يهودية الآشوريين "النساطرة" في مزاعم أحمد سوسه

 

 

                                     

                                       ابرم شبيرا

              حفزني الموضوع التي كتبه بعض الأخوة الأعزاء في موقع عنكاوة عن الدكتورأحمد سوسه والإشارة إلى كتابه (ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق) الذي يزعم فيه بأن الآشوريين النساطرة هم من بقايا الأسباط العشرة اليهودية من مجموع أثنى عشر سبطاً الذين سباهم ملوك الآشوريين في القرن الثامن قبل الميلاد من بلادهم إلى شمال بلاد مابين النهرين، حفزني لأبحث عن الكتب التي إقتنيتها عن هذا الكاتب والمواضيع التي كتبتها عنه قبل ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن فوجدت أكثر من كتاب ومجلة راكناً في الرفوف العالية من مكتبتي الصغيرة ومنها الكتاب المذكور أعلاه. زد على ذلك فإنني أعرف الدكتور أحمد سوسه معرفة الطالب بالإستاذ، رغم عدم إتفاق الأثنين، حيث كنًا نلتقي به ونحن طلاب الدراسات العليا في كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد في مركز الدراسات الفلسطينية في منطقة الوزيرية التابع لجامعة بغداد باعتباره خبيراً في الشؤون الفلسطينية والتاريخ اليهودي وكثيراً ما ناقشته عن مزاعمه في أصل الآشوريين النساطرة حتى إنني دعوته مرة لإلقاء محاضرة عن الموضوع في النادي الثقافي الآشوري إلا أنه رفض ذلك.ولغرض تعميم الفائدة على القراء الأعزاء وبيان مزاعم سوسه كنموذج صارخ في تشويه وتحريف تاريخ الآشوريين أرتأيت أن أكتب هذه السطور مبتدأً بالغوص في شخصيته الغامضة والمتناقضة وعقليته المرتبكة تجاه الآشوريين النساطرة والتي من خلالها أقام مزاعمه في أصلهم اليهودي وفي دعواته الأخرى الخاصة بمحو تاريخ الشعوب التي بنت حضارات عظيمة في بلاد الرافدين وتنسيبها للعرب.

موجز حياة الدكتور أحمد سوسه:

ولد نسيم سوسه، وهو أسمه الحقيقي، لأسرة يهودية معروفة في الحلة سنة 1900، ربما تكون من جذور اليهود الذين سباهم الكلدانيون في القرن السادس قبل الميلاد إلى بابل. نشأ نشأة يهودية وتأثر كثيراً بمعالم مدينة بابل الأثرية حيث كان من المواضبين على زيارة أطلالها وإستلهامه منها مشاعره وتخيلاته عن هذه المدينة العظيمة التي عاش فيها إجداده الذين سباهم الكلدانيون من وطنهم الأصلي. كما كان متأثراً جداً بمشروع سد الهندية الذي أنشاْ في بداية القرن الماضي والقريب من مدينة الحلة وربما كان تأثره وإعجابه بهذا السد مفتاحاً لينطلق  نحو دراسة هندسة الري. ترك بلدته حلة متوجهاً إلى بيروت ليكمل دراسته الإعدادية في الجامعة الأمريكية عام 1923 ثم رحل إلى الولايات المتحدة ليواصل دراسته في كلية العلوم والهندسة في كولورادو في الولايات المتحدة ليحصل على شهادة بكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1927، ويقال بأنه كان أول مهندس عراقي يتخرج من الجامعات الغربية. ثم واصل تعليمه الهندسي في جامعة هوبكنز الأمريكية ليتخرج منها في عام 1929 حاملاً شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية إذ حصل على لقب دكتور في الفلسفة بدرجة شرف حسب ما ورد في مذكراته، أي أنه حصل على هذه الشهادة خلال سنتين أو ثلاثة (1927 – 1929) من بعد شهادة البكالوريوس. وعلى الرغم من جهلي بنظام التعليم في هذه الجامعة العريقة حينذاك إلا أن الأمر يخضع للتساؤل عن حصوله على مثل هذه الشهادة بهذه السنين القليلة ونحن نعلم بأن الحصول على دكتوراه في الفلسفة يستوجبها مدة أكثر وبعد الحصول على البكلوريوس ثم شهادة الماجستير.

عادة نيسم سوسه إلى العراق بعد أن ترك زوجته الأمريكية الغنية وولده هناك مفضلا العودة والعمل في العراق. ويصف سوسه قراره في ترك زوجته وولده بالقرار المثير جداً والمحرج لا بل حدثاً حاسماً اثر عليه كثيرا إذ يقول أن صدى صوت أبنه الذي قال في لحظة تركه "إلى أين تذهب يا أبتي؟ لماذا لا تبقى معنا" ...  لا زال يؤنب ضميره ويقول في مذكراته "ها قد مضى على تلك الحادثة أربعون عاماً وصورة ذلك المشهد المحزن تلاحقني ولم تفارقني لحظة واحدة". عينً بعد عودته مهندساً في مديرية الري العامة، وبعد فترة إستقال من وظيفته وسافر إلى مصر فأمضى أربعة أشهر في جامعة الأزهر بصفة مستمع ومتتبع وهناك أعلن إسلامه بصورة رسمية عام 1936 وأتخذ لنفسه أسم أحمد سوسه. وعند عودته إلى العراق عين مرة أخرى في الحكومة وتولى عدة وظائف فنية في دائرة الري وأخيرا كان مديراً عاماً لدائرة المساحة حتى عام 1957. نشر القسم الأول من مذكراته عام 1986 أي بعد وفاته في السادس من شهر شباط عام 1982 عن عمر ناهز 82 عاما وكان المفروض أن يتبعها القسم الثاني إلا أنه لم يكتب منها إلا بضعة صفحات.

