طعنتا سُمّيل . . في خاصرة العراق وظهر الآشوريين

 

   

 

                                              

                                                   سعدي المالح

 

يحزّ في نفسي، كلما مرت ذكرى مذبحة سميل 1933، التي راح ضحيتها عدة آلاف من الآشوريين، عدم تفهّم العراقيين، بمسؤوليهم وسياسييهم ومثقفيهم، آنذاك، لمطالب هؤلاء الناس المقهورين الباحثين عن بصيص أمل في الاستقرار بأرض أجدادهم، وكأنَّ المأساة الفظيعة التي عانوها من قتل وتشريد في مسيرة طويلة وشاقة من هكاري ووان وتشيرناخ (تركيا) إلى أورميا فهمدان (إيران) فبعقوبة (العراق) لم تكن ماثلة في أذهانهم، ولا أخبار الفظائع التي اقترفت بحقهم في ديرَبون وسمّيل وأكثر من ستين قرية أخرى، وإن كان المحرض الرئيس لتلك الأحداث الإعلام الرسمي والشعبي الذي قاد حملة منظمة ضد الآشوريين للنيل منهم وتشويه سمعتهم. أقول ذلك مستشهدا بيوسف مالك الذي عاصر الأحداث وكتب عنها كتابه الشهير (الخيانة البريطانية للآشوريين)، الذي يؤكد فيه "أن في الأسبوعين الأولين من تموز 1933 فقط كتبت 80 مقالة ضد الآشوريين جميعها تُعدّهم مرتزقة وجواسيس وعملاء الاستعمار والإمبريالية وتطالب بالقضاء عليهم وإفنائهم". وشخّص في الكتاب نفسه، أنه خلال شهر آب من العام نفسه، قبيل وأثناء وبعد المذبحة، نشرت الصحافة العراقية أكثر من 230 عمودا صفحيا ومقالة مهينة، كلّها تدعو إلى تخليص البلاد من "الملحدين والمتمردين" الآشوريين. واعتبر كاتب آخر وهو إبراهيم العلاف أن ما كتبته الصحافة العراقية في هذا الموضوع كان حدثا مهما من أحداث عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني وأضاف" فطفحت أنهر الجرائد بالمقالات الحماسية والتنديد بما أسمتهم الضيوف الثقلاء (من الآثوريين) الذين أحسن العراق قبولهم وخصص لهم من أراضيه، وأغدق عليهم، فقابلوه بحركة تمرد وعصيان حاولوا فيها أن ينالوا من استقلاله ويثلموا سيادته ويشوهوا سمعته".

والغريب أن أحداً من أحزاب ذلك الوقت، أو الصحف والمجلات، وحتى تلك التي كان يمتلكها بعض المسيحيين، لم يختلف بالرأي عن الرأي الرسمي الحكومي. جماعة الأهالي الليبرالية التي كانت تدعي الديمقراطية وتتبنى بعض الأفكار اليسارية وتضم أسماء بارزة مثل عزيز شريف وحسين جميل ومحمد حديد ويراسلها من البصرة والناصرية يوسف سلمان يوسف (فهد) انقادت مع رأي الحكومة وراحت جريدتها تدبج المقالات المعادية للآشوريين وانتفاضتهم. الكتاب والمؤرخون القوميون أمثال ساطع الحصري وعبد الرزاق الحسني وعبد الرحمن البزاز وغيرهم نكروا أصل الآشوريين وعدّوهم غرباء جاؤوا من تركيا، بينما في الحقيقة أن منطقة حكاري التي اضطر الآشوريون الهجرة منها كانت جزءا من ولاية الموصل قطعت عنها بعد إلحاق الموصل بالعراق. في ظل هذه الأجواء، لم يتجرأ آنذاك حتى الشاعر الشاب التائق إلى الحرية محمد مهدي الجواهري وشاعر العراق الأكبر منه سناً جميل صدقي الزهاوي أن يكتبا سطرا عن هذه المأساة، بينما راح زميلهما معروف الرصافي يلقي الخطب المعادية لهؤلاء المقهورين في البرلمان ويكتب ضدهم القصائد الحماسية، ويفتخر بجزّ نواصيهم:

وقد علِمَتْ بنو آثور أنا/ أوّلو بأس يعرقب كل ناز

فنحن بسيفك الماضي جززنا/ نواصي جمعهم أي اجتزاز

ثم في قصيدة أخرى عن الفلوجة يصف الآشوريين بـ "الذئاب التي عاثت فيها عيثة تحمل الشنار".

الجواهري استوعب نتائج هذه المذبحة فيما بعد، وتفهم اسبابها ومقدماتها، فعاد في سنوات لاحقة، في الثمانينيات، وأدان في مذكراته قتلة الآشوريين تحت ستار "الوطنية المتطرفة" واعتبرهم "دمويين تجاوزوا الحدود".

بينما على مبعدة مئات الآلاف من الكيلومترات، في الولايات المتحدة، كتب وليم سارويان الروائي الأمريكي، الأرمني الأصل، في العام نفسه، قصته القصيرة (سبعون ألف آشوري) يدين فيها تلك المجزرة، ويعبر فيها عن الألم النفسي للإنسان الآشوري وتبدد آماله، ثم اختار هذا العنوان ليكون عنوانا لمجموعته القصصية التي صدرت في 1934.

