قصة قصيرة

 

قارع الناقوس العجوز*

 

                                            

                              

 

                                    

                                   ترجمة  -  يوآرش هيدو

                            

 

 

                 

               غابت الشمس وبدأ الظلام يخيم على تلك القرية الصغيرة المستكنة بالقرب من النهير البعيد في غابة الصنوبر والتي اندمجت في ذلك الشفق البنفسجي الذي يميز ليالي الربيع المرصعة بالنجوم ، حينما تعمق الابخرة المتصاعدة من الارض ظلال الخمائل وتملأ المساحات الخالية من  الاشجار بضباب أزرق رقيق .  كان كل شئ ساكناً ، حزيناً يوحي بالكآبة .  هجعت القرية بهدوء .  ولم يكن بالامكان رؤية الاشكال القاتمة للأكواخ البائسة إلا بصعوبة بالغة .   وكانت بعض الاضواء تومض هنا وهناك وبين الفينة والفينة يسمع صرير باب ، أو نباح كلب .  ومن حين لآخر تظهر من عتمة الغابة المظلمة هيئة إنسان راجل أو فارس ، أو عربة نقل تسير مرتجة .  كان هؤلاء من سكان القرية الصغيرة المنعزلة وهم يذهبون إلى كنيستهم إحتفاءً بالعطلة الربيعية العظيمة .

 كانت الكنيسة منتصبة على تلة وادعة في وسط القرية .  وكان برج الناقوس العالي العتيق المظلم مغموراً بالضباب .  وكان بمقدور المرء أن يسمع صرير السلم المؤدي الى البرج وقارع الناقوس العجوز يتسلقه وبيده فانوسه الصغير الذي يبدو وكأنه نجمة تومض في الفضاء.

لقد أصبح تسلق السلم أمراً في غاية الصعوبة بالنسبة للرجل العجوز .  فساقاه واهنتان لم يعد بامكانهما أن تخدماه كما ينبغي بعد هذا العمر الطويل ، وعيناه لا تبصران بوضوح .  إن رجلاً هرماً مثله كان ينبغي أن يكون الآن قد رقد .  لكن الله إستبقاه حتى اليوم .  لقد دفن أبناءَه وأحفاده ، وسار في جنائز الشيوخ والشبان الى مثواهم الاخير ، لكنه بقي حياً حتى الآن .  فالاعمار بيد الله كما يقولون .  إنه لشئ صعب حقاً .  لقد حيّا العطلة الربيعية مرات عديدة ، ولا يستطيع أن يتذكر كم من مرة تسلق ذلك البرج ذاته وجلس منتظراً حلول الساعة المحددة . والآن قد شاء الله ذلك مرة أخرى .

 إتجه الرجل العجوز الى الفتحة الكائنة في البرج واتكأ على الدرابزين .  نظر الى الاسفل واستطاع ان يميز في الظلام  جبّانة القرية التي بدت فيها الصلبان العتيقة باذرعها الممدودة وكأنها تحمي قبور الراقدين تحتها . وفوق هذه الصلبان كانت تتدلى هنا وهناك أغصان عديمة الاوراق لاشجار البتولا .

 تصاعدت الرائحة الطيبة للبراعم الفتية الفائحة في الاسفل الى منخري ميخاييج ومنحته شعوراً بكآبة الرقاد الابدي . ترى أين سيكون بعد سنة من الآن ؟ هل سيتسلق هذا الارتفاع مرة أخرى ، تحت الناقوس النحاسي ليوقظ الليلة الهاجعة بجلجلته المدوية ، أم إنه سيكون راقداً في زاوية مظلمة من المقبرة تحت صليب ؟  الله يعلم ذلك ! على أية حال إنه مستعد تمام الاستعداد ، وفي غضون ذلك فقد منحه الله سعادة إستقبال العطلة مرة أخرى .   "المجد لله !" همست شفتاه العبارة المألوفة بينما رفع بصره الى السماء المرصعة بملايين النجوم المتلألئة ، راسماً علامة الصليب .

