يتراوح بين الثلاثين والخمسين دينارا تدفع نقدا للقاتل , هذا ما يؤكده الأستاذ الباحث حامد الحمداني في كتابه ( دماء في الموصل) .

كما تم تشكيل عصابات تجوب الأحياء المسيحيه  في وضح النهار لرسم علامة  صليب باللون الاحمر على ابواب بيوت المسيحيين وإلقاء رسائل التهديد و اشاعة هدر دماءهم وقتلهم في بيوتهم إن لم يغادروا المدينه , القصد من ذلك كله بث الفوضى  لإخلاء المدينه من اجمل شريحه أصيله  والاستحواذ على  متاجرها وممتلكاتها, ومن لم يغادر تتم تصفيته علنا بحجة انه شيوعي  كافر او مؤازرللزعيم .

 أزاء هذا الزخم من العنف المنظم , إستغرب الكثيرون  عدم صدور اي ردة فعل من الحزب الشيوعي تتناسب  وحجم الكارثه , وتلك شئنا أم ابينا تسجل كنقطه سلبيه تضاف الى قائمة أخريات سبقتها , يقول البعض ان هذا العزوف كان من باب تحاشي إغضاب الزعيم عساه يعود الى سابق موقفه تجاه الحزب, بالنتيجه خسر الحزب كل شئ , لقد كان تخوف عبدالكريم قاسم من تعاظم جماهيرية الحزب سببا جعله يفكر جديا في إضعاف شوكته وارباك شكيمته  بشتى الطرق  لدرجة  انه اوعز لوزير داخليته  بضرورة تشجيع  فكرة صنع تنظيم شيوعي جديد يقوده داؤود الصائغ  ومجموعته التي ضمت كل من  سليم شاهين , ابراهيم عبدالحسين, زكيه ناصر, سالمه جاسم واسماء اخرى لم يكن لها اي وزن  او دور مشهود في الحركة الوطنيه, المهم أنه ينافس الحزب الشيوعي العراقي  ويربكه بإشغاله في امور جانبيه  .

في مساء اليوم الذي تم فيه تفجير سيارة نافع ابرايا  في منطقتنا ,اصابنا الرعب جراء هول صوت أنفجار القنبله وخبر مقتل عائلة باكملها , زارنا المرحوم عمي يلدا لتفقد أحوالنا كعادته, وبعد ان قضى قرابة  نصف ساعه بيننا  ودعنا مغادرا , تبعته الوالده لتوديعه وغلق الباب وراءه, واذا بثلاثة أشخاص ملثمين وعلى  أكتافهم عباءات عربيه أحاطوا عمي بحجة الاستفسار ان كان الزقاق يؤدي الى محلة باب البيض, اجابهم عمي بنعم  و علق على سؤالهم بالقول انهم هم أدرى منه بذلك , في تلك الأثناء نادت الوالده والدي ظنا منها ان كارثة ستحل, عندما خرج الوالد كان الثلاثه قد تركوا عمي بحاله لان في الامر اشتباه كما تبين ,حيث الشخص المطلوب قتله في تلك الليله  والمدفوع لهم أجراغتياله  لم يكن عمي بل جارنا  بولص البواب ( شبيه قامة عمي ويرتدي نفس زيه)  إنتقاما من أبنائه الشيوعيين الذين هربوا الى البصره, بعد ايام  تمكن الوالد من معرفة أحد أولئك الثلاثه الذي سنراه لاحقا  بزي الحرس القومي وهو يقود حملات مداهمة البيوت  في القوش بعد 1963.

هكذا انقلبت الحياة  في الموصل الى جحيم لا يطاق بسبب انفلات الامن  وتصاعد وتيرة  القتل والمطاردات بحق ابناء شعبنا الكلدواشوريين والارمن (المسيحيين), فقد راح ضحية هذه الإغتيالات ما يزيد على ألف  شهيد موصللي , طبعا  بدون جرحى لان المغدور الذي لم تقضي عليه الرصاصه يتم نقله للمستشفى من قبل الشرطه ولا يعاد الى اهله إلا جثه هامده, واضح جدا ان السلطات المحليه لم تحرك ساكنا أزاء الوضع, ليس لأنها تجهل أسماء وعناوين وكنى المجرمين  , لانه حتى عامة الناس كانوا على علم بهوية هؤلاء القتله والاماكن التي يجتمعون فيها , لكن المخطط سلطويا  له كان القضاء على الشيوعيين باي وسيلة  وتجريدهم من جماهيريتهم التي أفزعت الحكومه في  هتافات وشعارات مظاهرة ايار 1959   عاش زعيمي  عبدالكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي.

