خطاب مارا بن سیرافیون

 

                                                                                                                

 

                                                        

 

                       

                                               

                                                  یوآرش هیدو

                                                                       

                                                   

                  یرتبط الادب السریاني بالدیانة المسیحیة التي تحت تأثیرها نما وازدهر ومنها أخذ طابعه الدیني بشكل عام. إلا أن ولادة الأدب السریاني تعود الى عصر مبكر جداً قبل ظهورالمسیحیة، بل أن هذا الأدب تضرب جذوره في أعماق الماضي السحیق ویرقى الى الكتابات المسماریة.

فاللغة السریانیة هي الحلقة الأخیرة التي إنتهت الیها اللغة الآشوریة البابلیة تطوراً وهي لغة القوم المتحدرین عن أهل آشور وبابل بناة الحضارات العریقة. في القرون الأولى للمسیحیة ، كان السریان 1 یشكّلون مجموعة بشریة ضخمة في كل من بلاد ما بین النهرین وسوریة موزعین بین إمبراطوریتین كبیرتین هما الامبراطوریة الفارسیة والامبراطوریة الرومانیة. ورغم الظروف المعقدة التي مرت بها بلاد السریان، فانهم كانوا یشكّلون الأغلبیة الساحقة في هذین البلدین وكانت لغة الثقافة هي اللغة السریانیة. وكانت اللغة والثقافة السریانیتان دوماً هما العنصر الأساسي الذي وحّد السریان ومیّزهم عن الشعوب المجاورة. ویتصف السریان بحبهم الشدید للعلوم والثقافة. وهذه الصفة واضحة جلیة عندهم عبر تاریخهم الطویل كله.

ویلاحظ الباحث في تاریخ السریان أن الأدب السریاني المتكون في القرون الأولى للمسیحیة یعكس تنامي الأسس الفلسفیة المبثوثة في ماضیهم القدیم من جهة، وعناصر من الفلسفة الاغریقیة القدیمة من جهة أخرى. كما تتجلى فیه الآراء والأفكار الأكثر حداثة في تلك الفلسفة، أي العناصر الهلنستیة تحدیداً.

ومن روائع الأدب السریاني ذات الجاذبیة المتمیزة "خطاب" مارا بن سیرافیون. ولا یعرف عن حیاة مارا بن سیرافیون سوى النزر الیسیر. وكل ما عرف عنه مستقى من خطابه الشهیر الذي لم یتمكن الباحثون من تأریخه بدقة. ونفتقر الى المعلومات التي تلقي الضوء على الأحداث التاریخیة التي ورد ذكرها في الخطاب. إلا أن بعض الباحثین یمیلون الى الاعتقاد بان الخطاب كُتب على الارجح في ما بین نهایة القرن الاول ونهایة القرن الثاني المیلادي وذلك إستناداً إلى الحقائق الواردة فیه. ولا یوجد إتفاق أو رأي موحد حول هذا الخطاب. إذ یعتقد البعض بأن الخطاب رسالة شخصیة في حین أن باحثین آخرین یعتبرونه مؤلفاً أدبیاً على شكل رسالة أخلاقیة وعظیة.

1) تجدر الاشارة الى أن "السریان" تسمیة یونانیة للآشوریین أي .Assyrians  یؤكد ذلك المؤرخ الیوناني الشهیر هیرودوتس."Herodotos"الملقب ب (أبو التاریخ) في معرض حدیثة عن الآشوریین في كتابه "تاریخ هیرودوتس" إذ یقول "إن جمیع الشعوب البربریة تسمى هذا الشعب المحارب آشوریین .Assyrians أما نحن الأغریق نسمیهم سریاناً."Syrians ومن المعروف أن الأغریق القدامى كانوا یسمون حتى بلاد آشور Syria، Assyriaبإسقاط الحرف (A)أیضا. وقد أقتبست هذا التصحیف أقوام أخرى كالفرس والعرب وغیرهم فسمّت الآشوریین(سریاناً)

جریاً على عادة الاغریق.

كان مارا بن سیرافیون أسیراً لدى الرومان ومن سجنه وجّه هذه الرسالة الى ولده سیرافیون الذي كان یدرس بعیداً عنه في بلد آخر رداً على رسالة تلقاها من أستاذه ومربیه یذكر فیها أن إبنه مثابر على الدرس. وینصح مارا إبنه بضبط النفس وأن یسعى في طلب الحكمة والمعرفة لیستنیر بهما ویطلب منه أن یكون متواضعاً ولطیف المعشر مع الناس.