-      "ميخاييج .... يا ميخاييج " ناداه عجوز بصوته المرتعش .  تفرس القندلفت (الساعور) المسن في برج الناقوس حاجباً عينيه الكليلتين بيده ، محاولاً أن يرى ميخاييح .

-"ماذا تريد ؟ ها انا ذا ". اجاب قارع الناقوس ناظراً الى الاسفل من برح الناقوس. -  " ألا تستطيع ان تراني؟"

-       " كلا ، لا أستطيع . لقد آن اوان القرع . ماذا تقول ؟"

 حدّق الاثنان في النجوم ، عدد لا يحصى من انوار الله تتلألأ في السماء !  وكان الدب الاكبر المتقد يعلوها  جميعاً .  تأمل ميخاييج المشهد.......

-       " كلا .... لم يحن الآوان  بعد ... أنا أعرف متى .."

 حقاً كان يعرف .  لم يكن بحاجة الى ساعة يدوية .  إن نجوم الله ستخبره متى ينبغي أن يقرع ....

 السماء والارض ، السحابة البيضاء التي تحوم برقة عبر السماء ، الغابة الظلماء بحفيفها الغامض وخرير النهر الصغير الذي يحجبه الظلام – كل ذلك كان مألوفاً له ، بل كان جزءاً لا يتجزأ منه .  إنه لم يعش حياته عبثاً هنا . لقد تمثل الماضي البعيد أمام ناظريه .  لقد تذكر كيف تسلق هذا البرج لأول مرة . برفقة أبيه . يا إلهي !  لقد كان ذلك منذ زمن بعيد ، ومع ذلك كم يبدو قريباً ! رأى نفسه غلاماً أشقر ، عيناه متألقتان ، والريح – ليس الريح التي تثير الغبار في الشوارع ، بل ريح غريبة محببة ترفرف بجناحيها الصامتين وتشعث شعره .  ها هو ذا  يرى في الاسفل كائنات صغيرة تسير هنا وهناك ، واكواخ القرية تبدو صغيرة والغابة قد تقلصت ، والارض المقطوعة الشجر ذات الشكل البيضوي التي تنتصب عليها القرية بدت شاسعة لا نهاية لها.

 - "وها هي ذي ، جميعها !" إبتسم العجوز وهو يتفرس في المساحة الخالية من الاشجار.....  ذلك كان نمط الحياة ..... عندما يكون  المرء في مقتبل شبابه ، لا يستطيع أن يرى النهاية .  أما الآن فها هي ذي ، قريبة كما لو كانت في راحة اليد ، منذ البداية حتى القبر الذي تخيله لنفسه هناك في تلك الزاوية من الجبّانة ... حسناً ، المجد لله !   لقد آن اوان الراحة .

 لقد حمل عبءَ الحياة بشرف وجدارة ، والارض الرطبة بدت وكأنها أمه الحنون التي تاق اليها ...... قريباً.... قريباً جداً

ها قد حانت الساعة .  نظر ميخاييج الى النجوم تارة أخرى ، خلع قبعته ، رسم علامة الصليب وأمسك بحبال الناقوس .  في لحظة واحدة وعلى أثر الدقة المدوية ردد هواء الليل الصدى .  قرعة أخرى ... وثالثة ورابعة .... واحدة تلو الاخرى مالئة العشية الهادئة المقدسة ، وهناك تدفقت أصوات غناء قوية متطاولة .

 لقد قرع الناقوس معلناً بدء القداس .  كان ميخاييج فيما مضى حريصاً على النزول ليقف في الزاوية بالقرب من الباب ليصلي ويسمع الترانيم .  لكنه هذه المرة مكث في برج الناقوس . لقد كان الطريق الى الاسفل طويلاً  فضلاً عن إنه كان يشعر بالتعب .  جلس على الدكة وفيما هو يصغي الى أصوات النحاس المتلاشية ، إستغرق في تفكير عميق .  ولكن فيما هو يفكر ؟  لم يكن يدري على وجه الدقة .  كان برج الناقوس مضاءً على نحو باهت بنور فانوسه الضعيف والنواقيس التي كانت ما تزال تهتز كان يلفها الظلام ،  وبين الفينة والفينة كانت تصل الى مسامعه دمدمة غناء خافت في الكنيسة ،  بينما كانت الريح تحرك الحبال المربوطة بألسنة النواقيس الحديدية .