دوافع د.أحمد سوسه في إعتناقه للإسلام:

يذكر د. أحمد سوسه ومعظم المؤرخين والمفكرين العراقيين سواء الذين عاصروه أو المعجبين بأبحاثه بأنه توصل وهو في الولايات المتحدة بعد دراسة طويلة وتفكير عميق إلى أن الإسلام هو دين الحق الذي يجمع بين فضائل الأديان السماوية جميعاً وأنه مبني على المبدأ الإنساني الذي يقوم على المساواة والتسامح فكان يقرأ إلى جانب كتبه الجامعية كثيرا من الكتب التي تبحث في تاريخ الأديان ودخل أيضاً دورة خاصة في دراسة تاريخ الأديان وعلم اللاهوت فقرر إعتناق الدين الإسلامي عن عقيدة وإيمان وإطلاع ولم يكن لغرض مادي أو مأرب دنيوي ولكنه لم يفصح بذلك إلا بعد الإنتهاء من دراسته الجامعية وعودته إلى العراق ثم أعلانه رسمياً عن إسلامه بعد عودته من جامعة الأزهر في القاهرة عام 1936، فوضع الجزء الأول من كتابه "في طريقي إلى الإسلام" وطبع في المطبعة السلفية في مصر عام 1936 أما الجزء الثاني فقد طبع في العراق سنة 1938.

وعلى العكس من هذا يقول الأديب العراقي اليهودي مير بصري في مقابلة خاصة معه في الإذاعة العربية في لندن بتاريخ 1993.8.28 "بأن الدكتورسوسه الذي كان صديقه منذ مرحلة الصبا قد ترك دينه اليهودي وأعتنق الإسلام لإسباب نفعية وماديه حيث يذكر بأن الدكتور فاضل الجمالي الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية في العهد الملكي في العراق كان قد أكد لنسيم سوسه بأنه مهما كانت كفاءته وإختصاصه فأنه يستحيل عليه الحصول على مناصب رفيعة في الدولة طالما بقى يهودياً" لهذا السبب أعتنق الإسلام لإسباب مصلحية ونفعية. ويتخذ بعض الذين صاحبوا أحمد سوسه موقفه من التخلي عن زوجته وولده نموذجاً لتأكيد توجهاته النفعية والمصلحية من إعتناقه للإسلام حيث فضل المناصب الحكومية على عائلته.

د. أحمد سوسة وعلاقته بالحركة القومية الآشورية 1933:

ومن الجدير بالإشارة المثيرة بأن د. أحمد سوسه عاصر وعايش أحداث الحركة القومية الآشورية في بداية الثلاثنيات من القرن الماضي. فعندما تصاعدت وتائر هذه الحركة وطرحت تسويات لحلها عن طريق إسكان الآشوريين المهجرين من مناطقهم في حيكاري في شمال بلاد مابين النهرين عوضاً عن أراضيهم المفقودة والتي أصبحت بموجب تسويات الحدود بعد الحرب الكونية الأولى مناطق خاضعة لتركيا، طالب قادة الحركة الآشورية إسكانهم في أراضي قريبة من مدينة دهوك في وحدة متجانسة كأساس للحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم وبالمقابل طرحت الحكومة العراقية والسلطات البريطانية مشروع إسكانهم في مناطق متفرقة ومختلفة في شمال العراق والتي تبينت فيما بعد بأنها كانت أراضي مقفرة وجافة وبعضها مبوؤة بالأمراض المعدية والتي رفضها قادة الآشوريين. وكان د. احمد سوسه أحد أعضاء اللجنة الخاصة بهذا المشروع الحكومي بإعتباره خبيراً في شؤون الري ومسؤولاً عن رسم وتخطيط نظام الري لهذه المناطق المخصصة للآشوريين المهجرين. غير أن كل المشاريع والتسويات الخاصة بإسكانهم انهارت وسحقت تحت إقدام بعض قطاعات الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي وحجي رمضان عندما قمعت الحركة القومية الآشورية وأرتكبت بحق الآشوريين المجزرة المعروفة في سميل في شهر آب من عام 1933. ويظهر بأنه منذ تلك الفترة ونتيجة لإختلاطه مع الآشوريين "النساطرة" والتعامل مع قضيتهم أخذ إهتمامه يزداد بهم ويبحث في أصولهم التاريخية ليجردهم من الحق الشرعي لهم في المواطنة والعيش في العراق الجديد فنشأت عنده أفكار ومواقف سلبية تجاه الآشوريين النساطرة لتتبلور فيما بعد في زعمه بأن أصلهم هو من الأسباط العشرة اليهودية وليس لهم علاقة بالآشورين القدماء.    

أشهر الكتب التاريخية للدكتور أحمد سوسه

د. أحمد سوسه كان غزير الإنتاج في الكتابة والتأليف حيث كتب المئات من المقالات والبحوث ونشرت في مجلات وجرائد عراقية وعالمية معروفة وألف خمسة وأربعين كتاباً في مختلف صنوف الهندسة والري والجغرافيا والحضارات والديانات والتاريخ. وعلى الرغم من إختصاصه العلمي في الهندسة وتحديداً في مشاريع الري فأنه كان مطلعاً وبغزارة على التاريخ والأديان إذ يذكر بأن مدينة بابل كانت قد أستلهمته منذ مرحلة الطفولة إضافة إلى مشاريع الري والسدود في العراق القديم فشكل كل ذلك دافعاً قوياً لدراسة تاريخ الشعوب خاصة تاريخ العرب واليهود. ولعل أشهر وأضخم كتاب وضعه في هذا المجال هو كتابه:(العرب واليهود في التاريخ – حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الآثارية) طبع عدة مرات والطبعة الثامنة التي بحوزتي طبعت في دمشق من قبل دار العربي للإعلان والنشر والطباعة – بدون تاريخ – وباللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية. وهو كتاب موسوعي يقع في 1016 صفحة من القطع الكبير وكله مكرس في إمحاء تاريخ اليهود من العصور القديمة ومن أي وجود قديم لهم في فلسطين وإنكار أية علاقة لهم بالنبي إبراهيم الخليل. إذ يقسم التاريخ إلى ثلاثة مراحل وهي مرحلة أبراهيم الخليل (العراق)  ثم النبي موسى (مصر) ثم السبأ البابلي حيث يرى د. سوسه بأن تاريخ اليهود يبدأ من السبأ البابلي عندما كتبت التوراة وليس لهم علاقة لا بإبراهيم الخليل ولا بموسى فهذه ثلاثة مراحلة مختلفة ومتباعدة عن بعضمها البعض بألاف السنين. فهو يرى بأن النبي إبراهيم كان بالأصل واللغة والثقافة والأرض عربياً وإن جميع القبائل المعروفة بالعموريين والأكديين والآشوريين والكلدانيين هم عرب أرضاً ولغةً وثقافة، وهكذا يعتبر د. سوسه كل تاريخ هذه الشعوب تاريخاً عربياً لغة وثقافة. حيث يقول " أن عصر إبراهيم الخليل وإسحق ويعقوب ويرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، هو عصر عربي بحت قائم بذاته بلغته وقوميته وديانته وهو مرتبط بالجزيرة العربية وبلغتها الأم (ص 79). وإن كلمة (إيل) والتي تعني الله هي عربية وليس لها علاقة باليهود الذين كانوا يعبدون (يهوا).... ويرى بأن هجرات القبائل العربية من الجزيرة العربية وإستقرارهم في بلاد الرافدين ووادي النيل وفي سورية ولبنان صاروا يعرفون بالكنعانيين – الفينيقيين والعموريين – والأراميين والأكاديين والكلدانيين والبابليين والآشوريين... . ثم يضيف ويقول "وهكذا فقد كانت لهذه الهجرات المتتالية من أهم العوامل لتنمية الكيان الحضاري العربي في الشرق الأدنى والسير به نحو التقدم والتطور في مختلف الميادين، هذا الكيان الذي إنبثقت منه أقدم وأعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم في تاريخ البشرية، أي الإمبراطوريات العربية الأربع: الأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية..." ص 86.