  أدناه  قائمه بأسماء قسم من  شهداء ابناء شعبنا  الذي قضوا في حملات الإغتيالات في الموصل :

  المحامي كامل قزانجي / جميل الياس خوشو  * /  اسطيفان صاحب مطبعه //, المهندس واصف ميرزا **///نافع برايا صاحب المخبز ***////  فريد  السحار //هاني متي يعقوب سائق  المطران  سليمان  الصائغ  ////  بدري  عزيز توتنجي //  زكي عزيز توتنجي//متي يعقوب يوسف موظف //// قوزي قزاز مع ابنه حازم & /// جورج ...سائق//// طارق حاوه///موسى السلق &&//حنا داؤود سائق سياره /// عبالله ليون&&& // زكي عبد النور# /// سركيس  الأرمني  ##  متي يعقوب صاحب متجر....والقائمة تطول. نتيجة هذا التصعيد الوحشي والانفلات الامني  ,  إضطرت قرابة ثلاثون ألف عائله  الى ترك الموصل  غالبيتها  من الكلدواشوريين  السريان  والأرمن المسيحيين , تركوا كل شئ  وراءهم  والهرب  سرا الى بغداد والبصره  والى قرى  ضواحي الموصل , تلكيف, القوش, كرمليس برطله تللسقف وقرى اخرى  بحثا عن الامان  .

..............................................

الهامش  :

*_جميل الياس خوشو , أحد اصدقاء المرحوم والدي , كان شابا ألقوشيا وسيما دمث الأخلاق يعمل موظفا في شرطة النفط , لم يكن له اية علاقة باي حزب , تم إغتياله إنتقاما من شقيقيه  وديع  وسعيد اللذان كانا متهمان بالشيوعيه .

**_ لقد أغتيل المرحوم واصف (جارنا) مساءً في مدخل الشارع المؤدي الى زقاقنا بينما كان يغادر سيارته الى بيته , كان هناك شرطيان على مقربه من موقع الحادث , لم يفعلا اي شئ سوى وضع الجثه على عربة دفع  يدويه وجئ بها الى بيته, لم يطرقا على باب بيته, بل طرقا على باب جاره  بيت خالي المرحوم يونس رزوقي الذي افزعه الموقف فايقظ زوجة الشهيد واصف وتم إدخال جثته داخل البيت.

***_ بعمليه ارهابيه بشعه تم تفخيخ سيارة الشهيد نافع ابرايا  صاحب المخبز المعروف في منطقة الساعه  بقنبله  انفجرت به وبعائلته داخل سيارته  حال شروعه في تشغيلها  وقد ادت الى مقتلهم جميعا

_ تم اغتيال قوزي وابنه حازم  ليلة الاربعاء على الخميس حسب ما اتذكر, كان المسكين نزار ابن الشهيد  حازم تلميذا يجلس معي على نفس الرحله في الصف الرابع ابتدائي في مدرسة شمعون الصفا, إعتاد المبيت  عند جدته من امه لقرب بيتها للمدرسة , في صباح يوم الخميس,  جاء نزار طبيعيا مرتديا زي الكشافة  لأداء مراسيم تحية العلم لا علم له بما قد جرى لوالده وجده, كانت الحصه الاولى مادة العلوم , دخل علينا المعلم استاذ نعوم مقهورا وحزينا وعندما راى  نزار جالسا في الصف, غادر الصف وبعد لحظات جاء الفراش ونادى نزار للذهاب الى غرفة المدير (  سعيد ججاوي ) ذهب نزار  وبعد لحظات عاد واخذ كتبه وغادر المدرسه , عاد الاستاذ نعوم الينا وحكى لنا ما قد حصل في الليله الماضيه ثم قال لنا : تعالوا معي اريكم موقع الجريمه, إصطحبنا بزي ملابسنا الكشفي الى مكان قريب من كنيسة مارتوما وهناك وجدنا الدماء المتخثره في مساحة  المكان الذي أرتكبت الجريمه.

 _  تمت عملية إغتيال موسى السلق  بدافع الحسد كونه محاسب قدير و رجل نزيه  في بلدية الموصل .

 _  أغتيل  عبدالله ليون  كونه محامي مشهور ومن عائله  مسيحيه غنيه

 _ أغتيل زكي عبدالنور كونه مسيحي  وصيدلي معروف في الموصل

 _ تم تصفية سركيس الأرمني حسدا , لانه من الفنيين  الاختصاص الماهرين في المكائن الثقيله والسيارات في مدينة الموصل .