 أحنى العجوز رأسه على صدره ، بينما كان عقله مشوشاً بالتخيلات والاوهام .

"أنهم ينشدون الان ترتيلة " ، قال في ذاته وتخيّل نفسه في الكنيسة حيث يسمع أصوات الاطفال في جوقة المرتلين وتمثل له الأب ناحوم ، وقد رحل عن هذا العالم منذ زمن بعيد ، وهو يقود جموع المصلين ، المئات من الفلاحين الذين ترتفع وتنخفض رؤوسهم مثل سيقان القمح الناضج أمام الريح .

 رسم الفلاحون علامة الصليب ... إنه يميزهم واحداً واحداً ووجوههم مألوفة رغم انهم قد ماتوا جميعاً .... هناك أبصر وجه أبيه القاسي المتجهم كما تمثل له أخوه وهو يصلي بحماسة .  وكان هو نفسه أيضاً هناك في أوج إزدهاره بالصحة والقوة وهو ممتلئ على نحو غير واع برجاء السعادة .  توهجت أفكاره ملقيةً ضوءً على سلسلة أحداث مختلفة في حياته الماضية  .... لقد شهد أياماً عسيرة ، كدّ وتعب وقاسى الأحزان والأسى والهموم والآلام .... أين كانت السعادة ؟ إن سوء الطالع بامكانه أن يرسم التجاعيد حتى في وجه فتى وأن يحني ظهراً قوياً وأن يعلمّ صاحبه الندب والتحسر كما علم أخاه الاكبر .

 وهناك الى الجهة اليسرى ، بين نساء القرية ، تقف حبيبة قلبه ، زوجته الوفيّة ، وقد أحنت رأسها في خشوع .  لقد كانت إمرأة طيبة حقاً .  عسى أن ترث ملكوت السماء !  لقد كابدت المسكينة الكثير من المحن والآلام ....  إن الفقر المستديم والعمل الشاق والأحزان  التي يتعذر تجنبها في حياة إمرأة ، تذبل جمالها وتجعل عينيها الجميلتين تفقدان رونقهما ، وبدلاً من الصفاء والهدوء ، يستوطن الخوف المربد من المصائب المفاجئة على نحو مستديم في وجهها ....  حسناً أين السعادة إذن ؟  لقد ترك لهما إبن واحد ، رجاؤهما الاوحد ومصدر فرحهما لكنه كان أضعف من أن يقاوم  أو يصمد أمام الإغراء .

 وكان هناك عدوه اللدود الثري راكعاً وهو يصلي طالباً الغفران عن آثامه وظلمه لليتامى والأرامل .  رسم علامة الصليب وضرب جبهته على الارض مراراً  .

لقد فار قلب ميخاييج غضباً في داخله .  والوجوه القاتمة للأيقونات تتجهم فوق أحزان الانسان وشروره  وحماقته .

 كل ذلك قد صار في عداد  الماضي .  وبالنسبة له فان العالم باسره مقيد الآن ببرج الناقوس هذا ،  حيث تعول الريح في الظلام وتحرك الحبال....

-      "ليكن الله ديانك " ، غمغم الرجل العجوز محنياً رأسه الاشيب  ، بينما تدحرجت الدموع برفق على خديه .

-      "ميخاييج .... يا ميخاييج !  هل غفوت هناك؟" جاء صوت مناد من تحت .

-      "ماذا ؟" أجاب الرجل العجوز وهو ينهض واقفاً على قدميه .

-      "يا إلهي ! أكنتُ حقاً غافياً ؟ لم يحدث لي مثل هذا من قبل قط !"

 وبيدين رشيقتين متمرستين أمسك الحبال .  وفي الأسفل تحركت جموع الفلاحين هنا وهناك مثل كثيب النمل والشعارات المتألقة بالقماش المطرز ترفرف في الهواء......وسار الموكب في تطواف الكنيسة التقليدي .