لست بصدد تفنيذ هذه المزاعم في إعتبار كل هذه الشعوب عربية قومياً ولغويا وثقافية لكوني من غير المختصين في هذا الشأن ولكن الذي أعرفه أن تاريخ الدولة العربية الإسلامية وألاف الكتب والبحوث التي كتبت عنها تتناقض تماماً مع هذه المزاعم، ولكن الذي أريد أن أشير إليه هو أن مثل هذه المزاعم  كانت من الطبيعي أن تدخدخ عواطف ومشاعر وهيجان العروبيين وبالأخص حزب البعث ثم ليكرسوا الملايين من الدنانير في طبع ونشر كتابه في العالم وبلغات مختلفة رغم أن مثل هذه المزاعم لا تصمد أما الحقاق التاريخية المعروفة عن تاريخ هذه الشعوب التي كانت متواجدة منذ مئات السنين وبنوا حضارات عظيمة قبل أن يخرج العرب من الصحراء ويظهروا على مسرح التاريخ. لا بل والأكثر من هذا أذ اعتبرت هذه المزاعم مرجعاً أساسياً لمفكري حزب البعث في العراق في دعوتهم حول إعادة كتابة التاريخ الذي بدأ حملة واسعة في منتصف السبعينات من القرن الماضي بشأن سلب التاريخ القديم لهذه الشعوب ووضعه في خانة الأمة العربية والذي دعا إلى ضرورة عدم إستخدام أي مصطلح غير العروبة في ما يخص الأقليات القومية في العراق وطالب المفكريين والباحثين في إعادة كتابة التاريخ لإزاحة مثل هذه التسميات الخاطئة التي علقت في إذهان البعض... (للمزيد أنظر كتابي المعنون: الآشوريون في الفكر العراقي المعاصر – دراسة مسألة: في العقلية العراقية تجاه الأقليات، دار الساقي، بيروت ولندن، الطبعة الأولى 2001 – ص31).  

والكتاب الثاني المهم للدكتور سوسه في هذا الحقل هو الكتاب المعنون (ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق) من إصدارات مركز الدراسات الفلسطينية – بغداد – مطبعة أسد – سنة 1978) وهو الكتاب الذي يهم موضوعنا هذا وتحديداً فيما يخص مزاعم د. سوسه في الأصل اليهودي للأشوريين النساطرة.

الكتاب بالأصل بحث نشر في مجلة مركز الدراسات الفلسطينية – المجلد الثالث – العدد الرابع – كانون الثاني 1975 (ص 34 – ص 77) التابع لجامعة بغداد، تحت عنوان (لمحات من تاريخ يهود العراق القديم وصلته بيهود الشرق) فتم توسيعه وإضافة فصول ومعلومات أخرى عن اليهود وعن المسيحيين وكنائسهم وطوائفهم بشكل عام ليصبح على شكل كتاب. ولهذا الكتاب قصة من ورائها دوافع سياسية خدمت الفكر الإستبدادي لحزب البعث في العراق خاصة في موضوع أعادة كتابة التاريخ. في تلك الفترة كان المرحوم الشماس يوؤاش ورده رقيباً للمطبوعات الخاصة بشؤون "الناطقين بالسريانية من الآثوريين والكلدان والسريان" في وزارة الإعلام فعندما قدم الكتاب للحصول على الموافقة لطبعه رفض الطلب من قبل الرقيب بناء على توجيهات الرقابة العامة للمطبوعات في وزارة الثقافة والإعلام ليس لسبب كونه يتناول مواضيع خطيرة عن اليهود ووجودهم القديم في العراق بل في تلك الفترة وطبقاً لحملة حزب البعث في إعادة التاريخ منع إصدار أي كتاب عن الأقليات في العراق وسحب الموجود منه من المكتبات والأسواق وركزت هذه الحملة بشكل مكثف على الآشوريين بإعتبارهم من الأقليات التي لهم تنظيمات سياسية وأكثر نشاطاً على الساحة السياسية والقومية سواء في العراق أم في المهجر خاصة في مطالبتهم بحقوقهم القومية على أسس تاريخية مترتبطة بالآشوريين القدماء. فعلى الرغم من كون كتاب د سوسه المنوه في أعلاه إساءة لتاريخ الآشوريين ويقوم على سحب الإساس التاريخي لوجودهم القومي في العراق إلا أن هدف حزب البعث كان محو أي أسم يتعلق بالآشوريين سواء أكان سلباً أم إيجابا وتجنب إثارة أي موضوع عنهم واعتبارهم بحكم المنسي.  في نهاية عام 1978 كنت من المواضبين على المكتبة المركزية لجامعة بغداد وكانت لي معرفة دقيقة بجميع الكتب التي تخص الآشوريين سواء المذكورة في جدول الفهارس أم الموجودة على رفوف خزائن المكتبة. وذات مرة كنت أقرأ كتاب رياض رشيد الحيدري: الآثوريون في العراق 1918 – 1936 وهو كتاب طبع في مصر عام 1977 وكان بالأصل رسالة ماجستير في التاريخ من جامعة القاهرة) وكان مختوماً بختم (للتدوال المحدود) من قبل رقابة المطبوعات وفي اليوم التالي عندما طلبت إستعارته مرة أخرى لم أجده لا في جدول الفهارس ولا في خزائن المكتبة والحال كان نفسه مع جميع الكتب المتعلقة بالآشوريين إذ كانت قد رفعت من الفهارس والخزائن وأختفت نهائياً. وعند إستفساري من الموظف المسؤول عن سبب هذا الإختفاء لم أحصل على الجواب إلا بعد نصف ساعة، فهو الآخر أستفسر من غيره ليؤكد بأن هذه الكتب سحبت من التداول بناء على أوامر من "جهات عليا". مع العلم بأن رياض الحيدري مؤلف الكتاب كان قد تلقى تسهيلات وإمتيازات كبيرة من مديرية الأمن العامة في بغداد للبحث وقراءة التقارير الأمنية السرية الخاصة بالآشوريين وحركتهم في العراق وإعتمادها كمصادر له في أطروحته الجامعية.

