تساؤلات فكرية ... حول أهمية الكلام

 

                     

 

                              

                                               

                                

                                                   

                                                       

                                                        هرمز طيرو

               

    

  كنت قد نشرت قبل فترة قصيرة مقالاً بعنوان ( تساؤلات فكرية ... حول مفهوم الكتابة ) وقد كانت له أصداؤه الكبيرة بين أبناء شعبنا ، حيث إن عدد القراء قد وصل في احدى المواقع الإلكترونية فقط إلى أكثر من 6000 ألاف قارىء . كما وتعاقبت ردود الافعال حول المقال من خلال الأتصالات الهاتفية أو أرسال E . mail إلى بريدي الإلكتروني بالنقد أو بالتعليقات الإيجابية وذلك لأن المقال تعرض لظاهرة هي جزء من حياتنا الثقافية وترتبط بنا بشكل معنوي ، أي بظاهرة الكلمة المكتوبة التي لا تصل إلى الناس لأسباب كنت قد عددتها مسبقاً في المقال ، وظننت أنذاك إن المسألة كانت تتعلق فقط على تدني مستوى القراءة والعزوف عن الكتابة ، ولكنني اكتشفت تحديداً -- بعد أن ساقني القدر لكي أكون جزء من عدة حلقات حوارية -- بأن هناك ظاهرة أخرى لها موقعها الخاص وتتصل هذه المرة " بأهمية الكلام " ذاته ، علماً أن الكلام  هو :

1 – علم وفن وجمال .

2 –  الحالة التعبيرية التلقائية للإنسان .

3 –  مقوم لهوية الإنسان وإنعكاس لشخصيته .

ومن الضروري هنا أن نشير بأن الفيلسوف اليوناني سقراط ( 384 – 322 ق. م ) قال لأحد تلاميذه في أحدى جلساته الحوارية " تكلم حتى اعرفك " وذلك لأن الكلام هو أول وسيلة يمكن الحكم بها على الإنسان ، طبعاً ليست الوسيلة الوحيدة ولكنها في صدارة الوسائل . من هنا نستطيع أن نفهم إن كل ما يطرحه الإنسان من الأفكار يمثله شخصياً ويعكس للناس ما هي حقيقته وما هو مستوى ثقافته ورقي فكره . هذا على الصعيد الفكر الإيجابي أما على الصعيد الفكر الأخر فإن الذين قالوا " إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " فهؤلاء حسب اعتقادي هم أشخاص انسحابيون سلبيون ، وهذا ما حدث للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ( 1925 – 1980 م ) في الوقت التي كانت ثورة الطلاب في فرنسا في شهر مايو عام 1968 في قمة حراكها السياسي سئل الفيلسوف سارتر عن تقيميه للثورة الطلابية فقال بالحرف الواحد : إن سكوتي هو خير تعبير عن رأيي . وهنا يتضح بأن جان بول سارتر قد وقع هو ايضاً في دائرة السلبيون لأن في مثل هذه المناسبة الكبيرة يرقي الكلام إلى مستوى الذهب ويصبحالسكوت دون مستوى الفضة . لأن المهم في المتكلم هو :

1 – الاقتصاب في الكلام .

2 – الموضوعية في التحليل .

3 – الصدق في  الكلام .

ومع ذلك فأنني دائماً أدخل في حوار مع نفسي وأتسأل بسؤال أفتراضي وهمي يجول دائماً في عقولنا : من أن الكلام الحلو وطليّ الحديث بعبارات جميلة هما تعبيران عن قوة الشخص وتفوقه ، بينما الحقيقة هي في ( أن الحديث مهما كان متميزاً ورائعاً ، فإذا لم يكن يستند إلى مرجعية ثقافية واسعة وقاعدة فكرية صلبة فإنه يبدو كالعملة الورقية بدون غطاء ) . ومن هنا يتضح بإن العلاقة بين قدرة الإنسان على الكلام والتفوق الشخصي ليس شرطاً كما أن التلازم بينهما ليس حتمياً ، لأن الكثير من الأشخاص يجيدون الكلام المنمق لكن كلامهم هذا لا يقف وراءه عقل ولا يستند إلى فكر معرفي ، عندئذ تصبح الحالة كما عبر عنها الفيلسوف الأسكتلندي ومفكر في الاقتصاد السياسي  ادم سميث        

( 1723 – 1790 م ) بشيك بدون رصيد  .

