الموقع الرسمي للحركة الديمقراطية الاشورية (زوعا).. the official website of Assyrian Democratic Movement- Zowaa

                               

 

مسيحيتنا غنىً لشرقنا .. فنحن منه وله

 

 

                                            

                       المونسنيور بيوس قاشا

             من المؤكد أن بلداننا تعيش مرحلة شديدة الخطورة والتوتر، "والعالم قد تعب من الجشع والإستغلال والإنقسام، يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر، وسئم من الوعود الكاذبة والأجوبة الجزئية. كما إن العالم وضع اليوم الله جانباً، وغالباً ما همّش اسمه بصمت وباسم الحرية الشخصية  والإستقلالية البشرية، وجعل الديانة مجرد تقوى شخصية ، وأقصى الإيمان عن الساحة العامة... وحذّر قداسته من أن تخنق العقلية المنافية لجوهر الإنجيل حسن فهم   

 الكنيسة ورسالتها، ودعا إلى الجهر بالإيمان من دون خوف، لأن الإيمان يعلّمنا                       

أننا بيسوع المسيح الكلمة المتجسد نتوصل إلى إدراك عظمة إنسانيتنا وسرّ حياتنا على الأرض"...

فالحياة ليست مجرد تعاقب للأحداث والخبرات، إنما هي بحث عن الحقيقة، عن الحياة، عن الطريق، كون المسيح يسوع هو الطريق والحق والحياة (  يو6:14).

بشرى الحياة

          نعم، في قلب المتغيرات التي تحصل، هناك شيء واحد ينبغي أن يتابع مسيرته، إنها البشرى... بشرى الحياة والخلاص لجميع الأمم والشعوب... هذه البشرى ينبغي أن تحافظ دائماً على نظارتها كي تبقى جديدة... إنها مسيحيتنا. ولكن الحياة أتعبتنا، وأصبحت مسيرتنا المسيحية شاقة ومؤلمة، وأصبحنا نقف حائرين أمام ظواهر غريبة، ونقف صامتين ونسأل أنفسنا: لماذا نُلاحَق على مدار أيام السنة، بل على مدار الأجيال؟... لماذا نوصَف بالكُفّار وتُبّاع الغريب والأجنبي ونحن أصل هذه الدار وبنّاؤوها؟... لماذا يصوّروننا أعداءً لهم وهم يعرفون جيداً إننا مسالمون في سلوكنا؟... لماذا يبلبلوننا ويفرّقوا صفوفنا من أجل تحطيم عزيمتنا ونكران إيماننا، وهم يدركون حسناً إننا أصحاب السيرة الصالحة والسلوك الإنساني؟... لماذا يعتبروننا حملاناً مقرّبين للذبح متى يشاؤون؟.