ضمن هذه الأجواء كان من الطبيعي أن يمنع طبع كتاب د. سوسه المنوه في أعلاه فلجاً إلى مركز الدراسات الفلسطينية بإعتباره مركزاً أكاديمياً يتمتع بنوع من الاستقلالية في الطبع والنشر وله معرفة برئيس المركز ورئيس تحرير المجلة فتم طبع الكتاب ونشره في المكتبات والأسواق إلا أن مصيره كان أيضا كمصير بقية الكتب التي تناولت تاريخ الآشوريين في العراق فتم سحبه من الأسواق ولكن بعد أن حصل بعض الناس نسخ منه وأنا واحد منهم.

يقع الكتاب (النسخة الأصلية منه) في 326 صفحة من القطع الكبير ويحتوي على أربعة فصول: الفصل الأول (أقدم وجود لليهود في شمالي العراق) وهو الفصل الذي يهمنا في هذا الموضوع حيث يتناول تاريخ اليهود في زمن الإمبراطورية الآشورية ومن ثم سبأهم إلى بلاد آشور والأهم في هذا الفصل هو عن أصل النساطرة وعلاقتهم بالتسمية الآثورية. أما الفصل الثاني فهو عن (المسيحية ودور النسطورية فيها) وهو يتناول تاريخ المسيحية والإنقسامات التي حصلت في الكنيسة وبشكل مفصل عن النسطورية. الفصل الثالث يتحدث عن (الوجود الثاني لليهود في العراق) يتناول تاريخ اليهود في بابل في زمن الكلدانيين وأمور أخرى متعلقة بوجود اليهود في هذه المنطقة في ظل حكم الفرس والإسلام والعباسيين وغيرهم كما يتناول مدارس اليهود المعروفة. والفصل الرابع (الوجود الثالث لليهود في العراق) وهو العنوان الذي لا يتطابق كلياً مع محتوى هذا الفصل فهو يتحدث بالتمام والكمال عن اليهود في جزيرة العرب من دون أية إشارة إلى يهود العراق وهذا نموذج آخر من نماذج إرتباك د. سوسه في كتابه هذا إلى جانب شطط ومزاعم لا تتوافق لا مع الواقع ولا مع المنطق.

كتاب ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق في الميزان:

لا شك فيه بأن د. سوسه باحث وعلامة في هندسة الري وكتب المئات البحوث والكتب في هذا الإختصاص ونال عن بعضها جوائز عالمية وتقدير كبير وتثمين عظيم لما كتبه في هذا المجال.  وصحيح أيضا بأنه ملم كثيراً بالتاريخ العربي واليهودي وكتب بعض الكتب في هذا المجال وأشهرها الكتابين المذكورين في أعلاه. ولكن من خلال قراءة مذكراته والمقالات والكتب التي كتبها وأيضاً من خلال لقاءاتي المتعددة معه والمناقشات التي دخلت معه في مركز الدراسات الفلسطينية المنوه عنه في أعلاه فوجدته بأنه إنسان غريب الأطوار وذو خلفية تاريخية وفكرية ونفسية معقدة تتكون من مزيج وتراكيب هجينة غير متجانسة من الأفكار والثقافات والديانات وإنجذابات عاطفية ونفعية مؤطرة بأساليب يدعي فيها العلمية والموضوعية ولكن في الحقيقية يسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف وأفكار وتصورات مسبقة تعزز عملية إنسلاخه عن أصله التاريخي وتحقيق نرجسيته ومن دون إنتماء إجتماعي أو فكري أو سياسي حقيقي وواضح. ، هذه الحالة النفسية المرتبكة والمتناقضة عند د.سوسه تعاظمت عندما أمتزجت مع دوافع نفعية وإنتهازية في بحثه عن أصل النساطرة بحيث تجاوز كل حدود البحث العلمي الرصين ولجأ إلى التزوير و التزييف والنفاق والبحث عن أية أفكار ومصادر أو كتب لدعم وجهة نظره وإعتماده أو إقتباسه معاير وعوامل في البحث عن تاريخ النساطرة وتحديد هويتهم والتي لا تتوافق إطلاقاً مع منطق الفكر والتاريخ.

فضمن هذه الحالة الشخصية له كتب كتابه المذكور ومن الطبيعي أن يأتي مثل هذا الإنتاج الفكري مشوباً بالكثير من الإفتراضات الخيالية والمعايير غير الدقيقة والهزيلة في إثبات ما يرغب في إثباته لا بل ويفتقر إلى جوانب كثيرة من الدقة الموضوعية والتاريخية والأمانة العلمية التي يفترض أن تكون من مقدسات الباحث والعلامة. فالأسلوب الذي أتبعه د. سوسه في كتابه هذا يقوم على النفعية والإنتهازية فكان المنهج الإنتقائي هو الطاغي في دراسته عن أصل الآشوريين النساطرة... وكما هو معروف فإن الإنتقائية منهج إنتهازي يلجاً إلى إنتقاء النصوص والفقرات والكلمات إنتقاءاً مصلحياً لغرض دعم تصور مسبق من دون ربط هذه النصوص أو الكلمات بالمضمون العام أو فهمها في سياقها الفكري والزماني.

