مقاتل العراقيين

 

 

              

       

 

 

 

 

 

                                         

                                          د . مهند البياتي

 

 

شهدت ارض وادي الرافدين قيام اولى الحضارات الانسانيه، فلقد عرف شعبها كيفيه زراعه القمح و الشعير ومنهم انتقلت هذه الزراعه للعالم، و كانوا اول من دجن الحيوانات. و بسبب خصوبه ارضها و وفره مياهها، استقرت فيها المجاميع البشريه، التي قامت بانشاء و تعمير المدن و تطويرها، و سنوا القوانين التي تنظم حياتهم. و من هنا انطلقت اولى الحضارات التي طورت الصناعه وعلوم  الري و الفلك وغيرها و نشرت الكتابه والاداب، و اقامت الدوله المركزيه القويه. لكن و بسبب انفتاحها على الاتجاهات االاربع و سهوله الوصول اليها  و كثره خيراتها و خصوبه ارضها و انتشار مراعيها، اغرت الاقوام البشريه المختلفه وعلى مر العصور على المرور بها او الاستقرار فيها كلما كانت الدوله المركزيه او مدنها قويه. و سهلت غزوها و استعمارها عند ضعف دولها ومدنها و قوة مهاجميها و ما قد يصاحب ذلك من هيمنه خارجيه و استعمار و ظلم يحيق بابناء الرافدين. و كان سكان هذه الارض يثورون على حكامهم كلما ازداد جبروت الحكام و وظلمهم، ثم يستكينون لفتره قد تطول و قد تقصر.

 و عُرِف سكان جنوب وادي الرافدين او ما اصبح يعرف بالعراق بعد الفتح الاسلامي بطباعه الحاده و ازدواجيه اخلاقه و كثره ثوراته. و في عصرنا الحديث و بعد التحرر من الهيمنه العثمانيه و تشكيل الدوله الحديثه و اكتشاف الثروه النفطيه،آمل الكثير من ابنائها ان يتنعموا بثرواتهم و تستقر امورهم، و خاصه بعد التقدم في مجالات الخدمات التعليميه و الصحيه و توفير فرص العمل لكثير من ابنائها، و لكن و من منصف خمسينات القرن الماضي ، دخل العراق في دوامه الثورات و الانقلابات و الاحتراب الداخلي و الخارجي، و هيمنه الحرب البارده على سياساته الداخليه و الخارجيه، و سيطره العقليه العسكريه و الديكتاتوريه على الحكم و على مجريات الامور، مما ساعد على الاستنجاد بالاجنبي، و كان الناس يأملون اخيرا باستقرار البلاد و نسيان عقود الاضطهاد و الحروب و الحصار و المجاعات و الطغيان، و لكن ظهرت طبقه من الساسه استغلت التنوع الطائفي و العرقي و المذهبي و العشائري لهذا البلد، بل اصبحت تتغذى عليها و تنميها، لتتمكن من الهيمنه على مقدرات العراق، و نهب ثرواته و خراب مجتمعه و فساد ادارته. و اصبح لدينا مجاميع من الساسه تدنى مستواهم الفكري و الحضاري الى حد العراك بالايادي بسبب تصريحات جوفاء يقابلها تبريرات فجه  و كانما خلا العراق من الساسه و لم يبقى الا اناس بهذه الدرجه من الخواء الفكري.

