في عيد الصحافة السريانية.. سلطة رابعة أم رسالة وقضية

 

                     

                                                            

                                                                                        

                                                                                               شليمون داود أوراهم

             مع صدور هذا العدد من "بهرا"، سيكون شعبنا الكلداني السرياني الآشوري ونخبه ومؤسساته القومية والثقافية والإعلامية، على موعد سنوي مرتقب، للاحتفاء بمناسبة عطرة تبعث على الفخر والاعتزاز، وتلك هي يوم أو عيد الصحافة السريانية الذي يحتفى به سنويا في الأول من تشرين الثاني استذكار وتخليدا لأول مطبوع صادر بالسريانية، صحيفة "زهريري دبهرا ـ أشعة النور" وقد رأى عددها الأول النور في مثل هذا اليوم من عام     1849 في مدينة أورمي بإيران، ولنحتفي اليوم بالذكرى 162 لهذه المحطة المهمة في تاريخ شعبنا العريق وريث الحضارة التي اخترعت الكتابة والعجلة وسنت القوانين وأقامت أسس المدنية.

مقدمة سريعة أسوقها في مستهل هذا المقال بهذه المناسبة والذكرى العزيزة التي لا بد لي وأنا أتحدث عنها أن أتذكر وأسجل كل التقدير والتثمين والاعتزاز بالرواد الأوائل في هذا المجال، مع التحية لمن أكملوا المسيرة بعدهم حتى اليوم، دون أن أستعرض بالضرورة البدايات والتاريخ وأسماء الصحف والمجلات وهؤلاء الرواد الأوائل الخالدين ومن واصل الرسالة بعدهم، فهو شأن تم إغناؤه سابقا بأقلام عديدة ومناسبات كثيرة. لأنني سأتناول هذه المناسبة العيد في هذا المقال من زاوية أخرى ووجهة نظر شخصية مختلفة.

فالمعروف أن الصحافة هي السلطة الرابعة التي قد تتقدم أحيانا وفي مواقف معينة لتزاحم السلطات الأولى. وإذ نتوقف عند التطور الذي يشهده العالم خلال السنوات الأخيرة في مجال الصحافة والإعلام، وعند ما فعلته الصحافة والإعلام الإلكتروني المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي من الفيس بوك إلى التويتر إلى اليوتيوب وبعض الفضائيات، وقد ساهمت في قيام ثورات ضد أنظمة مستبدة وتغيير في حياة مئات الملايين من البشر لا مئات الآلاف فقط، بل والأهم من ذلك حقيقة التغيير في مفاهيمهم وطريقة تفكيرهم ومساحة الجرأة لديهم وكسر العديد من الحواجز التي كانت قائمة في وجه آمالهم وتطلعاتهم. وعند موقع ويكيليكس الإلكتروني الذي كشف الكثير من الأسرار وأحرج حكومات كبيرة وأجبرها على تقديم تفاسير وتغيير في المواقف. وعند عدد آخر من وسائل الإعلام من صحف ومجلات محلية سواءً في إقليم كوردستان أو عموم العراق، وقد استطاعت التأثير على الواقع في محطات معينة وقادت إلى اتخاذ قرارت ومواقف على ضوء ما نشرته وأصدت له، وهي عديدة يتعذر علينا ذكر أسماءها لئلا ننسى بعضها فنغبن حقها.

فقد يبرز إلى الأذهان تساؤل مشروع: هل أن الممكن والمتوفر والمؤثر في مجال الصحافة السريانية في العراق اليوم.. استطاع أن يرتقي إلى هذا التأثير ومرتبة السلطة الرابعة.. أو حتى إلى مرتبة أية سلطة بغض النظر عن التسلسل؟؟.

وبمعنى آخر.. هل استطاعت الصحافة السريانية أن تؤثر في الأحداث وفي صناعة القرار في العراق وفي توجيه الرأي العام باتجاه معين في مواقف معينة؟؟.

للإجابة عن هذا التساؤل لا بد من التوقف عند بعض الحقائق والمقارنات سعيا لوضع الأمور في نصابها وإطارها الصحيح.

لقد واجه شعبنا في العراق في العصر الحديث الكثير من التحديات وعانى الكثر من المظالم والاضطهادات نذكر منها سميل وصوريا قبل عقود مضت، ومن ثمة سيدة النجاة وعدد آخر مهم ومتنوع من الاستهدافات في الزمن الحاضر الذي نبقى فيه فنقول: إن الشعب الكلداني السرياني الآشوري لا يعيش اليوم أفضل فتراته في عراق ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري البائد ولا سيما في الجانب الأمني وما نتج عنه من تهديد للوجود والحقوق والمطالب والشراكة الحقيقية، بل العكس تماما، استهدافات لدور العبادة والرموز الدينية والمواطنين العاديين.. ونحو ألف شهيد وكنائس مدمرة صارت أقرب إلى الأطلال، يرافق ذلك تهميش وإقصاء بسبب المحاصصة الحزبية والطائفية والرغبة في أكبر قدر ممكن من الاستحواذ على السلطات. واقع غير منتظر قاد إلى نزيف موجع من الهجرة الداخلية إلى إقليم كردستان الآمن نسبيا.. والخارجية إلى بعض دول الجوار كمحطة انتقالية ومن ثم إلى دول الشتات والانصهار في ثقافات جديدة غريبة، ما أدى إلى تهديد هذا المكون في وجوده قبل تهديده في حقوقه، وما ألقاه ذلك من بمسؤولية مضاعفة على الإعلام الذي صار اليوم من أنجع الوسائل في إيصال القضية وتحقيق الأهداف والغايات.