فعلي سبيل المثال لا الحصر، نأخذ كتاب معروف لدى الكثير من القراء وهو كتاب (تاريخ الآثوريين) من تأليف البروفسور ماتييف بار متي ومار يوحنا والمترجم من الروسية إلى العربية من قبل إسامة نعمان والصادر من مطبعة دار الجاحظ في بغداد عام 1970 والذي أعتمده د. سوسه في كتابه أعلاه من دون إلتزام أدبي وعلمي حيث حول د. سوسه كل كلمة "أثوري" أو "أشوري" إلى نسطوري وحتى وإن كان قصد المؤلفين في بعض الأحيان الإشارة إلى بقية الطوائف المسيحية كالكلدان والسريان، فكان من المفترض والواجب كما هو متبع في البحث العلمي الرزين أن يذكر الكلمة كما هي من دون تغيير سواء بعد التعليق عليها أو وضعها بين هلالين .. وهكذا. ولكن لم يفعل د. سوسه ذلك لأن منهجه النفعي ألزمه أن يركز على كلمة نسطوري وينكر أي وجود معاصر لكملة آشوري أو أثوري. ومن الجدير بالإشارة بخصوص كتاب (تاريخ الآثوريين) وهو الكتاب الأكثر تداولاً وإقتناءا لدى أبناء شعبنا فأن عنوانه الأصلي وباللغة الروسية هو (المسألة الآشورية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى) وإن ترجمة أسامة نعمان إلى العربية غير سليمة وتفتقر إلى الدقة العلمية حيث أورد المترجم نصوص ومعلومات لا تمت بصلة إلى الكتاب الأصلي كما حرف وأساء ترجمة الكثير من المصطلحات والنصوص وحتى أن المترجم لم يأخذ موافقة المؤلف على الترجمة، هذا ماذكره لي البرفيسور ماتييف رحمة الله والذي كان جاري في لندن في منتصف التسعينيات من القرن الماضي وقبل عودته إلى روسيا.  وإنتقائية د. سوسه تظهر أيضاً في إقتباسه لنصوص من كتاب (الآشوريون في التاريخ) الذي جمع محتوياته إيشو مالك خليل جوارو وترجمه وأشرف عليه سليم واكيم – طبع في بيروت عام 1962. فمن المعروف عن هذين الكتابين ومؤلفهما بأنهم من الكتًاب المؤازرين والمؤمنين بالأصول التاريخ للأشوريين المعاصرين وإرتبطاهم قومياً ولغوياً وحضاريا بالأشوريين القدماء وهو الإيمان الذي يتناقض تماماً مع مزاعم د. سوسه ولكن مع هذا ينتقي منهم نصوص خدمة لمزاعمه وليس لتفنيد إيمان هذين المولفين.  كما أعتمد د. سوسه كثيراً على بعض النصوص من الكتاب المقدس ولكن لو رجعنا إلى أصل هذه النصوص في الكتاب المقدس فسوف نجد بأنه قد حرفها وحشرها في بحثه من أجل دعم وإسناد فكرته المسبقة وهدفه النفعي في البحث في هذا الموضوع في الوقت الذي يرى في نصوص توراتية أخرى التي لا تتوافق مع مزاعمه بأنها نصوص خرافية وأساطير يهودية من صنع اليهود. لا بل وأكثر من هذا فمن خلال قراءة كتابه المذكور نرى شحة معلوماته عن الآشوريين وكنيستهم وتاريخها والكثير منها مستمدة من مصادر فكرية غير موضوعية ومعروفة بمواقفها الإستبدادية تجاه الآشوريين أو النساطرة وحتى القليل الذي يستنبطه في هذا الكتاب فهو غير صحيح ويشوبه الكثير من الأخطاء. فعلى سبيل المثال إذكر القليل منها:

·        يذكر في الصفحة 77 من كتابه منتقيا من مقالة كتبها القس بطرس نصري "الكلداني" عام 1913 بأن قسم كبير من سكان جيلو (وهم من أحدى العشائر الآشورية الكبيرة المعروفة) مع ملكهم هم كاثوليك. صحيح أنه ماليك قمبرأبن ماليك بنيامين، وهو ماليك (زعيم) عشيرة جيلو تحول إلى الكاثوليكية بعد مقتل والد زوجته نمرود قبيل الحرب الكونية الأولى والذي كان له ميول كاثوليكية وهو عم البطريرك الشهيد مار بنيامين قد شكل بعد الحرب وبمساعدة السلطات الفرنسية في سوريا قوات سميت بـ "قوات الكلدو آشورية" وكان غالبيتهم من أبناء الكلدان والآشوريين الكاثوليك ولكن هذا لا يعني بأن أبناء جيلو تحول قسم كبير منهم إلى الكاثوليكية إذ فمن النادر جداً أن نرى عائلة كاثوليكية من عشيرة جيلو فهم متمسكين وظلوا متمسكين بإيمانهم بكنيسة المشرق "النسطورية". وبأسقهم مار سركيس.

·        يذكر في ص 87 بأن الملكة هيلانه أم الإمبراطور قسطنطين الكبير الذي أعتنق المسيحية في القرن الرابع الميلادي بفعل تأثير أمه بأنها مسيحية وأبنة قسيس سرياني من الرها. لا أدري من أين أستمد د. سوسه "سريانية" أبوية الملكة هيلانه، أفهل لأن والدها كان قسيساً  بيزنطينياً يعيش ويخدم كلمة الله في مملكة الرها (السريانية) أم كان فعلاً سريانياً لغة وثقافة وحضارة.. ونحن نعلم بأن د. سوسه لا يتوان أبداً في الإشارة إلى أن المملكة التي قامت في الرها هي عربية ولا أدري كيف كانت عربية ولغتها سريانية؟؟؟ ونحن نعرف بأن اللغة هي أسس الأساس في تحديد هوية الشعوب.