و عندما استرجع حالنا في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي، و حتى العقود التي سبقتها و التي سمعنا و قرأنا عنها، اتسأل دوما لماذا وصلنا لهذا المستوى من خراب المجتمع، وهل نحن نفس ذلك الشعب الذي تحول من كيان ضعيف خارج من التبعيه العثمانيه، الى بلد به مقومات عديده كان من المفترض ان يتحول الى سويسرا الشرق الاوسط كما كانوا يأملون في خمسينيات القرن الماضي. لقد كنا شعبا نتقبل الاخر على الرغم من اختلافاتنا القوميه و المذهبيه و الدينبه. اصبحنامكونات يطلق عليها تسميات مذهبيه و عرقيه و دينيه، يتحكم فيها ساسه و قسم من رجالات الدين الذين يغذون هذا التوجهو يعلنون انفسهم حماة لهذه المكونات و كانما تحولت الاختلافات الفكريه و العقليه و السياسيه بين الناس اختلافات مذهبيه و عرقيه و دينيه. و قامت مجاميع من هذه المكونات تقتتل فيما بينها بسبب من اختلاف المذهب او الاسم، و القيام بزرع الخوف و الترهيب بين مكونات هذا الشعب المسالم، و كذلك القيام بالتصفيه الدينيه و المذهبيه و العرقيه و حتى التطهير العرقي في كثير من مدن العراق و ريفها المختلط.  و يبدو ان حمام الدم الذي ابتدأ منذ عشر سنوات و حصد مئات الالاف من الضحايا لا يريد التوقف، فكانما لا نريد ان نتعض و نتعلم من مآسينا و نحاول ايقاف هذا النزف الحاد.

لقد تعلمت اوربا هذا الدرس القاسي بعد حربين عالميتين، و دفع العالم ثمنا غاليا لذلك. فلقد قتل ما بين 60 الى 80 مليون شخص اثناءها عدا الضحايا بسبب الامراض و المجاعات المتعلقه بها، وهذا كان يمثل اكثر من اثنين و نصف  بالمائه من سكان العالم حينئذ، و كان الضحايا العسكريين يقدرون ما بين 22 و 25 مليون، و حتى في العراق كان عدد الضحايا حوالي 500 شخص و هذا يشمل ضحايا الاحتلال البريطاني و حركه رشيد عالي الكيلاني عام 1941. و كان ضحايا الحرب العالميه الاولى اكثر من 35 مليون شخص، منهم 10 مليون عسكري و 7 مليون مدني و توفي 2 مليون بسبب الامراض و فقدان اكثر من 6 مليون شخص. و كان مجمل ضحايا الدوله العثمانيه و التي كان العراق جزء منها بحدود 3 مليون شخص بين عسكري و مدني و لم تكن هنالك احصائيات جيده و كافيه للبلدان التي كانت تحت مظله الدوله العثمانيه. و بسبب هذه الضحايا حاولت اوربا تفادي الحروب فيما بينها على الرغم من اشتداد الحرب البارده بين المعسكرين الغربي و الشرقي، بل و اتجهت نحو الوحده الاوربيه على الرغم من الاختلافات الكبيره فيما بينها، و لكننا في دول العالم الثالث لم نتعلم الدرس لحد الان و لا تزال الدماء تنزف بين فتره و اخرى.

اما في العراق فعلى الرغم من الحرب العبثيه بين العراق و ايران و التي تعتبر ثاني اطول حرب في القرن العشرين بعد الحرب اليابانيه الصينيه، كان مجمل الضحايا ما بين الطرفيين يتراوح بين مليون و مليون و نصف قتيل، و ضحايا احتلال الكويت و الانتفاضه الشعبانيه بحدود 100 الف، اضافه الى ضحايا الانتفاضه الكرديه و التي بدأت منذ عام 1931 بقياده الشيخ احمد البرزاني و التي استمرت لاكثر من سبعه عقود،و ذهب  فيها الكثير من ابناء الشعب الكردي و اعداد غفيره من الجيش العراقي، و كان منهم ضحايا حلبجه ما بين ثلاثه الاف الى خمسه الاف ضحيه و ضحايا الانفال ما بين 50 الى 100 الف ضحيه. و لا ننسى ضحايا ثوره العشرين و احداث الموصل و كركوك عام 1959، و ما جرى عام 1963 و الانتفاضات التي قام بها الاشوريون و غيرهم. أما بعد احتلال 2003 فلقد دخل العراق في مرحله اختلال امن لداخلي، وصراع طائفي مفتعل. و اصبح معضم الضحايا من المدنيين الامنيين، اضافه الى منتسبيي الجيش و الامن الداخلي، و جل هؤلاء الضحايا وقعوا بسبب السيارات المفخخه و الانتحاريين و المتفجرات بانواعها اضافه للكواتم، مع وجود عدد ملحوظ من ضحايا الاحتراب الداخلي و التطهير الطائفي و الاثني.