 وسرعان ما وصل الهتاف البهيج أذني ميخاييج "لقد قام المسيح من بين الأموات .... حقاً قام !".

 وأستجاب قلب الرجل العجوز بحماس لهذا الهتاف .  وبدت له الشموع النحيلة وكأنها تشتعل على نحو أكثر توهجاً  ، وجمع الفلاحين أكثر تهيجاً والشارات بدت مفعمة بالحيوية وحملت الريح كتل الأصوات على أجنحتها مازجة أياها مع رنين النواقيس المرح المدوي .  لم يقرع ميخاييج العجوز مثل هذا من قبل قط !!   لقد بدا وكأن قلب الرجل العجوز قد إخترق النحاس الميت فتدفقت نغمات النواقيس وهي تغني وتضحك وتبكي في آن معاً ، وألتحمت في دفق مهيب من الإيقاع وأرتفعت عالية إالى السماء المتألقة بالقناديل التي لا تعد ولا تحصى ، ثم ترتعش وتعود  الى الارض .  إن ناقوساً ضخماً من النحاس أعلن " قد قام المسيح !" وصدح صوتان وهما يرتجفان مع الدقات المتناوبة للألسن الحديدية ، مرددين بحبور " قد قام المسيح !".  وبدا البرج العتيق وكأنه يرتجف ويهتز ، ورددت الريح وهي ترفرف بأجنحتها في وجه قارع الناقوس العجوز  "قد قام المسيح ! ". وأسرع صوتان نديان يتزاحمان مع الاصوات الاخرى القوية ، ومثل طفلين صغيرين هتفا بسرعة وأبتهاج "قام المسيح !".

 لقد نسي العجوز حياته الخاصة المليئة بالأسى والهموم .  نسي إن حياته كانت مقيدة بحدود البرج الكئيب الضيقة .  وبأنه كان وحيداً في هذا العالم مثل جذل قديم كسرته العاصفة .  لقد سمع تلك الأصوات ....  أصوات الغناء والبكاء التي تعالت نحو السماء ثم عادت ثانية لتسقط على الارض الحزينة .

 وخيل اليه أنه محاط بأ بنائه وأحفاده ، وأنه يسمع أصواتهم المرحة ، أصوات الصغار والكبار تمتزج معاً في جوقة وتغني له عن السعادة والفرح الذين لم يذق طعمها في حيانه قط .....  سحب الحبال ، بينما راحت الدموع تنحدر على خديه ، وخفق قلبه بشدة بوهم السعادة .... وأصغى الناس على الارض وقال بعضهم لبعض بأن ميخاييج لم يقرع مثل هذه القرعة من قبل ! 

 وعلى حين غرة أطلق الناقوس الضخم صوتاً غامضاً ثم خرس !  ثم دوت النواقيس الأصغر حجماً بنغم لم يكتمل ثم توقفت وكأنها قد أحست بالارتباك ، لتصغي الى الصدى الحزين للنغمة المتطاولة الخافقة وهي تضمحل في الهواء . إرتد قارع الناقوس العجوز الى الدكة وسال آخر دمعتين حزينتين بهدوء على خديه الشاحبين ...."أيها الناس !! إبعثوا بالبديل ...... لقد قرع ميخاييج العجوز قرعته الأخيرة ! "

_______________________

*

  القصة للكاتب الروسي فلاديمير كورولينكو(1853-1921) أنفق الكاتب شطراً كبيراً من حياته في المنفى .  إن الكثير من كتاباته مبنية على أساس من أحداث جمعها في سايبيريا . إن قصص كورولينكو التي يتغلب عليها الطابع الرومانسي، تتميز بالعاطفة العميقة والبساطة في آن معاً .  وقصة "قارع الناقوس العجوز" التي ترجمتُها من الانكليزية هي واحدة من أجمل قصصه القصيرة .  "المترجم" .

 

        عن كتاب :  Great Short Stories of the World      

                   William Heinemann Ltd.                                        

London, England