·         يفتقر د. سوسه إلى الدقة عندما يشير في ص 99 بان بعض النساطرة توجهوا إلى قبرص هرباً من بطش المغول في القرنين الثالث عشر والرابع فهذا غير صحيح فالنسطورية كانت منتشرة بين الأغريق في قبرص وكان لهم أساقفة من بلاد الرافدين ومن أصول أشورية وكلدانية وفي القرن الخامس تحولوا إلى الكثلكة بعد أن طلبوا من الفاتيكان أن يطلق عليهم تسمية الكلدان بدلا من النساطرة ثم في الأزمة اللاحقة أختفى هؤلاء ولم يعد أي نسطوري أو كلداني موجود في قبرص. كما يذكر بأن بعض النساطرة توجهوا إلى سواحل مالابار في جنوب الهند هرباً من نفس الإضطهاد وهذا جانب آخر من الفقر لدى د. سوسه في تاريخ الكنيسة المشرقية إذ لم يذهب إلى الهند غير بضعة أساقفة أو كهنة نساطرة إلى جنوب، فأتباع الكنيسة النسطورية في الهند كانوا من أصول هندية صرفة لغة وثقافة وتاريخاً.

·        في الصفحة 91 يذكر بأن الكنيسة المسيحية كانت مؤلفة من أربعة كراسي كنسية، أي كراسي بطريركية وهي إنطاكيا والإسكندرية وروما والقسطنطينية، ولكن أبسط المعلومات لتاريخ الكنيسة تقول بأنه كان لها خمسة كراسي بطريركية إذ نسى العلامة والباحث د سوسه أن يذكر أهم وأقدم وأشهر كرسي بطريركي وهو كرسي أورشليم والذي كان مار يعقوب أول بطريرك يجلس على هذا الكرسي المقدس.

·        يتطرق د. سوسه وهو العالم والعلامة في تاريخ الشعوب إلى لغة النساطرة وكثيراً ما يشير إلى النسطورية كلغة وثقافة ثم يشير إليهم كشعب أو مجتمع متجانس وهكذا من دون أي إعتبار للدقة العلمية المطلوبة في تحديد معنى اللغة والمقومات التي تحدد هوية الشعوب ونحن نعلم بأن النسطورية كانت معتقد وكنيسة الكثيرمن شعوب لهم لغاتهم القومية الخاصة بهم وليس حصراً بالآشوريين والكلدان فالإرتباك والإرهاصات واضحة وجلية في هذا المجال عنده وهي مسألة لا يقبلها العلم ولا المنطق.

·        يحاول د.سوسه إقحام نفسه في حقل السياسة والزعم بعلمه بالحركات القومية والسياسية الآشورية، فهو يركز في أكثر من مكان على هذه النقطة ويقلد الفكر العراقي الإستبدادي التقليدي تجاه الآشوريين ومسألتهم القومية في العراق. فالأسطوانة المشخوطة عند معظم المؤرخين العراقيين والتي يعيدها ويكررها د. سوسه والقائلة بأن الآشوريين طالبوا منذ الحرب الكونية الأولى وحتى عام 1933 وبتوجيه وتحريض من الإنكليز طالبوا بإنشاء دولة آشورية لهم في شمال العراق. فهذا الإدعاء ما هو إلا تزييف تاريخي وخلق أعذار لقمع الآشوريين في العراق وسحق مطالبهم البسيطة لا بل الساذجة التي طالبوا بها في مؤتمر قادتهم في العمادية عام 1932. (للمزيد عن هذا الموضوع أنظر كتابي المعنون: الآشوريين في السياسة والتاريخ المعاصر، من إصدارات إتحاد الأندية الآشورية في السويد، 1996).... ويرى د. سوسه، كما فعل غيره من المؤرخين العراقين، بأنه لغرض تحقيق مطلب الآشوريين وبطريركهم في إنشاء دولة آشورية في شمال العراق أرسل أرنولد ويلسون الحاكم الملكي العام في العراق برقية في آب 1920 إلى وزارة الحربية البريطانية طالباً فيها تحقيق هذا المشروع حيث قال فيها ما نصه (ستتهياً لنا فرص لإنصاف "الطائفة الآثورية" بطريقة ترضاها هي وترضاها الأفكار الأوربية وتمكننا من حل مشكلة من أعسر المشكلات الخاصة بالأقلية الدينية والجنسية في كردستان، وتخلصنا من خطر داهم على مستقبل السلم في شمالي العراق).... بالله عليكم هل يعقل أن تكون مثل هذه البرقية دعوة لإنشاء دولة آشورية في شمال العراق وتعتمد من قبل باحث وعلامة لإثبات وجهة نظره؟؟؟؟ أليس هذا نموذج على سذاجة و إنتهازية د. سوسه في هذا المجال؟؟؟ ففي منتصف التسعينيات من القرن الماضي أستهلكت أيام طويلة في البحث في المئات من الوثائق والبرقيات والتقارير والمراسلات والكتب الموجودة في المركز البريطاني للوثائق في منطقة كيوي في لندن عن هذا الموضوع فلم أجد ما يدعم زعم د. سوسه وغيره من المؤرخين العراقيين الذين تطرقوا إلى هذا الموضوع ولا وجدت أي وثيقة أو برقية صادرة من جهة رسمية بريطانية معتمدة تؤكد وعود بريطانيا في إنشاء دولة آشورية.

·        تاريخياً صحيح أن الآشوريين جلبوا اليهود إلى بلاد آشور ولكن المسألة الغريبة التي لا يقبلها المنطق والواقع هو في زعم د. سوسه بأنهم كانوا الأسباط العشرة المفقودة، فما هو الدليل عن كونهم تحديداً الأسباط العشرة المفقودة... أفهل ذهب الآشوريون إلى مملكة إسرائيل وأنتقوا عشرة أسباط فقط من بين الأسباط الأثنى عشر وجلبوهم إلى بلاد آشور؟؟ وهل كان كل الذين جلبوهم تحديداً من أبناء الأسباط العشرة... أسئلة وأسئلة أخرى لا أعتقد أي علامة أو باحث كدكتور أحمد سوسة أو ملهمه أساهيل غرانت يستطيع الإجابة عليها.