 الذي أريد قوله في هذا المقال هو الكم الهائل من التصريحات والاحاديث التي يطلقها بعض من المتعلمين والسياسيين وحتى العامة من الناس بغير قيد أو رادع ، بحيث أصبحنا امام مشكلة أجتماعية / ثقافية / فكرية وهي : الأسهاب في الكلام في عصر يبدو فيه الإيجاز مهماً ومطلوباً ، ومن أجل معالجة هذا الموضوع نطرح الملاحظات التالية :

 اولاً : أن الكلام بكافة مرجعياته لا بد أن يرتبط بلغة معينة وهنا لا نعني المعنى المجرد للغة بل نقصد منها :

أ – طبيعة طرح الموضوع .

ب – مستوى الحديث .

ج – نوعية الحوار . 

لأن الكلام الأصيل له علاقة  باللغة الرفيعة وطريقة التفكير ووفرة المعلومة . لذا فأن الكثير من الحوار الذي نسمعه وكأنه مفردات لفظية لا تستند على قاعدة فكرية وعلمية ولا على فكر يقف وراء هذه المفردات .  

ثانياً : إن لغتنا السريانية ( الأرامية ) الجميلة تعتبر واحدة من أكثر اللغات ثراءً وجمالاً باللفظ وغنية بالمحسنات والتشبيهات ، وهذا ما يجعل لغتنا مصدراً للمتعة الثقافية لكن بشرط أن لا يأتي ذلك على حساب الفكرة ، إذ أن اللغة الجميلة مع الفكر العميق هما في النهاية مصدر الأرتقاء والتطور والتألق ، ولا ينهض أي واحد منهما بدون الأخر .

 ثالثاً : أننا شعب مغرم ومتميز بالكلام وقادرين عليه لكن النتيجة في بعض الاحيان تكون أقل بكثير من فحوى الكلام . وأحياناً أخرى يكون الكلام محدوداً مقارناً بمساحته وهذا في ظني قد يكون عيباً لكن العيب ليس في لغتنا الثرية وامكاناتها الواسعة بل العيب يكمن في :

أ – افتقار الدقة في التعبير .

ب – النبرة الحماسية العاطفية في الكلام .

ج – غياب التحديد في الموضوع .

د – المطلقية في مداهمة الأحداث والموضوعات.  

رابعاً : خلال الفترات الماضية وأثناء قيامنا بحوار مع عدد من الأشخاص -- مثقفين / سياسيين --أكتشفت بأن القاسم المشترك بين الكثير منهم هو القدرة على الكلام والرغبة فيه دون أن تكون هناك علاقة موضوعية بين عمق الكلام والامتياز في التكلم . وهذا الذي دعاني إلى أن أطرح في هذا المقال هذا التسأل عن " أهمية الكلام " .

 خامساً : أن الكلام في شعب مثل شعبنا أو في أمة مثل أمتنا تلتهم الأمية الثقافية عدد كبير منه  تبدو خطورة الكلام أكثر بكثير من خطورة الكتابة . فهناك فرق كبير بين السمع والقراءة ، فالسمع موقف تلقائي بينما القراءة تصرف تعمدي ، فقد يصادف أن يسمع الإنسان كلام بغير إرادته لكن لا يقراء إلا برغبته وشعوره . ومن هنا نستنتج بأن أهمية الكلام تسبق وحسب اعتقادي أهمية الكتابة .