 و بالرغم من كثره ضحايانا لم تقم ايه جهة حكوميه او مدنيه او سياسيه، برد الاعتبار لهذه الدماء الزكيه التي اريقت على ارض العراق، و لتذكيرنا بهم علنا نتعض و نخفف من غلوائنا. في كثير من مدن اوربا و امريكا و كندا و اليابان و استراليا نرى نصب عديده مشيده لتخليد ضحايا الحربيين العالميتيين و حروب اخرى‘ يذكر فيها اسماء ابنائهم الذين ذهبوا ضحايا هذهالحروب كي لا تُنسى تضحياتهم، و نحن  في العراق لم نهتم بضحايانا ، و لكن و مع شديد الاسف قامت مؤسسه بريطانيه-امريكيه بعمل موقع الكتروني على الشبكه العنكبوتيه سمته (ضحايا حرب العراق)وعرًفته بانه ( عبارة عن مشروع مستمر للأمن الإنساني يقوم بحفظ وتحديث أكبرقاعدة بياناتعالمية عامة للقتلى المدنيين جراء العنف خلال ومنذ غزو عام 2003. ويشمل الإحصاءالوفيات من غير المسلحين الذين قتلوا جراء أعمال عسكرية أو شبه عسكرية وإنهيار الأمن المدني الذي تلا الغزو)، و ذلك لاحساس القائمين بالمشروع بالخطأ الجسيم الذي ارتكب بحق العراقيين من قبل دولهم.

www. iraqbodycount.org  

إننا في العراق احوج ما نكون لندوٍن اسماء قتلانا جميعا و من دون استثناء احد، مَن قُتِل في حروب و معارك العراق الخارجيه و الداخليه، و مَن قتل داخل السجون و الزنازين ومِن التعذيب و المعدوميين لاسباب سياسيه او دينيه او فكريه او لاختلاف في الرأي، و من قتل بسبب المتفجرات و المفخخات و الحوادث القتاليه، و لمن كان ضد النظام الحاكم او معه، و للعسكريين  و المدنيين و افراد القوى الامنيه، و حتى لغير العراقيين الذين قتلوا للاسباب اعلاه في داخل العراق.

 اقترح ان تقوممؤسساتنا بالمبادره بجمع المعلومات اللازمه لهذا المشروع الكبير وعمل قاعده بيانات يذكر فيها اسم القتيل و تاريخ مولده و مقتله باليوم و الشهر و السنه ان امكن، ومكان الحادث، و حالته الاسريه، و اسم والدته ان امكن لمنع تشابه الاسماء ،وان تقوم بهذه المهمه بالتعاون مع مؤسسات  المجتمع المدني و المؤسسات البحثيه بالجامعات العراقيه, اضافه لسجلات الجيش و الداخليه و قوى الامن و مؤسسه الشهداء و بقيه مؤسسات الدوله، و اقترح ان يبدأ التدوين منذ بدايه القرن الماضي، اي من عام 1900 و لحد الان و و يترك مفتوحا للمستقبل، ثم نقوم بعدئذ بوضع نصب في معضم مدننا لنتذكر قتلانا، و حتى يشعر معضم العراقيين بالثمن الباهظ الذي دفعوه من دماء ابنائهم، عله يُرجع للبعض منا عقله الذي فقده في حمى هذا الصراع، و يبدأ بالايمان بان هذه الارض تسع الجميع، و ان خيراتها يمكن ان تعم على الكل من  دون اقصاء او تهميش، و للخروج من دائره النقاشات التي قد تحصل حول وضع القتيل، هل هو شهيد ام قاتل ام ضحيه و لنجعلها قتيل كما قالها ابو الفرج الاصفهاني.

و ليتذكر الجميع ان ابو الفرج علي بن الحسين (المرواني الاموي القريشي) الاصفهاني قام قبل اكثر من الف و مائه عام بكتابه( مقاتل الطالبيين)، و ذكر فيه انه( دوًن عن كل قتيل حرب او صريع سم في السلم او مهلكه في السجن أم في مهربه اثناء تواريه عن السلطان)، و لمن لا يعلم فإن ابو الفرج كان امويا شيعي الهوى ، و شيعيا امويا يعطف على الدوله الامويه في الاندلس.