الدكتور أحمد سوسه يجتر الطبيب أساهيل غرانت:

كل ما ذكره د. أحمد سوسه ودونه في كتابه السالف الذكر هو بالتمام والكمال  أجترار ونقل بالحرف والمعنى ما زعم به مبشر الكنيسة البروتستانتية الأمريكية الطبيب  أساهيل غرانت في كون الآشوريين النساطرة أحفاد الأسباط العشرة اليهودية المفقودة.. فمن هو أساهيل غرانت؟.

كان طبيباً وفي مقتبل العمر تزوج ثم مرت حياته بتجارب عصيبة ومأساوية، ماتت زوجته الأولى في عام 1831 بعد أربعة سنوات من زواجه ثم تزوج مرة أخرى من أمرأة له نفس ميوله في المغامرة والإستكشاف. أثناء حضوره لمؤتمر تبشيري للكنيسة البروتستانتية الأمريكية في مدينة نيويورك أستلهم منه رغبته في الإندفاع نحو التبشير فحل رحاله مع عائلته إلى شمال بلاد مابين النهرين ليس للبحث عن الأسباط العشرة اليهودية المفقود بل لغرض التبشير بين النساطرة (المسيحيون الشرقيون... كما كانوا يسمونهم) والتي كانت تتزاحم عليهم الحملات التبشرية من مختلف الإتجاهات والبلدان والكنائس العالمية لكسب هذه الجماعة المسيحية القديمة إلى كنائسهم. قضى تسعة سنوات من سنة 1835 حتى وفاته في سنة 1844 في تلك المنطقة ومع الآشوريين النساطرة وخلال خمسة سنوات الأولى ماتت زوجته وهي مصابة بحمى لم تعرف أعراضها ثم بعد بضعة أشهر مات وخلال أسبوع واحد أبنتيه التوأمتين، وظل هو مريضاً وطريح الفراش عدة مرات حتى مماته في 24 نيسان من عام 1844 بعد أن أصيب بالتيفوس وهو شاب لم يتجاوز عمره أكثر من 36 سنة.

وغرانت كغيره من المبشرين البروتستانت يطغي العهد القديم على مناهجم الدينية وتفسيراتهم اللاهوتية وعلى نمط تفكيرهم الديني والتاريخي فتسود المعايير الثيولوجية واللاهوتية المستمدة من أصول توراتيه على دراساتهم التاريخية والكنسية. وكتاب غرانت نموذج مثالي في هذا السياق يعتمد على الفهم الأيديولوجي والسياسي للكتاب المقدس كمعيار لتسويغ تصوراته عن الآشوريين والتي كونها من خلال إختلاطه بهم ومن ظروفه المأساوية والإحباط الناجم عن فشل إرساليته في تحقيق أغراضها مع الآشوريين في منطقة هيكاري (للمزيد عن مكائد غرانت ودوره في الدوافع والإستفزازات للمذابح التي إرتكبها الزعيمان الكرديان مير بدرخان ونورالله في السنوات 1843 –  1848 ضد الآشوريين أنظر كتاب الآشوريون في التاريخ السالف الذكر – ص160 – 167). بعد وفاة غرانت تركز نشاط الإرسالية بين الآشوريين في منطقة أورميا وهناك وفقت في تحويل جماعات من الآشوريين من أتباع كنيسة المشرق إلى البروتستانتية. والإحباط الذي أصيب بها غرانت من جراء فشل إرساليته بين الآشوريين في هيكاري جعله أن يفقد توازنه الفكري ويرتبك في معايير تقيمه للظواهر والوقائع وقلب الموازين والنتائج رأساً على عقب بحيث تناقض نفسها وتخالف المنطق وبالتالي تفقد النسق والإنتظام المطلوب لكل بحث علمي كما تفقد شروط الربط المعقول بين أسباب أو عوامل تبرير الظاهرة أو الواقعة حتى تكون مقبولة لدى الآخرين.

أسردت هذه المقدمة عن حياة غرانت وأيديولوجيته وحالته النفسية المأساوية والإحباطية لتكون مدخلاً يسهل عملية فهم كتابهم المذكور. فخلال السنوات القليلة الأولى كان غرانت قد أنجز كتابه موضوع البحث والذي كان تحت عنوان طويل جداً وهو (النساطرة أو الأسباط العشرة المفقودة، إثباتات عن هويتهم، وصف لعاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم مع مخططات الترحال في آشور القديمة وأرمينيا وميديا وبلاد النهرين مع مقاطع من الكتاب المقدس حول النبوءة) والفرصة أتيحت لي وأنا في لندن أن أقرأ الطبعة الأولى الأصلية منه في مكتبة المتحف البريطاني في منتصف التسعينيات من القرن الماضي والذي طبع في لندن عام 1841 ثم تلته الطبعة الثانية في عام 1843 وترجم إلى الفرنسية، وكان الكتاب من أكثر المبيعات في حينه وفي السنوات اللاحقة وهذا ليس غريباً عندما نعرف بأن الكتاب يتحدث عن الأسباط العشرة اليهودية المفقودة الواردة في التوراة وكما نعلم بأن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يعتبر من أكثر المصادر إنتشاراً وتأثيراً في العالم، خاصة تأثير العهد القديم على العقلية البروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية.

لا أريد أن أغوض في البحث والتحليل عن المعايير التي أعتمدها غرانت في تنسيب أو تشبيه أو إرجاع أصل الآشوريين النساطرة إلى الأسباط العشرة اليهودية المفقودة والتي أجترها د. سوسه في كتابه السالف الذكر لأن غيري ناقشها ورد عليها بموضوعية متناهية ومقبولة كما إنني كتبت رداً طويلاً عن هذا الكتاب وعن كتاب سوسه ضمن سلسلة (نماذج في تزييف تاريخ الآشوريين – الجز الثاني- ونشر في مجلة نجم بيت نهرين، المجلد الرابع، العدد الثاني، تموز 1996 – ص19 – ص 33، التي يصدرها المركز الثقافي الآشوري في دهوك) فمن يرغب المزيد يمكن مراجعة هذه الكتابات. لهذا سأكتفي بهذا القدر وأتوقف عن الركض وراء المهاترات والمهازل التي أوردها الطبيب المبشر غرانت وتلميذه د.سوسه في تزوير أصل وتاريخ الآشوريين لذلك قررت الكف عن متابعة مزاعمهم.