ویُستنتج من هذه الرسالة الأدبیة – التربویة الرائعة أن كاتبها لم یكن مسیحیاً لكنه كان یؤمن بوحدانیة الله معتبراً المسیح حكیماً إذ یسمیه "ملك الیهود الحكیم" . وینظر مارا بن سیرافیون الى العالم في رسالته نظرة أصحاب الفلسفة الرواقیة من أتباع زینون 2 مما یؤكد تأثر السریان بالفلسفة الیونانیة. وتظهر الرسالة ان مارا كان من مدینة سمیساط (شمیشاط) 3 وبأن الرومان قد أتهموه بالاشتراك في حركة مناوئة لحكمهم أخمدت وسیق عدد من القائمین بها الى سلوقیا. ویشیر مارا في رسالته ما لقیهُ أهل سمیساط من ظلم وعذاب وانه هو نفسه قد زجّ به في السجن مع آخرین

مكبّلاً بالاغلال وان الفاتحین عاملوهم معاملة جائرة بتهمة عدم ولائهم للحكم الروماني.

وتجدر الاشارة الى أن ما أضفى على الرسالة مسحة مسیحیة وأكسبها أهمیة خاصة هي الفقرة التي یشیر فیها مارا الى المسیح الذي یسمّیه (الملك الحكیم) كما ذكرنا آنفاً مما جعل المسیحیین الأوائل یعتقدون ان كاتب الخطاب مسیحي ومن أجل هذا قدّر للرسالة البقاء. وتعد رسالة مارا بن سیرافیون واحداً من أقدم المعالم والتصانیف الأدبیة السریانیة .

ورغم كونها رسالة شخصیة، فان الطابع العام لها وما تتضمنه من نصائح عملیة مكرسة لتربیة أسالیب السلوك في الحیاة الیومیة وتهذیبها، جعلها تحظى باهتمام العدید من الباحثین الذین قاموا بدراستها وتقییمها كعمل أدبي وكنموذج للفلسفة العملیة الاجتماعیة. وقد ترجمت الى لغات عدیدة وحظیت بشروحات كثیرة.

والیك عزیزي القارئ مقتطفات من هذا الخطاب المثقل بالحكمة والمعاني العمیقة:

1. كن كالرجل الهادئ الذي یحب النظام، فالنظام وان بدا لك مُراً كالعلقم ، یصبح عندك

عذباً حینما تتبعه بعد زمن قصیر.

2. الذین یتمسكون بالحكمة یتعلقون بالأمل ، والذین یقومون على الحق یظهرون مستوى

فضائلهم.

3. حیاة الناس زائلة من العالم ، أما مجدهم وفضائلهم فباقیة الى الأبد.

4. هَم الناس تكبیر بطونهم وهي الرذیلة التي بها یتم الفساد.

5. لا یمكن أن یجرّد الانسان من حكمته أبداً مثلما یجرّد من أملاكه.

6. جد وراء المعرفة أكثر من سعیك الى الثراء.

7. كلما زادت الثروة كذلك تكثر الرذائل.

8. إدفع نفسك الى الحكمة معین كل الفضائل، والكنز الذي لا ینفد، وعندها فاسند رأسك

واسترح لأنها ستكون لك حقاً، الأب والأم والرفیق الطیب في حیاتك.

 

2) زینون القیسوني 263 -355 ق.م فیلسوف یوناني ولد في قبرص، مؤسس المذهب الرواقي

3) سمیساط أو شمیشاط : مدینة سوریة قدیمة على الفرات ، موقعها الیوم في سمزاط جنوبي تركیا.

إزدهرت في العهد الروماني نبغ منها لوقیانوس الخطیب والمؤرخ ولوقیانوس القدیس وبولس

الأسقف.

 المصادر:

1) مراد كامل وزملاؤه: تاریخ الأدب السریاني.

2) نينا بیغولوفیسكایا: ثقافة السریان في القرون الوسطى، ترجمة خلف الجراد.

3) البطریرك اغناطیوس أفرام الأول برصوم: اللؤلؤ المنثور في تاریخ العلوم والآداب

السریانیة .