تنجيملوجيا

 

   

 

                                                

                                                   جورجينا بهنام

              شهدت السنوات الأخيرة تقدما واسعا في مجالي العلوم والتكنولوجيا لم تشهدهما طوال قرون مضت، ورغم أن الثورة الصناعية قد بدأت مع نهايات القرن الثامن عشر، الا أن القرن العشرين كان قرن الاختراعات والاكتشافات العلمية المهمة دون منازع، سيما بعدما طوى نصفه الأول، إذ شهد النصف الثاني منه تطورا فاق كل ما عرفته الإنسانية خلال قرون، كظهور الحواسيب بأنواعها ودخولها في كافة مجالات الحياة، وباتت الكثير من الآلات تعمل بسيطرة حاسوبية من مصانع السيارات إلى مصانع البسكويت، دون أن نغفل أثر  التقدم العلمي في مجال البحوث العلمية في الفضاء ودراسة الكواكب المعروفة فضلا عن اكتشاف أخرى لم تكن معلومة لدينا في السابق. وغير ذلك الكثير الذي يطول شرحه ولا مجال هنا لإيراده كاملا.

ومن مظاهر التقدم العلمي الأوسع أثرا، ظهور الشبكة العنكبوتية (الانترنت) لتربط بخيوطها أقطاب العالم الأربعة ولتؤكد لنا حقيقة واقعة هي أن العالم بات قرية صغيرة. ودَعنا لا نغفل البث الفضائي وأثره في وضع العالم بكامله بين يدي المتلقي وهو جالس في بيته يتابع أحداث العالم وأخبار الأصقاع البعيدة، فينقل إليه خبر اختراع من اليابان واكتشاف من الفضاء و تطوير هاتف ذكي من الولايات المتحدة الأمريكية ويسمعه احدث كونشيرتو موسيقي يقام في ايطاليا وغيرها الكثير من أخبار العلم والفن والأدب والاختراعات دون أن يغفل أخبار الزلازل والفيضانات والبراكين والكوارث من هنا وهناك، ولا يهمل أخبار الثورات والانتفاضات وصعود وسقوط الأنظمة بين الربيع والخريف وصولا إلى الشتاء. كل ذلك تضعه التقنية الجديدة بين أيدينا. ولكن السؤال هو: كيف يتعامل المستخدم مع كل هذه الاختراعات والتقنيات ووسائل الاتصال والتواصل؟

فقد إزداد في السنوات الأخيرة، وبشكل انفجاري، عدد القنوات الفضائية، العراقية منها والعربية، ومع تضاعفها وانشطارها وتوالدها وتكاثرها بشتى السبل، غطت كل احتياجات المشاهد وفاضت وغمرت الأثير حتى غرق بساعات طوال من البث اليومي الممتد على مدى الساعات الـ(24).

وما أريد الحديث عنه هو: كيف نتعامل نحن مع تقنيات لم نتعب في اختراعها ومع أجهزة لم تكن من منجزاتنا بل وصلتنا جاهزة (مسلفنة) وما علينا سوى الاستفادة منها؟

المفاجأة غير السارة أننا نسخـِّر تكنولوجيا في قمة هرم الحداثة والتقدم العلمي لأغراض عجيبة غريبة، إذ تشغل معظم وقت كثير من القنوات الفضائية، إعلانات لها أول وليس لها آخر، وإن كانت هي مصدر تمويل مهم دونه لن تستمر أي من تلك القنوات الفارغة من المعنى، وتفقد أسباب استمرارها الواهية، ولكن هل يعقل أن يكون شريط الإعلانات مستنسخا من قناة لأخرى، ينقلنا مابين إعلان عن الأجهزة المنزلية وآخر للطبية حتى ينتهي بنا المطاف عند الأبراج، فإن أردت أن تعرف عن صحتك، او عن العمل وكذا عن الزواج والارتباط والأوقات المناسبة لعقد الصفقات والسفرات والرحلات وسوى ذلك مما يثير الحفيظة حد السخرية.....فعليك ببرامج الأبراج والفلك والتنجيم، إن صح التعبير، التي تحتل مساحة جيدة على خريطة برامج معظم القنوات الفضائية، حتى الرصينة منها لا تخلو من فقرة صباحية تعطيك الزوادة اليومية لتباشر يومك وأنت مطمئن إلى نجومك وكواكبك أنها في المواقع السليمة، وان طالعك في برج صاعد، وان التوفيق سيكون من نصيبك حين تعمل في ساعات الحظ الأوفر ضمن أيام سعدك بالتأكيد، لتخمل في سواها التي تتوفر فيها فرص للتوتر والصراع  والمشاحنات. وإن كنت اشد تعلقا ومتابعة، فعليك بالبرامج الأسبوعية فهي تعطيك ما يشفي غليلك ويروي ضمأك من التوقعات الوافية الكافية لجميع أيام الأسبوع لتكون في مأمن من الشرور والمعاكسات.

ولو اقتصر الأمر على الأبراج لربما هان، لكن الدائرة اتسعت إلى أخرى تفسر الأحلام، او تنبئك بطالعك حسب اسمك واسم أمك، وأخرى بأوراق التاروت و أخرى وأخرى حتى تصل إلى إعلان على شاشة التلفاز يظهر فيه شيخ ذو وجه سمح، مستعد للإجابة على اتصالاتكم واستفساراتكم على مدى الـ(24) ساعة يوميا، سبعة أيام في الأسبوع، لتحصلوا على الرقية الشرعية، فك السحر والربط، إخراج الجن وسواها، فضلا عن استشارية التجميل والموضة والأناقة المستعدة كذلك لتكون مع المتصلين طوال ساعات اليوم وتؤكد أنها ستجيب بنفسها، لتساعد المتصلة على حل مشاكل البشرة والشعر والأظافر، على مدار الساعة، عجبا الا ينام ذلك المنجم او تلك العرافة وسواهم؟ فهاهم يؤكدون مرارا أنهم سيجيبون على كل الاتصالات بشكل شخصي!! إتصلوا بنا أرسلوا SMS او زوروا صفحتنا على الفيسبوك وتويتر او على البلاك بيري... حتى شركات المحمول باتت مستعدة لترسل إليك حظك اليومي حسب برجك برسالة قصيرة وأشياء أخرى كثيرة. كل وسائل التواصل الحديثة من انترنت إلى الهواتف النقالة والبث الفضائي أيضا كلها تخدم ذات الغرض.

مع تطور العلم واتساع رقعة استخدام التكنولوجيا، ساد اعتقاد أنها ستكون وسيلة مهمة في التركيز على البحث العلمي وتأكيد الحقائق العلمية والثوابت المنطقية، لتساعد البشرية جمعاء على تخطي تبعات الفترات المظلمة التي ساد فيها السحر والشعوذة والتنجيم والتبصير بالمستقبل المجهول، فالإنسان عدو ما يجهل، لكن كل هذا التطور العلمي والتقدم في جميع مجالات الحياة المعاصرة لم ينجح في أن يجلب لكثير من البشر سوى مزيد من التوتر والقلق إزاء المستقبل الذي ما زال مجهولا، حتى نجح آخرون في تسخير التكنولوجيا الحديثة لخدمة أفكار كنا نظن أن الزمن قد عفا عليها، لتصبح وسائل الإعلام والتواصل ذات التقنية الحديثة مجالا تروّج فيه بضاعتها. ليتأكد، لمن كان يشك، أن العلم لم يعد قاصرا على مجال بعينه وهنيئا لمن نجح في تسخيره لخدمة البشرية!.