أولا: جهات الإصدار وأوساطها

لا تصدر الصحافة السريانية في مجتمع أو في وسط، لها أو للشعب الكلداني السرياني الآشوري فيه سلطة وحكومة ومؤسسات دولة لكي تستطيع أن تمارس دور الرقيب والسلطة الرابعة والتأثير في صناعة القرار، فقد كانت في معظمها في العقود الأخيرة إما صحافة قومية نضالية صادرة عن بعض التنظيمات السياسية وتحمل قضية خاصة بشعب ومكون معين أصيل، وقد انتهجت خط النضال ضد النظام الدكتاتوري البائد، ومن ثم التعريف في المرحلة اللاحقة بقضية هذا المكون والمظالم التي وقعت عليه وحقوقه في وطنه والتوعية بهذا الأمر، وكسب تفهم الآخرين له وتأييده، وجريدة "بهرا" نموذجا إلى جانب عدد آخر من الصحف. أو أنها صادرة عن المؤسسة الكنسية، وهذه معروفة النهج القائم على التوعية الدينية والطقسية والتربوية. أو صدورها عن بعض مؤسسات المجتمع المدني وبإمكانيات ومساحة محدودة بمجتمع معين أو شريحة مجتمعية أو بلدة أو ناحية أو قضاء. أو صدورها عن مجموعة من الناشطين الذين اصطلح على تسميتهم بـ (نخبة من المثقفين) ويكون لمصدر التمويل وتوجهاته هنا التأثير الأهم في النهج والخط العام.

ثانيا: لغة الإصدار:

هناك وجهان للصحافة السريانية، الأول هو تلك الصحف والمجلات والوسائل الإعلامية الأخرى الصادرة باللغة السريانية، والثاني تلك الصادرة باللغة بالعربية ولكن عن شؤون الكلدان السريان الآشوريين والصحافة والإعلام السرياني.

وقد واجهت الصحافة الصادرة بالسريانية تحديات عديدة أبرزها الشحة في المنشور كانعكاس طبيعي لقلة القراء لا بسبب قلة عددهم إنما قلة من يجيد منهم القراءة والكتابة بالسريانية مقارنة بالعدد الإجمالي، إذ تنحصر هذه الإجادة عند الإكليروس والشمامسة العاملين في المجال الكنسي، وعند بعض الأدباء والكتاب والشعراء والمهتمين باللغة.. وعدد آخر قليل من اللغويين، مع استثناء ملحوظ لهذا الواقع في الجزء الموجود في إقليم كوردستان من الكلدان السريان الآشوريين عقب تجربة التعليم في المدارس الحكومية باللغة السريانية في المراحل الأولية كافة ولجميع المواد العلمية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية، والتي انطلقت عام 1992 ولم تزل مستمرة ما أدى إلى إجادة عدد كبير منهم اللغة السريانية قراءة وكتابة.

وبمعنى آخر، فإن المطبوعات التي تصدر بالسريانية اليوم من صحف ومجلات لا تلقى، للأسباب أعلاه، صدى واسع وتقبل لدى عموم القراء.. إلا عند المتخصصين والمهتمين، إلى جانب أسباب أخرى قد تكون ثانوية ومنها ما يتعلق بالتصميم والإخراج الفني، واتساع نطاق الصحافة الإلكترونية، والتغيير في اهتمامات المتلقي في عالم اليوم.

ومن هنا.. فإن الشأن الأدبي وحده يبقى الأبرز في الصحافة السريانية وبما يمكن اعتباره شريانا مهما لاستمرار نبض هذه الصحافة وهذه اللغة وثقافتها وأدبها، أما باقي الشؤون ولا سيما السياسية والقومية والعامة، فإن جل ما ينشر منها ولا سيما الأخبار والتقارير.. إنما هو ترجمة عن العربية أو أخبار أو سرد لأحداث، وتبقى له بغض الإيجابيات ومنها المحافظة على اللغة السريانية وإدامتها وتطويرها كمقوم مهم من مقومات كل أمة.

أما الصحافة الصادرة بالعربية والمعنية بالكلدان السريان الآشوريين، فإن الصادرة منها عن الأحزاب والتنظيمات السياسية ظلت عند رسالتها في حمل القضية القومية والتوعية بها في مسيرة نضالية لم تخل من التضحيات بالدماء الطاهرة. وعلى الرغم من أن بعضها حاول ولوج الساحة الوطنية في الطروحات وتناول الأحداث، لكن أسبابا عديدة حالت دون تسجيل بصمة أو موطأ قدم في هذا الجانب. فيما ظلت الصحافة الصادرة عن المؤسسة الكنسية على نفس نهجها التثقيفي، لكن يبقى متاحا للصحافة الصادرة عن هاتين المؤسستين وتلك الصادرة عن مؤسسات المجتمع المدني ونخب النثقفين، بل ومطلوب منها أن تكون أكثر تأثيرا في صناعة القرار وتوجيه الرأي العام وممارسة دور الرقيب تجاه مؤسسات هذا المكون السياسية والدينية والسياسية، إن لم يكن متاحا لها، ولأسباب ذاتية وموضوعية أوردنا بعضها أعلاه، أن تمارس هذا الدور على صعيد البلد كله، فضلا عن أن الأوضاع العامة وما تشهده من جملة من التشعبات والتقاطعات يمكن أن تحدد حرية الرأي والعتبير بحدود معينة لهذا السبب أو ذاك.

والخلاصة، فإن الصحافة السريانية تبقى جزءا مهما من منظومة الصحافة العراقية والإقليمية بل والعالمية أيضا، ورافدا مهما من الروافد النابعة من بحر من الحضارة العريقة ذات اللغة والثقافة التي أغنت الإنسانية في مختلف المجالات. والحاجة إلى التطوير والتأثير تبقى قائمة، لكن.. بحسب الممكن والمتوفر والمعطيات بمختلف أشكالها.