للآن لم تُعطَ مذبحة سميل حقها من الدراسة والتقييم عراقيا وعالميا. كتابان فقط أنصفا هذه الأحداث في حينه وهما لشاهدَي عيان؛كتاب يوسف مالك عن (الخيانة البريطانية للآشوريين) وكتاب الضابط البريطاني رونالد ستارفورد (مأساة الآشوريين)، الذي ترجمه جرجيس فتح الله وكتب من خلاله دراسة منصفة عن تلك الأحداث في الجزء الرابع من (نظرات في القومية العربية، مدا وجزراً حتى العام 1970). أما حديثاً، فلا بد من الإشارة إلى كتاب مهم لعبد المجيد حسيب القيسي صدر تحت عنوان (التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق) والفصل الخاص بأحداث سميل في (تأريخ الحركة الوطنية العراقية) لعبد الغني الملاح الذي يعتبر الآشوريين جزءا من الحركة الديمقراطية في العراق، وكتاب سليم مطر (الذات الجريحة) وبعض كتابات أبرم شبيرا وكمال مظهر ومحمد البندر وغسان عطية وبعض المقالات المتفرقة هنا وهناك.

سأقتصر هنا على الحديث عن طعنتين عميقتين لهذه المذبحة؛ أولاهما في خاصرة العراق برمته، وهي سياسية والثانية في ظهر الآشوريين وهي اجتماعية نفسية.

أما بالنسبة للعراق فقد كانت هذه المذبحة أول إبادة جماعية في تاريخه الحديث، وقد مهدت هذه الإبادة الجماعية التي حظيت بتأييد رسمي وشعبي، وعُدّ مرتكبوها أبطالا، لإبادات جماعية أخرى وقمع مسلح لانتفاضات وحركات تمرد وعصيان شعبي، بدءا من ضرب الجيش العراقي انتفاضة أبناء عشائر الظوالم والحجامه في العارضيات شمال الرميثة، وفي ادبيس جنوبها، بعد سنوات قليلة من المذبحة، مرورا بانقلاب بكر صدقي 1936 والفرهود ضد اليهود، وفيما بعد تهجيرهم، وقمع انتفاضة البارزانيين في 1945 وكاورباغي 1946 ووثبة كانون 1948 والانتفاضات الفلاحية في 1952 و1954، ثم الانقلابات الدموية المتعددة التي شهدها العراق ومذبحة صوريا 1968 وصولا إلى الأنفال في 1988 ـ 1989 ضد الشعب الكردي وقمع انتفاضة الشيعة في الجنوب عام 1991.

فضلا عن ذلك، كان لهذه المذبحة والحملات الإعلامية التي رافقتها، دور كبير في إذكاء الروح الطائفية والتمييز الديني والقومي ومعاداة جزء أصيل من أبناء الشعب العراقي.

وأما التأثير الاجتماعي النفسي لهذه المذبحة على الآشوريين فكان عميقا وأحدث شرخا كبيرا في نفوسهم، فقد تبددت آمالهم القومية والسياسية منذ ذلك الوقت، إذ لم يقم لهم حزب سياسي في العراق إلا بعد عقود، وتشتتوا في البداية بين سوريا والعراق والولايات المتحدة ثم في دول العالم أجمع، فعاش البطريرك مار شمعون منفيا في قبرص حتى 1948 ثم هاجر مع مجموعة من أتباعه إلى الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين ترك مقر كنيسة المشرق الآشورية أرض الآباء والأجداد، وتشتت الآشوريون بين استراليا وأمريكا ونيوزيلندا وكندا وعدد من الدول الأوربية، حتى قال الشاعر الآشوري المعروف آدم هومه:

غرباء في هذا العالم

مثل القمر الطالع فوق المدن الكبرى

يسلمنا الرحم إلى الريح

والريح إلى التيه

والتيه إلى القبر

أما من تبقى منهم في العراق فقد تحمل التمييز الديني والقومي والنظرة الدونية التي تركتها أحداث سميل تجاههم، إذ عُدّوا خونة ومجرمين بحق الشعب والوطن ولسنين طوال، وحرموا من الكثير من الوظائف العامة كالشرطة والجيش والطيران والإدارة والداخلية، والأهم من كل ذلك حرموا من الجنسية العراقية لعقود وترتبت على ذلك تبعات سياسية وقانونية سلبية.

ولجت أحداث سميل وجدان الإنسان الآشوري المعاصر، وتركت بصماتها على عدد من الأجيال، وجسد المبدعون مآسيها في نتاجاتهم الإبداعية المختلفة، فنظمت عنها العديد من القصائد وكتبت القصص والروايات ومثلت مسرحيات وألفت الأغاني والمقطوعات الموسيقية ورسمت اللوحات التشكيلية، وهي نتاجات تستدعي الدراسة المعمقة.

وستظل صدى هذه الأحداث، على الرغم من مرور ثمانين عاما عليها، تتردد في ذاكرة الآشوري مثل صدى نواقيس أغنية سُمّيل للفنان شليمون بيت شموئيل المرافقة لصوته الحزين:

اصرخوا، إننا نذبح في سميلي

النجدة، إننا نذبح

وإننا نذبح اليوم في العراق. وعينا ذلك الطفل الآشوري من سُمّيل تحدقان جاحظتين من لوحة الرسام حنا الحائك في هذا العالم الساكت على كل هذا.