حياة وما اتعبها

          أمام هذه الظاهرة الغريبة بل الفريدة، وأمام هذه الصور والأفكار، نتساءل: إلى أين نحن سائرون؟... وماذا سيكتبه عنا تاريخنا المسيحي المعاصر؟. ماذا سيكتب تاريخ الزمن عن مسيرتنا الإيمانية في دنيا الحدث؟... هل سيقولون عنه إنه تاريخ يحمل سرّ بطولة سماوية أم سيرة تخاذل وخوف دنيوية؟... فنحن اليوم _ ونقولها حقيقة وإنْ كان ذكرها مؤلماً _ نحن اليوم مرضى، حزانى، يائسون، قلقون، مرهَقون، مشرَّدون، مضطَهَدون، مهاجَرون ومهجَّرون، وما نرسمه أمام عيوننا ليس إلا مستقبلاً غامضاً، بل مخيفاً... فحروب تملأ الأرض، وضيقٌ لم نعد نحتمله، واصواتٌ تدعونا إلى أن نهمل بلادَنا بل أن نغادرها دون عودة بحججٍ واهية... نحن اليوم مهانَون بسبب الكبرياء والبغض والحقد الذي يحمله الآخرون، وأصبح عددنا يتضاءل يوماً بعد يوم، وينحسر دورنا في خسارة رجالنا ونساءنا وأزلامنا، ونعبّر شمس نهارنا وسواد ليلنا باضطراب وضياع المصير، وكأننا تائهون... رغم سكوننا في أرضنا نشعر إنها لم تعد تحبنا أو تسع لسكنانا أو تهملنا، وكأني بها تبكي على مصيرنا... همومنا أمام عيوننا... بلايانا في دفتر أفكارنا، وكل يوم نتساءل: ما هذا العذاب؟... هل لا تشرق الشمس وديعة ، صافية ، لتزيح عنا غبار الإنسانية المزيّف؟.     وإذا ما نظرنا إلى كنائسنا، ساعة دعاءَنا ، فجيراننا بالأمس كانوا معنا على مصطبة الصلاة، واليوم ليسوا في الوجود... قد رحلوا... واحد تلو الآخر ، ولا نعلم إلى أين... إلى أين قذفته أمواج بحر الدنيا الهائج؟... عبر المحيطات أم عبر البلدان أو على قمم الجبال أم في وديان الخوف والتهلكة. تساؤلات وتساؤلات وعلامات استفهام وتعجب، تجرح القلب في عمقه والحياة في صميمها، كون التعاسة لا زالت تعايش الإنسان، والعوز يرافقه، والحاجة تضايقه، ولم يعد يملك في الدنيا موطن قدم أو سمكتين أو رغيفاً يابساً يسدّ به رمقه... كل شيء سواد، حتى راحيل عادت تبكي على بنيها إذ ليسوا في الوجود، كما حُذفوا من سجل النفوس كونهم رحلوا إلى المجهول... وشيوخنا وعجائزنا يموتون قهراً وأسفاً، إذ لفظهم الأبناء الهاربون من جحيم الوطن المميت، وضاعت أرضنا واستُقطعت قطعة قطعة، وقالوا لنا أن إرحلوا، فالمكان لا يسع لكم، ولا يجوز أن تفرشوا أرضاً، فأنتم لستم أهلاً لها... هكذا ردّد على مسامعنا الأخوة الأعداء... والأنكى من ذلك دخل اليأس إلى قلوبنا، وبدأنا نتصور صوراً عن آثار أقدام شبابنا الذين كانوا يجولون في أزقّتنا مساء كل أحد، ونرسم في مخيّلتنا ما يجعلنا نتيه ونشرد إلى حيث لا ندري، واصبح أصدقاء الأمس غرباء، ولم نعد ندري إلى أين نتوجه، وإذا توجهنا تنادينا أصوات مشكوك في حبّها لنا، كي نسكن ديارهم، ليكونوا رحماء من أجل أن يكونوا أمراء وآمرين، ونكون بالتالي عبيداً وخاضعين... وآخرون يفضّلوننا على غيرنا، كوننا نملك من وسخ الدنيا ورقتها الخضراء، فيفرشوا لنا مسيرة الدخول... وآخرون يترحّمون علينا، فيسجّلوا أسماءنا من أجل العيش الحُرّ والمكان الآمن... وفي كل هذه أحياناً نضيّع مشيتَنا، وحتى المشيَتَيْن، كما يقول مَثَل الأبرياء.

سؤال وحقيقة

          نعم، شعبنا له كل الحق في أن يسأل ويتساءل، فنحن من أجله وُجدنا، ولأجله خُلقنا، فنحمل ألمه كسمعان القيرواني. وألم اليوم مشكلة لا زالت تشغله، وكما كان في حقبة التاريخ موضوع جدل حامي الوطيس، لا زال حتى اليوم دون حلّ مقنع، والحقيقة تقول: إنهم لم ولن يتعلّموا أبداً، وإنْ أفلحوا فذلك في خبر كان، كوننا أضعنا مسيرة إيماننا، وأفرغنا قلوبنا من محبة إلهنا، وحملنا آلهتنا أصناماً كما حملتها سارة في قديم العهد... وهكذا تمضي الأيام، وتتبخر السنون، ولا زالت التعاسة تملأ قلوبنا وتدغدغنا في الحصول على رزقنا خوفاً من الإضطهاد الآتي علينا ويلاحقنا، بعد أن خططوا له ورسموا صورته ، فيكون الإرهاب بالمرصاد، ويبقى إنساننا المسيحي، بل كل إنسان، في بلد الأعراب وربما في الإغتراب، عبئاً على مجتمع كان هو حضارته... إنها مسيرة طويلة ومؤلمة، ويزداد ألمها بمواكبتها لهجرة فلذّات أكبادنا، فتراها تستنزف وجودنا، وتسدّ آفاق مستقبلنا.        فيامسيحيي العراق... إنني أفتخر معكم كوننا شرقيون مسيحيون، ولسنا مسيحيين من الشرق، ولنا تاريخ أصبح جزءاً من تاريخ شعوب الدنيا... كنّا ولا زلنا بُناة حضارة، وإنْ أرادوا هدمها وتخريبها ستبقى شامخة في أرواحنا، ونحملها في عقولنا وأفكارنا، ونجتاز بها حدود أجيالنا، كون مسيحيتنا غِنىً لشرقنا، ولا يجوز إنكار ذلك. فنحن منه وله، وهذا ما يثبته الزمن بأننا لسنا أقلية بل سكان أصليون، نحيا الإيمان في مسيرة الزمن.