وأخيراً:

في الفترة التي كتب غرانت كتابه في منتصف القرن التاسع عشر لم تكن المعايير المعروفة في تحديد هوية الشعوب متبلورة وسائدة بشكل واسع ومعتمدة في دراسة القوميات والشعوب ولم تكن هناك مصادر ودراسات موضوعية عن أصل الآشوريين أو النساطرة. في الوقت نفسه نرى بأن رجال الدين ومن أتباع الكنيسة البروتستانتية المتأثرين جداً بالتوراة وتحديدا المبشرين الأمريكيين الذين كان العهد القديم المنظار الذي ينظرون من خلاله ويحللون الظواهر الإجتماعية وفق مفاهيمه ويبحثون عن أصل الشعوب وفق هذا المنظار وكما فعل غرانت. زد على ذلك ففي الفترة التي زار غرانت الآشوريين النساطرة في موطنهم هيكاري كانت الأمية سائدة ولا يعرف القراءة والكتابة غير القليل جداً من الكهنة ورجال الدين ولم يكن يعرفون من الدنيا غير الكتاب المقدس وتقاليد كنيسة المشرق وطقوسه وكان الوعي الكنيسي والديني مطبقاً على عقليتهم وربما ضمن هذا الوعي كانوا يفتخرون بأن يكون إنتسابهم إلى اليهود أو إسرائيل باعاتبارهم شعب الله المختار ولم يتوانوا في تلك الفترات أن يطلقوا عليهم بـ (أبناء الخال)!!! وبالتالي كانوا من السهل أن يقعوا فريسة مزاعم غرانت وهو طبيب سهلت مهمنته أن يتغلغل بينهم ويصل إلى قمة الهرم الإجتماعي عندهم أي البطريرك. ففي هذه الأجواء يجب أن نفهم كتاب غرانت عن أصل النساطرة.

وعلى العكس من هذا، فإن د سوسه كتب كتابه المذكور في الربع الأخير من القرن العشرين حيث كان الآشوريون في قمة وعيهم القومي ولهم تنظيمات سياسية وإجتماعية ومطبوعات منتشرة بشكل واسع سواء في العراق أم البلدان الشرق أوسطية الأخرى أم في المهجر وكانت هناك المئات من الكتب وبمختلف اللغات عن تاريخ الآشوريين وأصلهم والجذور التاريخية للنسطورية وكنستهم المشرقية ومما لاشك فيه كان د. سوسه مطلع على الكثير من هذه الكتب ولكن كل هذا كان بالنسبة له لا يساوي شيئاً في مقارنتها مع قوة الدوافع النفعية والإنتهازية التي هيمنة على عقليته عند كتابة الكتاب أعلاه وخضوعه للحملة البعثية في أعادة كتاب التاريخ .

إن المنهج الإنتهازي في معالجة أصل وتاريخ الآشوريين قاد. سوسه إلى تفسيرات ونتائج عجيبة وغريبة لا تقنع إلا السائرين على نهجه في تزيف تاريخ الآشوريين ويخدم الفكرالإستبدادي لحزب البعث والعروبيين والإسلامويين. فهي نتائج يشع منها عنصر الإستهجان لا بسبب مخالفتها للوقائع التاريخية ومصادرها العلمية فحسب بل بسبب تناقضها مع نفسها وبشكل صارخ وعميق وساذج يثير الإستغراب والإشمئزاز عن كيفية تقبلها بالنسبة للكاتب نفسه والجهة التي أصدرت الكتاب سيما وأن د. سوسه معروف في الأوساط العلمية العراقية والعربية والعالمية بإعتباره "عالماً جليلاً" وعضو في عدة مجاميع علمية ومنها المجمع العلمي العراقي. ولكن التساؤل يبقى قائماُ لماذا حشر د. سوسه نفسه في البحث في التاريخ القديم لليهود وبالتالي لم يجد ضياع أسباطهم العشرة إلا في النساطرة الذين بقوا على "نسطوريتهم" وفي الذين صبأوا إلى الكثلكة. شخصياً ومن خلال قرائتي للكتابين أعلاه وبعض المقالات التي كتبها د. سوسه لم أجد الجواب إلا في هدفين سعى د. سوسه إلى تحقيقهما:

الأول: الإنتقام من ماضيه وتبرير ترك دينه اليهودي وإعتناقه الإسلام... وهذه نظرية معروفة في علم النفس الإجتماعي عن الذين يتركون دينهم الأصلي ويعتنقون ديناً آخراً.

ثانياً: وهو الأهم، خدمة الفكر الإستبدادي لحزب البعث المقبور في العراق تجاه الأقليات وكما بينًا في أعلاه وذلك لأغراض نفعية. ثم بعد ذلك خلفته أبنته الدكتور عالية أحمد سوسه الإستاذة في قسم التاريخ في جامعة بغداد فبدأت هي الأخرى في خدمة أفكار والدها وتروجيها كغطاء لأصلها اليهودي ولا ندري ما الذي حل بمصيرها بعد كوارث عام 2003 ومن المعتقد بأنها خارج العراق وربما في الأردن وهي قريبة إلى إجدادها ولا يحتاجها إلى عبور الحدود للعودة إلى أصولها الأولية.

وأخيراً يجب أن لا ننكر بأن د. سوسه كان باحثاً كبيرا وعلامة في الهندسة المدنية وخاصة في هندسة الري أما في مسألة البحث عن تاريخ اليهود وتنسيب تاريخ كل الشعوب الأخرى كالأراميين والعموريين والبابليين والآشوريين والكلدانيين إلى العرب وتجريد الأساس التاريخي للآشويين عن أجدادهم القدماء وإرجاعه إلى الأسباط العشرة اليهودية المفقودة فأنه بلا شك مزور من الدرجة الأولى للتاريخ وخادم مطيع ومخلص للفكر العروبي والإسلاموي المستبد تجاه المختلف.