 لذا انتهز الفرصة في هذا المقال لطرح مسألة ذات أهمية كبيرة ترتبط أساساً بوجود قاعدة فكرية رصينة وراء كل كلام وإلا اصبحنا امام لغو لا طائل منه وثرثرة لا مبرر لها . في الاونة الأخيرة حرصت شخصياً على متابعة الحوار المفتوح الذي أقامه الاعلامي ولسن يونان في اذاعة S B S Australia Assyrian Program  حول أهمية لغتنا السريانية في الحفاظ على هويتنا . في مستهل هذا الحواركان للعالم في اللغة والصوت البروفيسور ادور اوديشو دور محوري في اللقاء لأنه وضع لكلامه افكاراً محددة ومختصرة تستند إلى فكر وعقل علمي قائم على البحث الأكاديمي الميداني ، عليه فإن الحوار الذي دار بين ( اللغوي  بنيامين حداد /  البروفيسور ادور اوديشو / الدكتور ليون برخو / عادل دنو / يوحنا بيداويد / بنيامين بنيامين ) يعتبر الرد الإيجابي لتساؤلاتنا الفكرية ... حول أهمية الكلام وإنموذجاً يحتذى به في المستقبل .

 وفي هذا الصدد ، لا زلت أذكر جيداً تجربة شخصية تحضرني دائماً وتلح على خاطري كلما فكرت في " معنى الكتابة أو في أهمية الكلام " . عندما كنا طلاباً في الفنون الجميلة ببغداد وأثناء أجراء بروفات اليومية على المسرحية ( المسيح يصلب من الجديد ) للكاتب اليوناني ( نيكوس كازانتزاكي 1885 - 1957 م ) وأخراج عبد المطلب السنيد وأشراف الأستاذ الجامعي قاسم محمد ، ألقيت مقطعاً من الحوار المخصص لي في المسرحية في استحسان واضح من زملائي الطلبة والأستاذ رغم إن بعض الطلبة لم يرق لهم ادائي بحجة أن " رصانة اللغة قد تستهوي المستمع والمشاهد احياناً مما يجعله يبتعد أكثر عن جوهر الفكرة " هنا تدخل الأستاذ قاسم محمد وعلق على الملاحظة قائلاً : إن سلامة اللغة إذا اضيفت إلى جوهر الفكرة فالمشهد كله سيصبح إضافة إيجابية ، لأن الشكل هو جزء من المضمون ، وأسترسل الأستاذ قاسم  وقتها بضرب الأمثلة من ثقافات متعددة ترتبط برجال معروفين في التاريخ البشري تميزوا بروعة الأسلوب وجمال في اللفظ على نحو لم ينتقص من قيمتهم الفكرية ومكانتهم العلمية  .

 لقد كان أباءونا وأجدادونا قد اعطوا عناية كبيرة لعلم الكلام خلال مراحل تطوراللغة السريانية من أمثال برديصان / مار ابرم / مار نرساي / ابن العبري / مار عوديشو الصوباوي .. إلخ ، في الوقت ذاته اعطى الغرب في ظل الحضارة الغربية وزناً كبيراً لفن الكلام في حياة وتراث تلك الشعوب والأمم ، لأن الكلام هو الرابط الوحيد بين الناس من البداية وحتى النهاية إضافة إلى إنه الوسيلة الأهم لربط الإنسان بلغته شعورياً كان أو غير شعوري . وفي ادناه العديد من النتائج المرتبطة بتساؤلاتنا الفكرية حول اهمية الكلام وفي صدارتها :   

اولاً : إننا شعب البعض منا تعود وفي مناسبات كثيرة على القول ما لا يفعل وأن يفعل ما لا يقول ، وهذه الظاهرة خلقت لدينا فجوة كبيرة بين الفعل والفاعل مما أدى إلى سلب الإرادة والمصداقية ومساحة الاقناع لدى الأخرين سواء الذي يستقبل الفعل أو غيره الذي يتابع الفاعل . حسب اعتقادي إن هذه الازدواجية هي جزء الأكبر من صميم مشكلة القيمة الصادقة والحقيقية للكلام لدى أبناء شعبنا .

 ثانياً : إن حديث المتكلم الذي يكون بالعبارات النمطية وبأشكال لفظية قد يجعله مكرراً ويفقد جدواه لأنه حديث معاد لا يقترب من جوهر المنطق ولا يخرج من دائرة الظاهرة الصوتية .