كنيستنا رجاؤنا

          إنها مهمتنا... إنها مهمة بطولة يومية لنقل البشارة الخلاصية التي تعطي الحياة معناها عن طريق إكتشاف طريق الرجاء رغم اليأس والخوف من أجل مدّ الجسور بين الجميع، وتجاوز الأنانية والكراهية، كون المؤمن يدرك جيداً في أعماقه أن المسيح لم يأتِ إلى أرضنا إلا ليزرع بذرة الرجاء،  كما حملها ألينا يوما ابونا الطوباوي مار يوسف الثالث يونان ، يوم أفتقدنا ، ونحن علينا أنْ ننميها في دواخلنا، ويحمل عن إنساننا الألم الجاثم على صدورنا، ويجعل منه سبيلاً لثمرة صالحة (متى 17:7)، شهية ولذيذة رغم مرارتها، لتكون مستقبلاً واعداً عبر شمولية الحدث وخصوصية المعنى، ومعلِّماً إيّانا أن الصليب وحمله ما هو إلا رسالة والتزام... فالحياة كانت _ من يوم كُتبت _ صراعاً، وما أقساه، ولكن لا تُكتَب الغلبة إلا للذين يضعون أمام أعينهم صورة المسيح المصلوب (غلا 1:3). إنها الغلبة بالذات.

نعم، دفعنا ثمناً كان قتلاً وموتاً وتهجيراً، وتخلّينا عن وطننا وممتلكاتنا، ومع هذا ستبقى رسالتنا شهادة لأرضنا، وتبقى حياتنا رايةً لتربتنا وإخلاصاً لوطننا... فشعبنا لن يركع ويترك أرض الآباء والأجداد مهما غلت التضحيات وطال الزمن، وإنْ كان الكثيرون قد غادروا من أجل غاياتٍ ومآرب. فحقوقنا لا تُصان فقط في سجلات الأمم، إنما في مسيرة الشعوب... إنها استحقاق وطني وإيماني ووجودي وتاريخي، وسيبقى نداء حب الأرض يعمل فينا مهما لعبت الأجندات المختلفة في إتجاه استهدافنا، كوننا دفعنا أثماناً لأجل حقيقة وجودنا، ولا نحتاج إلى شعارات أو كتابات على صفحات الجرائد لإثبات حقائق إيماننا ووجودنا، كوننا جزء أصيل من شعبنا، قدّمنا شهداء، وضحّينا بأموالنا، ولا زلنا _ رغم مسيرة الألم _ نرفد وطننا بكفاءاتنا ومواهبنا، ولم نكن يوماً طرفاً في نزاع أو صراع ولن نكون، فنحن للكل أخوة، وما نحتاجه، ليس فقط تشابك الأيادي _ وإنْ كان ضرورياً _ بل إلى تشابك القلوب من أجل رؤية مستقبلية واضحة لدى الرؤساء وعامة المؤمنين، إضافة إلى تعبئة روحية ونظرة جريئة بعيدة المدى وشاملة في معنى وجودنا وغاية رسالتنا، وإلا عبثاً نسعى إلى تثبيت وجودنا إنْ كنا لا نسمع دعوة المعلّم للتقدم نحو العمق... فأبداً، أبداً... لا للإحباط ولا للهروب... فأمانة شهادتكم في أعناقكم... وشهادتكم تعني حب وطنكم، هذه حقيقة رسالتكم .نعم، " قبلنا بشارة المسيح من جرن العماذ، هكذا علمّنا آباؤنا في السينودس المقدس ، لذا نحن شهود لها في عالم تتجاذبه التيارات المختلفة من أجل رسالة سامية " ، ونسأل أنفسنا قائلين: إلى أين نحن من هذا، وإلى أية جهة ننتمي بعد ألفي سنة على قول المسيح:"آمنوا بي... لا تخافوا" ( مر40:4)؟... فمهما طال ليل العذاب، فالسيد الغائب آتٍ، ولن تنفعنا عندها القوة والمال والجاه والسلطة والدنيا، فالأقوى هو مَن يحيا ليومه وينتظر سيده. 

آباؤنا

والبابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني يقول: أحبوا أوطانكم .. ولا للإحباط أو للخوف، فالله جعلنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدي للمسيح شهادة حسنة، شهادة ليس لها بديل... وإذا ما إنهزمنا، نكون قد أهملنا دعوتنا، وانحرفنا عن رسالتنا، وزوّرنا الشهادة في الكثير من تصرفاتنا مع غيرنا لأجل مصالحنا.