 ثالثاً : إن الذين لا يضيفون شيئاً جديداً لكلامهم قد لا يقتربون شيئاً من قول الحقيقة ايضاً .

 رابعاً : الذاتية التي تصبغ مساحة واسعة من كلامنا له انعكاساته السلبية على ما نقوله ، حيث يبعد الحديث من الموضوعية ومستوى المصداقية ، بينما التجرد عن الذاتية هو الذي يقرب الصدق مع النفس والوضوح مع الذات ، ولا يمكن أن يكون هناك فكر علمي وأكاديمي متطور مرتبطاً بادعاء شخصي ومغرم بالذاتية . باقتضاب ، إن الحديث الأصيل هو ذلك الحديث الذي يكون صادقاً ومباشراً وأميناً .

 خامساً : يجب أن يكون واضحاً إن الكلام ليس أداة للتعبيرعن الفكر فقط بل أنه مؤشر لمن يقف وراءه ودرجة ثقافته ونوعة فكره وعمق ادراكه ومستوى فهمه للأخر ، فلا يوجد متحدثاً ماهراً إلا إذا كان مدركاً ماذا يقصد بكلامه ومن يستقبل خطابه . ليس المهم الحكم على المتكلم بسرعة الكلام بل المهم هو ضبط الايقاع وذلك من أجل خلق الحالة الهرمونية المطلوبة بين المتكلم والمستقبل للكلام . إن اهمية الكلام مسألة نسبية ترتبط بشكل جدلي بين المتكلم والمستمع  .

 من خلال هذه السطور نستشف الخطوط الفكرية في تناولنا هذا الموضوع لأنني أريد أن نحدد فيما بعد إطاراً فكرياً للحديث لأن الكلام هو :

ا – وسيلة الإنسان لتفاهم مع أخيه الإنسان .

ب – مرأة تعكس عمق ثقافة المتكلم وقدارته الفكرية .

 استناداً إلى النقطتين في اعلاه ،  فإن الصمت لا يخفي عبقرية أو عمقاً فكرياً حقيقياً كما قلنا سابقاً ، لأن العلاقة الإزدواجية بين الفكر والكلام هي جوهر قضية الحرية في كل العهود والعصور والأزمنة .  هناك رابطة قوية بين حرية التفكير وحرية الكلام وهذه الرابطة لا تقبل بنصف طريق ، وهي في النهاية هدف مهم يصل إليها الإنسان بالألتزام الثقافي والفكري والأجتماعي والأخلاقي مهما كانت الرؤية بعيدة عن الهدف أو كانت الرؤية ضبابية غير واضحة . وهكذا يمكننا القول بأن اهمية الكلام يحدده في النهاية ذلك الرصيد الذي يقف وراءه ويمده بالأفكار والرؤى السليمة ، ويقوم بترتيب أولويات القضايا ويأتي بالمسائل الكبيرة قبل الصغيرة حسب المقولة الامريكية " العقل الكبير يهتم بالمسائل الكبيرة والعقل الصغير يهتم صاحبه بالمسائل الصغيرة " . عندئذ يقف الإنسان أمام مسؤولية الحوار وصدق الأفكار .

 اخيراً ، نتطلع أن تكون الكتابة و الكلام بين أبناء شعبنا على مستوى الحوار الذي جرى بين نخبة من الأكادميين والمثقفين من أبناء شعبنا في برنامج الإذاعي SBS أو تلك المقالة والتعليقات التي نشرت في منتديات Ankawa .com للكاتب يوحنا بيداود . أما إذا كانت الكتابة أو الكلام غير ذلك وخاصة عندما يكون الهدف منهما هو فقط التشهير فحسب أو النيل من هذه الحركة / الحزب / المنظمة / رجال الدين / ناشط قومي / ناشط سياسي .. إلخ  وبدون خلفية فكرية أو علمية عند ذاك فإن اصحاب هذا النوع من الكتابة أو الكلام يضعون أنفسهم في دائرة " أصحاب العقول الصغيرة " لأن اهتماماتهم كانت تدور حول مسائل صغيرة .