وآباؤنا البطاركة قالوا في ختام مؤتمرهم: "إن أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا، وعاش عليها آباء كنائسنا وقدّيسوها. وحضورنا في هذا الشرق واجب ، حيث أرادنا الله، ويقتضي منا الأمانة للمسيح، والتزام الشهادة لمحبته... ومهما تفاقمت المصاعب فإن لنا علامات رجاء ساطعة، في ما لكنائسنا من غِنىً روحي وثقافي واجتماعي ووطني، من أجل الحياة الحرة كونهم في أرضهم " ، وكما يقول  ابونا الطوباوي مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان: " إن حق المسيحيين بالعيش الحُرّ الكريم على أرضهم في وطنهم ليس امتيازاً ينعمون به وحدهم، ولا هو فعل "مِنّة" من قبل حكومة مركزية أو محلية، إن هذا الحق واجب على الحكومة ومن مسؤولياتها... وكلنا مسؤولون عن حمل الأمانة لحضارة شرقنا العريقة" .

وجودنا .. أمانتنا .. وأرضنا

لذا، فأمانتنا للمسيح تقتضي أن نحافظ على وجودنا، والبقاء في أرضنا متضامنين ومتآزرين، ونتطلّع بأمل إلى شبابنا أن يكونوا شهوداً للإنجيل في هذه المنطقة، فدورنا مهم، ولا يجوز أن يتقلص هذا الدور.وإنْ كانت الشهادة ولابدّ، فلتكن بطولة تقوّي من عزيمتنا، وتضاعف جهودنا، وتثبّت تمسّكنا بإيماننا المسيحي، فنشارك المسيح آلامه، ونكمل ما نقص منها. ولنعلم جيداً أن تضاؤلنا في الشرق، أو إنحسار دورنا، هو خسارة للحضارة الإنسانية والمسيحية عموماً وللشرق العربي خصوصاً... فليكن الرجاء عامراً في قلوبنا، ولنعلم أن الطريق طويلة أمامنا، والرب يرافقنا وإنْ لم ندرِ به، فهو معنا، ويكلّمنا، ويكسر لنا الخبز... فيا لسعادتنا حين نعرفه، فماذا نعمل حينذاك!!!... والحياة التي نسلكها هي مسؤولية وأمانة، أُعطيت لنا لنؤدّي حساباً عنها يوم اللقاء مع الرب... علينا أن ننتبه إلى حضورنا... إنه وكالة وُهبت لنا... إنه صليب نحمله.

فلا معنى للصليب... إلا من خلال المصلوب.! ولا معنى للتلميذ وحياته... إلا من خلال المعلّم وتعليمه ! ولا معنى لإيماننا المسيحي... إلا من خلال علاقتنا بالمسيح يسوع! ولا معنى لحياة الشهادة... إلا حيث أرادنا الله أن نكون شهوداً وشهداء! ولنعلم جيداً، أن مسيرتنا ما هي إلا كمسيرة العهد القديم... مسيرة انتظار ورجاء. فقد كان الشعب في القديم قد وصل إلى قمّة الإنتظار في وقت حاصرته فيه المشاكل. ونحن أيضاً، كما كان الأمس هو اليوم، واصبحنا نتساءل: هل "نسي الرب شعبه"؟( مراثي 6:2) هل أُغلقت السماوات؟( سي 3:48) فالدعوة مُلحّة إلى تخطي ضعفنا وقلّة إيماننا، ونخطو صوب المسيح ولو على أمواج البحر العاصف. واعتمادنا في مسيرتنا المسيحية ليس على أنفسنا بقدر ما هو على مَن انتصر على الموت بالموت. وكل مرة نواجه ضعفنا وشكّنا، دعونا نردد من أعماق قلوبنا:"أنا قويّ بالذي يقوّيني" ( 1تس5:1).وإنْ كانت الشهادة ولابدّ، فلتكن بطولة تقوّي من عزيمتنا، وتضاعف جهودنا، وتثبّت تمسكنا بإيماننا المسيحي، فنشارك المسيح آلامه، ونكمل ما نقص منها.وأختم بما يقوله  قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"على المسيحيين أن يعلنوا رسالتهم بوضوح، ويقدّموا شهادة حياة متجذّرة بعمق في يسوع المسيح، حتى لو أنهم الجماعة الأكثر تعرضاً للإضطهاد لأسباب دينية، فإن المسيحيين مدعوون إلى عدم الشعور بالخوف"، بل إلى تجديد الرجاء في العالم .

المراجع

رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر الى الجمعيات الارسالية  16/2/2011.

كلمة ابينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان في المؤتمر الدولي للاخاء الاسلامي المسيحي في سوريا .

البيان الختامي لبطاركة الشرق الكاثوليك ( 16-20 تشرين الاول 2006 ) .

عنوان كتاب علامة الرجاء في أرض الاباء .